ذكرني عبد الفتاح
السيسي، بزميلي " الصحفي
الدولي"، وهو يقيم مهرجاناً دولياً بمناسبة تنصيبه رئيساً، دعا إليه العرب العاربة، والمستعربة، والفرنجة، وكان التمثيل منخفضاً، لكن ذلك لم يسحب منه صفة "الدولية"!.
مصر، سبق لها أن شهدت تجارب صحفية جديدة، تتمثل في الحصول على تراخيص من دول بعينها كقبرص، بثمن بخس، ولأن أصحاب هذه الصحف كانوا في الأغلب غير صحفيين، فقد كانوا يتفاخرون عندما يضيفون صفة "الدولية" إلى اسم الصحيفة، وبعضهم كان يضيف صفة "العالمية". وحدث أن قام أحد الصحفيين عبر "المعارف" في مصلحة الأحوال المدنية، بأن دونوا له في خانة المهنة "صحفي دولي" في بطاقته، وجاء لخبرني بأنه " صحفي دولي"، ويؤكد قائلاً: "والله أخوك صار صحفياً دولياً".
وذلك قبل أن يطلعني علي البطاقة. وشعرت بالامتنان له فبرغم كونه ترقى وظيفياً وصار "صحفياً دولياً" إلا أنه حرص على أن يستمر في صداقة " صحفي محلي" مثلي.. أصيل يا زميل.
فلدى فريق من الناس في بلدي، غرام بصفة " الدولية"، و"العالمية" وما شابه ذلك، وبدا واضحا أن عبد الفتاح السيسي واحد من هؤلاء. وفي العادة فإن الحصول على الصفة يكون من قبل أناس مطعون في صفتهم المهنية، وفي قيمة مطبوعاتهم، فيظنون أن باستدعاء " الدولية" في الاسم من شأنه أن يغطي على القصور هنا وهناك.. وكذلك فعل السيسي.
لقد كان حفل تنصيبه مهرجاناً، دعي إليه الحكام من كل أصقاع الأرض، ومن على ظهر البسيطة، ليشهدوا منافع لهم، وبعضهم ربما جاء من أجل وجبة العشاء، وأمثال هؤلاء في الأفراح لا يمثل حضورهم قيمة مضافة، لكنهم مع ذلك يحرصون على الحضور، ويتم السخرية منهم غمزاً ولمزاً، وإذا كان عبد الفتاح السيسي بدا حريصاً، علي الإفراط في الحديث مع ممثلي دول الخليج، فإنه كان يسحب ممثلي الدول الأفريقية من أيديهم إذا قام أحدهم بالحديث معه للخروج من قاعة القصر الرئاسي. فليس لديه وقت يضيعه معهم. وغالباً ما تكون اللغة غير مفهومة له، لكنه كان ينصت أيضاً للفرنجة مع أنه لا يعرف ما يقولون فيرد بكلمات عربية على عبارات أعجمية.
السيسي بدأ مراسم احتفالاته بتأدية القسم في المحكمة الدستورية، ثم من هناك ذهب للقاء الوفود الأجنبية في قصر الاتحادية، وليشهدوا توقيع وثيقة تسلم السلطة من المستشار عدلي منصور. وفي المساء كانت حفلة قصر القبة. وفي المرات الثلاث كان منصور حاضراً كأم العروس، ليتفاخر به السيسي أمام الناس!.
المشهد التمثيلي كان للتأكيد على أن مصر تقف في لحظة تاريخية غير مسبوقة، يسلم فيها رئيس رئيساً السلطة، وكأن عدلي منصور كان رئيساً. وكأنه لم يعين من قبل وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي نفسه. وكأن له شعبية تمكنه من التراجع عن تسليم السلطة. وكأنه جاء بالانتخاب الحر المباشر، أو حتى كأن هو من انقلب ليحكم. وليس مجرد مستدعي لمهمة، وباعتباره ممرا أمانا للسيسي لكرسي الحكم.
بعيداً عن أعمال الفهلوة، والتسليم والتسلم، والتوقيع على الوثيقة في حضور دولي، فقد مرت مصر بتجربة سابقة، سلم فيها الرئيس المؤقت الرئيس المنتخب السلطة في هدوء، وبدون تململ، وفي أوضاع دستورية مستقرة، ولم يكن الرئيس المستلم سبباً في أن يكون الرئيس المغادر في موقعه. مثل العلاقة التي تربط السيسي بعدلي منصور.
الواقعة جرت عقب اغتيال الرئيس السادات في سنة 1981، وكان الدستور حينئذ ينص على أنه في حال خلو موقع رئيس الجمهورية، فإن رئيس مجلس الشعب يصبح رئيساً لمدة شهرين، ولحين اختيار رئيس بالانتخاب. وعليه تولي الدكتور صوفي أبو طالب منصب رئيس الدولة. وقد ارتكب الرجل خطأ غير مقصود ذات يوم فحلت عليه اللعنة، وكان ما جرى له درساً لمن في حكمه.
صوفي أبو طالب كان يستعد للخروج من القصر الرئاسي في اليوم الأول له في الحكم فسأل عن "الموكب"، فظن من بيدهم "عقدة النكاح" أنه يسأل عن "موكب" رئيس الجمهورية، وقال هو بعد ذلك أنه كان يقصد " موكب" رئيس مجلس الشعب، فسحبت منه سيارات البرلمان وسيارة الرئاسة، وأعطوه سيارة متواضعة للغاية "فيات 28"، ليعرف حدوده الطبيعية، ومقامه الحقيقي.
وعندما جرت الانتخابات الرئاسية، لم نسمع أن صوفي أبي طالب تباطأ في عملية التسليم، ولم يكن بمقدوره ذلك. ولا أظن أن الحديث عن واقعة تسليم عدلي منصور وهو "المؤقت بالتعيين" باعتبار ذلك أمراً غير مسبوق في التاريخ المصري، إلا جهلاً من الطغمة الحاكمة بسابقة صوفي أبو طالب ومبارك. لأنهم حديثو عهد بالسياسة.
واعتقد أن كلا التجربتين لا تصلحان مبرراً للزفة الكاذبة التي نصبت، فالمشهد الحضاري لا يكون بتسليم رئيس معين للسلطة إلى من عينه، ولكن بتنازل الرئيس المنتخب سابقاً لمن انتخبه الشعب بعد ذلك. وهي بعيدة كل البعد عن تجربة مبارك وصحبه، والسيسي المنقلب على رئيسه المنتخب والمعين من قبله.
ما علينا، فأجواء الفرح المفتعلة، واستدعاء "الدولية" لفرح بلدي، هو أمر في الواقع للتغطية على "الشرعية المنقوصة" بشرعية عالمية.
فالسيسي انقلب على الرئيس محمد مرسي بقوة السلاح، وسعى لافتعال أجواء ديمقراطية بانتخابات قاطعها الشعب المصري وفي القلب منه الشباب، وكانت نتيجتها مفاجأة له، وهو يعلم قبل غيره أن الملايين التي أعلنت أنها حضرت هي في الواقع لم تحضر.
فكان البحث عن غطاء دولي للموجة الثانية من انقلابه، ولإضفاء شرعية على زواج تم في " قسم الشرطة"، وهو تصرف يحدث بالغصب وإن بدت أطرافه الحاضرة مضطرة لتمريره. وفي حالتنا، فإن عملية الزواج تمت في قسم البوليس بعد علاقة غير شرعية، والأفراح التي أقيمت هي لأن يظهر أطراف الموضوع أن الأمر طبيعي.
بيد أن الوجوم كان هو سيد الموقف، رغم استدعاء البهجة، وكان أكثر الناس وجوماً هم أسرة عبد الفتاح السيسي، رغم أنهم صاروا أبناء رئيس الجمهورية وأسرته، ولعلهم يندمون علي لحظة كانت للسلطة فيها معنى، وأن لها لحلاوة، لأنها اجتمعت مع " راحة البال". والأب مدير للمخابرات الحربية، ووزير للدفاع.
الآن هم لا يرون إلا شخصاً خائفاً، يمنح الشعب كله إجازة ليتمكن من الذهاب إلى المحكمة الدستورية ليؤدي اليمين، مع أنه ذهب في طائرة، وليس سيراً علي الأقدام أو في سيارة. وهو إجراء لا يتسق مع الدعاية بان 34 مليون مصري قد أخرجوا في 30 يونيه ليطالبوه بإسقاط حكم الرئيس مرسي، أو لتفويضه لقتل الخصوم السياسيين. وليتسق مع القول بأن هناك 25 مليون مصري خرجوا في "عز الحر" لانتخابه.
مرسي حصل على نصف هذا الرقم، ومع هذا فإن موكبه للمحكمة الدستورية كان لا يليق بمحافظ القاهرة، فكان موكباً من أربع سيارات تسير وسط مركبات المواطنين في الشوارع، فلم يغلق طريق حتى مروره ولم توقف إشارة.
ومرسي الذي نجح بـ 52 في المائة من أصوات الذين أدلوا بأصواتهم ذهب لميدان التحرير خطيباً وفاتحاً صدره لجمهوره، وكان والحرب ضده مشتعلة ويقودها رجال أعمال وأجهزة مخابرات يذهب ليصلي الفجر في المسجد، وأحياناً يفاجئه وزير الدفاع عبد الفتاح السيسي بأنه في جواره أيام سعيه لإثبات الولاء، فما كان الرئيس خائفاً وما كان الوزير يتوجس خيفة من الاغتيال.
كانت شرعية الرئيس محمد مرسي محققة بانتخابات، شهد العالم كله بنزاهتها، فلم يكن بالتالي بحاجة إلى حضور العالم في مهرجان دولي لتأكيد ما لا يحتاج إلى تأكيد، فكانت الاحتفالات مصرية خالصة. وعندما ذهب لجامعة القاهرة للتغطية علي تصرف كان متململا منه وهو القسم أمام قضاة المحكمة الدستورية العليا كما ينص الإعلان الدستوري. كنت هناك وكان يوم الهول الأكبر اختلط فيه الحابل بالنابل، والمدعون من أمثالي بصفتهم، بمواطنين عاديين كانوا يتصرفون على أنهم أصحاب الفرح، ولم تكن هناك أماكن في القاعة علي اتساعها بالشخصيات الكبرى في البلد بمن في ذلك أعضاء المجلس العسكري الذين حضروا بقيادة طنطاوي ووقفوا فترة طويلة ينتظرون من يمن عليهم بأن يجلسهم مكانه.
لم يكن مرسي بحاجة لإسباغ شرعية "دولية" علي وضعه، لكن السيسي بحاجة إلى ذلك، لكنه مع ذلك لم يكن سعيداً، ولم تمكنه أجواء العرس الإمبراطوري من أن يفوز بلحظة سعادة.
الفارق ببساطة مرده إلى أن مرسي كان رئيساً منتخباً من قبل الشعب، في حين أن السيسي حصل علي السلطة " غصباً" و"نشلاً"، وتغيير معالم المسروقات لا ينفي أنها مسروقة. ولقد كانت مهنة سرقة الحمير في الذين خلوا من قبل مرتبطة بحرفة أخرى هي " صبغ الحمير" لتغيير لونها. وفي وقائع سرقة كثيرة كانت الحمير المسروقة تفاجئ السارق أو المشتري منه، بالدخول إلى عقر دار صاحبها الحقيقي.
إن أزمة السيسي أنه ظن أن بإمكانه أن ينتقل من الانقلاب العسكري إلى الحكم الدستوري بمجرد "صبغ المسروقات"، وبحضور دولي لافت، لكن مشكلته أنه أيضاً لم يهنأ بالمسروقات.
"موت وخراب ديار" إذن فلا السيسي وفر نفقات شحن وتفريغ الضيوف
الأجانب لمهرجان " التنصيب الدولي"، ولا هو سعد ومن معه بما فعلوا.
"مكتوب عليهم قلة الراحة"