مدينة الأموات في القاهر هي مقبرة قديمة أصبحت على مدى عقود سكنا ليس فقط لمن غادر من الأعزاء ودفن هناك ولكن لأقربائهم الأحياء أيضا. وأصبحت الأضرحة تؤوي بالإضافة للموتى، مليون شخص من أكثر الناس تهميشا في القاهرة.
في هذا المكان ليس غريبا أن تجد أجيالا من العائلة الواحدة غير مسجلين فليس لديهم شهادات ولادة ولا هويات وكثير لا يذهبون للمدرسة فبالنسبة للحكومة هؤلاء ليسوا فقط أمواتا- بل إنهم لم يوجدوا أصلا.
وفي الفترة المؤدية إلى الانتخابات الأولى منذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بحكومة مرسي لم يعد وزير الدفاع السابق عبد الفتاح السيسي بشيء عدا أن المصريين سيواجهون صعوبات أكبر في السنوات القادمة.
وتنتشر صور السيسي في القاهرة في كل مكان من الدكاكين في القاهرة الإسلامية القديمة إلى جسور الشوارع الرئيسية إلى البنايات في وسط المدينة وهي ملصقة على سيارات الأجرة وعلى العربات التي تجرها الحمير وعلى سيارات المرسيدس. وتتراوح الشعارات من "مصر أمي والسيسي أبي" إلى "السيد اليسوع يدعوك لانتخاب السيسي من أجل القضاء على الإخوان المسلمين". (عندما يتم حرق الكنائس من الضروري أن نتذكر هذا الشعار).
وكان من المؤلم رؤية اللافتات عالية فوق ميدان التحرير، مولد الثورة. المكان الذي تجمع فيه المصريون من كل الأصناف وتحدثوا عن التغيير وعن المستقبل الذين يأملون لأطفالهم في مصر الجديدة – مصر التي كانوا يتخيلون معا. مصر محررة من نظام مبارك وبطانته ومحررة من رجال الأعمال الفاسدين ومحررة من تأثير الجيش على الحكومة.
وقد تم تنظيف وتعقيم ميدان التحرير مثل كل الميادين التي ارتكبت فيها المذابح في أنحاء القاهرة ليس فيها أي إشارة للشباب المصريين الذين ضحوا بحياتهم من أجل بلدهم ومن أجل أحلامهم. فهؤلاء أيضا لم يوجدوا أصلا. في منتصف الميدان هناك نصب للشهداء أقامته حكومة الانقلاب المنافقة وقد تم تشويهه في نفس اليوم الذي كشف عنه الستار واليوم هو عبارة عن شاهد لضريح الثورة. فكل القاهرة مقبرة، مدينة موتى جديدة ينظر إليها وجه السيسي باحتقار.
وفي منطقة العباسية المؤيدة للجيش كان هناك مشاهد احتفال خارج عدد من لجان الانتخابات، أما الشباب والشابات الذين قادوا الثورة فكان غيابهم ملحوظا. بينما تواجد الآباء والأجداد الذين يجرون عربات الصغار وشوهدوا يرقصون ويرفعون أيديهم ليظهروا أصابعهم المصبوغة بحبر الانتخاب.
لبسوا قمصانا عليها صور السيسي وغنوا مع الأغاني الحماسية التي تبثها أنظمة الصوت وأصوات أبواق السيارات. وقفوا لأخذ الصور مع الشرطة والجيش الذين كان بعضهم بالتأكيد مسؤولا عن قتل أبناء بلدهم في شارع محمد محمود وميدان العباسية والتحرير ورابعة وصوتوا للرجل الذي دبر قتلهم. ولا أزال أسمع صدى صرخات "يسقط المجلس الأعلى للقوات المسلحة" و "يسقط حكم العسكر" في أعماق قلبي ولكن الأشخاص الذين هتفوا بهذه الصرخات في شوارع القاهرة وفي أنحاء مصر إما أنهم قتلوا أو سجنوا أو أسكتوا بالتهديد.
وتشير النتائج الأولية للانتخابات أن السيسي حصل على حوالي 90% من الأصوات ضد منافسه الوحيد حمدين صباحي الذي لا توجد له لوحة دعاية واحدة على جدار من جدران القاهرة والرجل نفسه غائب عن الأنظار أيضا فهو يعيش في مدينة الأموات الجديدة.
وكانت أعداد الناخبين يوم الاثنين قليلة جدا بحيث أعلن الثلاثاء يوم عطلة وطنية لزيادة أعداد الناخبين وعندما فشل هذا تم تمديد الانتخابات ليوم إضافي. وتوسل مقدمو برامج التلفزيون المدعوم حكوميا، والدمعة في عيون بعضهم، بالشعب أن يخرج وينتخب. ففي عام 2012 قال المسؤولون إن نسبة المصوتين وصلت إلى 50% ممن يحق لهم الانتخاب وانتخبوا الحكومة التي انقلب عليها السيسي. وكان العد الأولي يوم الاثنين أظهر نسبة تصويت 6.5%.
ومن الصعب ادعاء تفويض من الشعب أو حتى إضفاء شرعية على الانتخابات إن لم تتحسن النسبة. وبينما أكتب هذا المقال لا تزال صور لجان الانتخابات الفارغة في أنحاء البلاد تصل إلى شاشتي. وتدور الشاحنات التي تحمل السماعات في الشوارع لدعوة الناس للانتخابات وأغلق (سيتي ستارز مول)، أكبر مولات القاهرة، أمام المتسوقين داعيا إياهم التوجه إلى لجان الانتخاب.
كل هذا لن يمنع المراقبين الغربيين للانتخابات من الإعلان عن انتخابات "نظيفة"، وهذا لن يثني الرئيس الأمريكي باراك أوباما من إعلان السيسي زعيما شرعيا لمصر ومن تجديد التعاون العسكري والذي لم يتوقف أصلا حيث سلمت أمريكا الشهر الماضي عشر طائرات أباتشي لحكومة الانقلاب التي ستستخدمها ضد الشعب المصري في سيناء.
ولن يرفع أي من أعضاء الكونغرس صوته باحتجاج لتذكير الشعب الأمريكي بأن السيسي مثل صدام والقذافي والأسد قتل شعبه ويجب إزالته من السلطة. ولن يقف السيناتور جون ماكين مع المحتجين المطالبين بطرد السيسي، ولن تحمل مساعدة وزير الخارجية فيكتوريا نولاند لهم البسكويت.
منع التظاهر وكان القمع عنيفا وتختلف تقديرات أعداد المعتقلين كثيرا فحسب ويكي ثورة هناك حوالي 41000 معتقل وكثير منهم دون محاكمة أو محاكمات صورية وبعض تلك المحاكم حكمت على المئات بالإعدام خلال دقائق. كما أن هناك صحفيين معتقلين (معظمهم مصريين) لمحاولتهم أخبار العالم بما يحدث في مصر.
وغابت معظم وسائل الإعلام الغربي بعد الانقلاب حيث لم تعد الأحداث جذابة كأحداث الربيع العربي ويبقى الصحفيون المستقلون الأجانب مهددون وغائبون، فيوم الجمعة مثلا قتل ثلاثة محتجين مصريين وجرح واعتقل العشرات في المظاهرات في أنحاء البلاد (والتي لم تنقل أخبارها في الإعلام الغربي)، قتلتهم قوات الشرطة والجيش التي قتلت آلاف المواطنين دون محاسبة منذ الانقلاب في تموز/ يوليو 2013.
و سيعود التعامل مع مصر كأن شيئا لم يحدث وسيشاد بالانتخابات كنجاح ديمقراطي، وسيبقى المصري العادي يعاني من نقص الغذاء والظروف الصحية والبنية التحتية والمدارس السيئة والمستشفيات المتداعية. وسيبقى موظفو الحكومة والأطباء والممرضين والمدرسين يقبضون مبالغ زهيدة مقابل جهدهم. وآخرون سيتزاحمون للعيش. وسيبقى القمع وسيبقى الآلاف في السجون وسيموت المزيد وسيدخل السيسي القصر ويبدل زيه العسكري ببزة رجل أعمال وسيأخذ مكان مبارك على المذود.
دفنت الثورة التي كانت أمل عشرات ملايين المصريين والناس حول العالم.. ولكن الذين يعيشون في مدينة الموتى الجديدة هم موجودون ولا يمكن أن يبقوا مختفين إلى الأبد.