إن ما يحصل في العراق غير مفهوم أبدا، لقد تابعت بشغف كاد أن يكون مرضا- العديد من الصحف الأمريكية ومراكز الدراسات وحسابات تويترية وهمية وغير وهمية في محاولة لمعرفة ما الذي يحدث هناك، واكتشفت خلال هذه المتابعة تضاربا في الأخبار وعدم دقة في البحث وتناقلا غير موثق وصورا مزورة ومقاطع فيديو مفبركة وقديمة أعيد نشرها والتعليق عليها لتخدم وجهة نظر ناشرها، وشاركت في هذه المهزلة وسائل إعلام رسمية وغير رسمية، وأصبحت هذه بدورها تسرق من الإنترنت بدون أن تتأكد، فهي أيضاً تريد أن تربح في سوق الأخبار كما يفعل غيرها، فقد اختفى المراسلون فجأة وكأنهم هناك فقط لنقل أخبار نوري المالكي وحاشيته وبرلمانه وشيء قليل من معارضته إن توفر لهم الأمن والأمان وحصلوا على بدلات تكاد تعادل ما يأخذه أعضاء حكومة المالكي.
خلال هذه الحفلة التي دعي لها الجميع عدا الإعلاميين تذكرت زميلنا تيسير علوني حين كان في أفغانستان ينقل أخبار ما يحدث على الأرض بعد أن انسحبت قوات طالبان تاركة كابل لقدرها، ولم تجد العراق "تيسيرا" آخر ينقل تفاصيل انتفاضتها، فبقيت ثورتها مبهمة يحيط بها الظلام من كل جانب وكأن هذا هو حظ بغداد من العرب، تموت بمباركتهم وتحيا بغيابهم.
خرج أبوبكر البغدادي من سجن بوكا ملوحا لسجانيه بيده قائلا لهم: أراكم في نيويورك.
لم يكن سجانوه يعرفون ما الذي يدور في رأسه، ولكنهم ابتسموا له بدورهم وهم يرون هذا الشاب الذي خرج من زنزانته هزيلا مكسورا محطم النفس، معتقدين أنه سيبحث له عن زاوية يعيش فيها بعد أن ذاق الأمرين في معتقل افتخروا بتسميته على اسم إحدى ضحايا 11 سبتمبر، فهم جاءوا للثأر أيضاً كما جاءت إيران من أجل ثأر قديم لم يفارق وعيها منذ معركة القادسية، فابتدع دهاقنة الفرس حينها دينا يبقي أتباعه واقفين على أطراف أصابعهم استعدادا لمعركة تزيل أعداءهم وتمحق جيرانهم، يرمى حطبها في عقول أتباعها في كل مناسبة لطم أو ذكرى وفاة أو ولادة، فتتحول الحسينيات إلى محاضن لغسل الدماغ والاستعداد ليوم الثأر.
إذن لقد أصبحت العراق نقطة التقاء أصحاب الثأرات، ثأرات الحسين وثأرات بوكا متناسين أن العرب السنة في العراق ليس لهم دور في مقتل ريحانة الجنة الأول ولا في مقتل السيد بوكا في نيويورك، ولكن نوري المالكي بقى يذكر شركاءه السنة بدورهم في مقتل الحسين في كل خطبه وفي كل مناسبة، وكأن الحسين قتل في الرمادي أو في الفلوجة أو الموصل، ولكنه الحقد الأعمى الذي تغلغل إلى تجاويف العقول فأحالها عمياء صماء عن رؤية الحق والإنصات له.
منذ أن خرجت
داعش إلى العلن وهي في صراع مع محيطها، صراع غير واقعي، فهي تشعر أنها تملك الأرض والبشر حين ترفع علمها على جغرافية تعلنها لها، فقد أثخنت في كتائب المقاومة السورية كما أثخنت في جيش بشار وشبيحته، وخطب البغدادي تحوي الكثير من المعلومات التي جمعت له، ولكنه يصل إلى نتائج غير واقعية لها، فصحة المعلومات لا تعني صحة النتائج بالضرورة، فمعاداة النظام السوري لا تعني إبعاد كتائب المقاومة الأخرى عن الساحة.
سنتغاضى عن عيوب داعش لبعض الوقت الآن، فهم الذين أشعلوا الثورة في العراق، ولهم الفضل في ذلك، ولكننا سنبقى نتابع نتائج هذه الثورة متمنين أن تشعر قيادة داعش أنها تعمل مع فصائل أخرى قد لا تتوافق مع رؤيتها وتصرفاتها، مع أنني لاحظت أن بيانات فصيل عراقي مهم قد بدأ يتغير بعد أن شعر أن داعش تريد الأرض ومن عليها تحت يدها ورهن إشارتها، مملية على ساكني الجغرافيا التي تحتها شكل اللباس والعبادة والتفكير.
الدارس لتاريخ الثورات يرى أمرا غريبا، فكل الثورات التي حدثت في التاريخ تحمل أيدلوجية الفصيل الأكبر، ثم يتشظى هذا الفصيل ليدخل في صراعات مع ذاته ومع الآخرين، ثم يعاد تشكيل هذه الجبهات لتتصارع حتى تصل إلى نتيجة واحدة: نحن شعب واحد، ولابد أن نتعايش بما يرضي الجميع، ثم تكون دولة المواطنة، وتصبح الثورة وأحداثها وصراعاتها وضحاياها تاريخا، يدرس أحيانا، وينسى أحيانا كثيرة.
لن أنسى ما قاله لي سياسي عراقي كان عضوا في البرلمان، فقد اتصلت به من عدة سنوات أسأله عن حاله بعد صراع سياسي غير متكافئ مع رئيس الوزراء: "سنتصارع لسنوات طوال، ثم سيعرف الجميع أن الصراع لن ينتهي، وحين نصل جميعا إلى هذه النتيجة سيكون
الحل قريبا".