تعيش الساحة الأدبية والشعرية بموريتانيا، منذ فترة حالة انقسام واضحة في صفوف الشعراء والأدباء، بسبب تباين مواقف النقاد الموريتانيين بهذا الخصوص، وذلك بعد أن وجهت تهم لبعض الأدباء الموريتانيين بالدفع بالشعر الموريتاني نحو متاهة
الغموض والحداثة.
وتنقسم الساحة الأدبية في
موريتانيا حاليا بين رأيين، رأي محافظ يعتبر أن
الشعر الحديث يجب أن يتجنب الإيغال في الرمزية واللجوء إلى لغة التمويه، والهروب إلى الارتكاس، والسباحة في بحر من الغموض، لأن الشعر هو تجربة شعورية يمكن التعاطي معها، وفهمها من طرف المتلقي، ولو كان غير مختص.
ومقابل هذا الرأي برز أدباء وشعراء آخرون، يعتبرون هذه المقاربة تنتمي لعهد وفهم للأدب ولى، وأن الأدب الجديد مفهوم وجميل، وأن القصيدة الجديدة هي تعبير عن العصر الجديد بتعقيداته الاجتماعية والفلسفية والوجودية.
وتعليقا على الصراع النقدي المحتدم بين الأدباء الموريتانيين، فقد اعتبر الشاعر والأديب الدكتور أدي ولد آدب في مقابلة خاصة مع "عربي21" أن النقد ليس
اتهامات يرجم بها فريقٌ فريقاً، ولا سلاحا إيديولوجيا، يُشْتَبَكُ به في سُوح الجِدال والنِّزال، وإنما هو خطاب على خطاب، يصف ويحلل الظاهرة الإبداعية في حد ذاتها، بعيدا عن كل الخلفيات غير الفنية، كما أن الحداثة معطى حضاري وثقافي، ناتج عن سيرورات تاريخية كبرى، تفعل فعلها- قسرا- في كينونة الفرد، والجماعة معا، وهي-وفق هذا التصور- قدر الجميع، مهما تفاوتت نسبها، تبعا لدرجات كسب هؤلاء، وهؤلاء، من ثمرات تلك السيرورات، كثرة، وقلة، وعمقا وسطحية.
وأضاف أن الذي ينغلق دونها مطلقا، يعاند نواميس الكون، ويحكم على تجربته بالإعدام، لأن ضخ الدم الجديد، وتنفس الهواء الجديد، ضروريان لاستمرار دورة الحياة.
وبين أنه "لعلَّ مَرَدَّ أزمة الحداثة يكمن في ما وضعتَ عليه الإصبع، عبر ما وصفتَه بـ "الحداثة الكاذبة"، و"متاهات الغموض"، فالوصف الأول يعني افتعال الحداثة، بدل الانفعال بها، واستيرادها، دون معايشتها، وخوض تجريبها بدل تجربتها، فكل هذه الحيثيات المختلة، ربما ترتب عنها الوصف الثاني، الذي هو الإيغال في "متاهات الغموض"، حتى يتجاوز تكثيف الصور المُحَبَّب، والمُعَبِّر عن عمق في الرؤية، ونضج في الفلسفة، وخصوبة في المخيال، إلى شطحات وهلوسات، غير واعية بذاتها، فهنا يكمن الفرق- حسب نظري- بين الحداثة المرغوبة، و"الحداثة المعطوبة"، كما يسميها- في بعض كتبه- الشاعر المغربي، الدكتور محمد بنيس، أحد أقطابها إبداعا وتنظيرا"، وفق قوله.
الشعر الموريتاني ودعوات التجديد
وقال ولد آدب وهو ناقد أدبي وأكاديمي، إن "الشعر الموريتاني ليس استثناء من الشعر الإنساني عموما، ولا الشعر العربي خصوصا، مضيفا أن لا يوجد أي منتج إنساني أزلي، لا يحتاج التجديد أبدا "بل ربما كان الشعر الموريتاني أحوج إلى التجديد من أغلب أشعار الأقطار العربية الأخرى، لأنه – في عمومه- يرتكن على خلفية ثقافية محظرية، أكثر أصالة وعمقا وصلابة من خلفيات نظرائه من الآداب العربية، نظرا لاختلاف طبيعة التكوين الثقافي والتربوي هنا وهناك، ولكنه رغم كل ذلك لم يعش عزلة عن المؤثرات الثقافية الكبرى، لا قديما ولا حديثا، لأن الإنسان الموريتاني- بفطرته- مطالع نهم، ومنفتح مع تقليدية ذائقته الشعرية المتجذرة، المبصومة بالنموذج الشعري القديم، وهذا ما يجعله يعيش- في ذاته- تقاطبا بين الأصالة والحداثة، فميراثه الثقافي الثقيل يشده للماضي، وحصاد اطلاعه المنفتح يخترق- حتما- جدار التقليدية المضروب على ذائقته، وفي مناخ هذا الجدل الوجودي المحتدم في كينونته، تتم عملية التلقي الإبداعي والنقدي للأدب عموما، والشعر خصوصاً، ويبقى التفاعل بين الاتجاهين صحيا، ما لم يغل المتعصب للتقليدية لدرجة الانغلاق، ويسرف المتعصب للحداثة لدرجة القطيعة".
وأضاف، أن أخطر ما في الاتجاهين، هو اختزال المفهومين، في بعدهما الشكلي البحت، وإفراغهما من روحي الأصالة والتجديد، اللتين تتكاملان ولا تتناقضان، وذلك ما لن يتحقق إلا بتوازن الروافد المعرفية في تكوين الأجيال ثقافيا، عبر عملية تربوية واعية بأهدافها، ومنهج علمي وأكاديمي حصيف، وبنَّاء. يستظل بهوية "أصلها ثابت، وفرعها في السماء".
وخلص ولد آدب في حديثه الخاص لـ"عربي21"، إلى أن "المهم - في نظري- ليس هو الجدل العقيم بين شعر قديم، أو حديث، أو عمودي، أو حر، فكل هذه المصطلحات، اختلاقات شكلانية - في غالبها- عديمة الكفاءة الوصفية، إنما المهم هو أن يكون الشعر متصفا بالحرارة الإبداعية التي كاد يقضي عليها التجريب والافتعال والتقليد، هنا وهناك، بدل التجربة والانفعال والتعبير، مشيرا إلى أن "الشعر الحار الذي أنادي به يخترق كل جدر التصنفات الجوفاء، ويتحقق أينما تحققت الشعرية ذاتها، لأنه رديفها".
يشار إلى أنه أقيمت مؤخرا في العاصمة نواكشوط، جلسة أدبية نظمها اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين، وذلك لتقييم أداء الشاعر والروائي الموريتاني المختار السالم.
وقد تحولت الأمسية إلى صراع نقدي حاد بين الأدباء وصلت حد الاتهام بالقصور الأدبي والنقدي، والاتهام بالمقابل بالانجرار وراء سراب التغريب.
كما أنها لم تخل الأمسية من ملاسنات بين الأدباء، حيث قال الأديب عبد الله السالم ولد المعلى إن البلد خسر شعراء بارزين تفرغوا للألغاز والأحاجي ظنا منهم أنهم سيلعبون بعقل وذائقة الجمهور، منتقدا أسلوبهم في ذلك، غير أن أدباء آخرين انتقدوا بشدة هذا التصريح، ووصفوا ولد المعلى بالانتماء لشعراء القرن الماضي.