تهدد المواجهات المستمرة بين سكان حي باب التبانة السني وجبل محسن الذي يسكنه العلويون في مدينة
طرابلس شمال
لبنان، السلام الهش الذي يعيشه البلد والذي يعاني من تداعيات الحرب الأهلية في سوريا.
ولا تعد المناوشات مرتبطة فقط بالخلافات الطائفية، لكن التهميش وإهمال الدولة لثاني أكبر مدينة في لبنان هي محفزات أخرى لاستمرار الصراع بين البلدتين.
وسعيا لمواجهة المناوشات العسكرية التي تهدد الحي التجاري والمناطق السكنية، قام الجيش اللبناني والاستخبارات العسكرية بالإشراف على خطة لإعادة الأمن والاستقرار في المدينة والمناطق الأخرى التي تأثرت بالحرب في سورية.
وبحسب صحيفة "ديلي ستار" اللبنانية فإن ثمانية من المسلحين سلموا أنفسهم للسلطات، فيما تواصل المؤسسة القضائية إصدار أوامر اعتقالات ضد مئات من الذين شاركوا في المواجهات، كما قامت النيابة العسكرية بتقديم لائحة اتهامات ضد 10 من باب التبانة الذين قالت إنها شاركوا في المواجهات الأخيرة.
وفي تطور آخر قالت وكالة الأنباء اللبنانية إن المخابرات اللبنانية قامت بمداهمة مخزن في طرابلس وصادرت منه كميات كبيرة من الأسلحة ؛ بما فيها قنابل أر بي جيه ومقذوفات "إنيرجا" وأسلحة خفيفة ومتوسطة، كما زادت السلطات الأمنية من انتشار قواتها على الأرض.
وتعتبر هذه الخطة الأمنية ردا على التنافس والمواجهات بين باب التبانة وجبل محسن. وقد قام عدد من الباحثين التابعين لمنظمة هيومان رايتس ووتش، والباحث في مركز كارنيغي رفائيل ليفييه، بدراسة التأثير الذي تركته الحرب السورية على الوضع الأمني في طرابلس بين المؤيدين لبشار الأسد من سكان جبل محسن وبين الجماعات السنية الؤيدة للثورة في باب التبانة.
وترى هارييت يوهانسون أن العداوة المستحكمة بين الطرفين تعود لسنوات الحرب الأهلية ما بين 1975- 1990، والتي تفاقمت بسبب التهميش الاقتصادي والاجتماعي الذي يواجهه كلا الطرفين.
سخط متأصل
وتقول الباحثة "هينيريت جوهانسين" في تقرير أعدته لمركز مراقبة الشرق الأوسط (ميمو) تحت عنوان "شمال لبنان على حافة الحرب"، إن نمو السخط على الدولة وتطور فجوة عدم المساواة والتي أثرت على احياء معينة في طرابلس مثل حي التبانة والتي تركت نسبة 87% بالمئة في حالة من الفقر المدقع، أدى لاندلاع موجات من العنف؛ والتي بدأت تعلن عن نفسها منذ عام 2008 ثم تطورت مع بداية الثورة السورية عام 2011.
وظهر أثر الحرب السورية بشكل واضح في أيار/ مايو العام الماضي أثناء حصار القوات السورية وحزب الله لمدينة القصير، حيث اندلع العنف بين باب التبانة وجبل محسن وكما شرح أحد القادة
السنة: "سيظل جبل محسن محاصرا طالما بقي الحصار على القصير".
ويشكل العلويون نسبة 11% من سكان طرابلس، بينما يشكل السنة أغلبية واضحة في المدينة بنسبة 80%. ويقاتل أفراد الغالبية تحت قيادة مجموعات ذات توجهات وأيديولوجيات مختلفة، وهذا يختلف عن القيادة المركزية التي يقاتل في ظلها سكان جبل محسن من
العلويين.
وتشير جوهانسين إلى مؤتمر عقد الأسبوع الماضي حول أزمة جبل محسن وباب التبانة، حيث أشار متحدثون أن جذور الأزمة عميقة لكنها تتأثر بعدد من البنى السياسية والاقتصادية. فيما اتهمت هيومان رايتس ووتش السياسيين الذين قالت إنهم قدموا الدعم المالي للمسلحين في باب التبانة.
وهو اتهام يرفضه عدد من الأشخاص الذين تم مقابلتهم هناك.
الخطة الأمنية لن تطبق
وتشير الدراسة إلى اعتقاد عدد من الباحثين بصعوبة تطبيق الخطة الأمنية الجديدة بشكل عملي بسبب تصادم القادة المحليين مع كتل التأثير في المدينة المقسمة. وانتقد باحثون الخطة الأمنية لأنها تشبه اتفاقا سياسيا نخبويا لا يأخذ بعين الاعتبار التحولات السياسية الكبيرة وعدم الاستقرار في طرابلس مما يعني عدم تطبيقها.
وبحسب الباحث في مركز كارنيغي رفائيل ليفييه فإن السنة على ما يبدو هم ضحايا عدم المساواة، وهو ما جعلهم يبتعدون عن الدولة التي استمرت بتهميشهم وتجاهل بؤسهم: "ومن هنا يحاول السنة في طرابلس البحث عن قيادة دينية لا سياسية، فيما تفتح الجماعات الدينية فروعا لها بشكل متزايد".
ويعتقد ليفييه أن هناك "تحولا خطيرا" يتمثل بتراجع القطاع العام، فيما يجد حزب الله الشيعي المدعوم إيرانيا نفسه في قمة الحياة السياسية مقارنة مع اضمحلال القيادة في المجتمعات السنية.
وأوضح ليفييه أن السنة يجدون بديلا عن قيادته التقليدية في الجماعات السلفية والمتطرفة مثل جبهة النصرة والدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش).
أين القيادة السنية؟
وتضيف يوهانسين أن "سبب غياب القيادة السياسية السنية متعلق بعدد من الأسباب، منها سحب سلاح كل الجماعات المسلحة واستيعاب الجيش اللبناني لكل المليشيات المسلحة باستثناء حزب الله بسبب دوره في "حركة المقاومة" ضد إسرائيل، وهو ما عزز قوة الحزب سياسيا وعسكريا.
وتضيف الباحثة إن هناك عاملا حيويا ومهما وهو اغتيال الزعيم السني رفيق الحريري في عام 2005، وقرار نجله سعد الحريري الانضمام لحكومة وحدة وطنية بداية هذا العام، كما أن الآمال بظهور حركة سنية معتدلة، تتمثل بتيار المستقبل، تراجعت وفشل التيار في أن يوفر الرعاية للسنة بسبب تراجع الدعم السعودي الكبير له مقارنة مع الدعم القوي لحزب الله من إيران".
ومن هنا "ومنذ بداية الثورة السورية في عام 2011 انقسم السنة بشكل أكبر، إلى مجموعات مؤيدة للنظام السوري مثل جبهة العمل الإسلامي وجماعة الأحباش الصوفية، وإلى جماعات معارضة للأسد مثل الجماعات السلفية والجماعة الإسلامية- فرع الإخوان المسلمين".
وتقول الباحثة: "في الوقت الذي تحقق فيه الجماعة الإسلامية شعبية متصاعدة في لبنان إلا أنها ليست جاهزة بعد للحصول على قاعدة انتخابية كنتيجة لاستثمارها في الأعمال الخيرية، فيما تقوم الجماعة السلفية بتوصيل رسالتها عبر القنوات الخيرية المشابهة وتركز على تجنيد المحرومين والمهمشين في مناطق مثل باب التبانة. وإضافة لذلك، فإن هناك انقساما واضحا بين الجماعات "المتطرفة" التي اختارت إرسال جنودها للقتال في سوريا وبين الجماعة الإسلامية التي امتنعت عن المشاركة".
وترى الباحثة جوهانسين أن "الزيادة في مستوى الهجمات التي يقوم بها السنة على الجيش اللبناني، قد أدت إلى زيادة جرأة الميليشيات السنية المحلية في مواجهة الشيعة والعلويين، بل وفي مواجهة بقية الجماعات السنية أيضا. ومن هنا، فإن الخطة الأمنية كما يرى مسؤول أمني في حديث لمركز كارنيغي هي "مخدر" يهديء الوضع ولا يزيل جذور المرض".
ويعتقد ليفييه أن الاستقطاب الطائفي الحالي لا يمكن حله إلا عبر حوار وطني يشمل كل القضايا المهمة بما فيها نزع سلاح حزب الله".
إصلاح بنيوي
وتقول جوهانسين إن عدم محاكمة من يقفون وراء الفساد في مدينة طرابلس، وضعف قوات الأمن، ومدى الضغوط الملقاة على عاتق هذه القوى الأمنية التي أرسلت لإرجاع الاستقرار، جعلت المجتمع الدولي يفكر بتحمل أعباء مواجهة الوضع الهش في المدينة.
وتشير الأرقام إلى هناك أكثر من 71 ألف لاجئ سوري في طرابلس، ومع أن عمدة المدينة السابق فوزي حمدي يعتقد أن المدينة يمكنها الاستفادة من حضور هؤلاء اللاجئين، إلا أن هذا الأمر يبدو صعبا بسبب ضعف البنى التحتية والوضع الطائفي الحساس.
ويرى الباحث البارز في مركز كارنيغي، يزيد صايغ، أن القضية متعلقة ببنية وتعليمات الدولة اللبنانية، والسؤال يتعلق بمدى قدرة القيادة السياسية على إصلاح الوضع. فالقيادة السنية المعروفة يبدو أنها تسيء استخدام وضعها، فيما لا تزال الطائفة مهمشة، وغير ممثلة، وغير قادرة في المدى القريب على تقديم بديل واضح (مثلا الجماعة الإسلامية).
ويبدو أن الحاجة لقيادة قوية تقف وراء خلق وتعزيز وتسليح الجماعات الجديدة. ومن هنا "فالحاجة الماسة للقيادة تزيد من التركيز على هشاشة الأطراف خاصة بين المجتمعات السنية وتزيد من صلابة المعركة بين المجتمعات المهمشة في باب التبانة وجبل محسن".
ويرى الناشط والمحاضر البرفسور سامر عنوس أن طرابلس عانت من الحرمان من الداخل، من خلال الانقسام الطائفي ومن إهمال الدولة لحاجات ثاني أكبر مدينة في لبنان، وإلى جانب هذا هناك مجلس بلدي لا يعكس تطلعات من يمثلهم، وتسيطر عليه غالبية سنية وغير منظم ولا يستطيع تقديم قيادة.
ويقول عنوس "طرابلس هي المكان التي قام فيها السياسيون بتمويل الجماعات المسلحة لإشعال المواجهات". ويقول حتى المساجد تخضع لرعاية سياسية.
وترى الباحثة جوهانسين إنه في الوقت الذي تواصل فيه الدولة والسلطات المحلية لعب دور النعامة فيما يتعلق بالتهميش الداخلي والخارجي لأهل طرابلس، تتقدم مجموعات صغيرة فاسدة ومسيسة للحكم. ويوافق الباحثون اذين استطلعت آراؤهم في الدراسة على هذا، ويقولون إنه يجب عدم التسامح مع موقف الدولة من المدينة التي عرفت بازدهارها وكونها خزان العمل وتوفير العمل للبنانيين.
وترى جوهانسين أن غياب الثقة بالجيش اللبناني (الذي أشارت الشفافية الدولية العام الماضي أن 60% من اللبنانيين يعتقدون أنه فاسد أو يعاني بشكل بالغ من الفساد)، إضافة لغياب القطاع الأمني الفاعل، سيتركان الجيش بدون دعم لتطبيق الخطة الأمنية.
ماراثون
وتعتقد الكاتبة أن "الأزمة الحقيقية في فقدان الناس للثقة بالدولة، حيث وجدوا أنفسهم في حلقة مفرغة من البطالة وغياب دور الدولة لمساعدة طرابلس للوقوف على قدميها".
وتضيف، أنه اقترح بعض الخبراء على الدولة إعادة الاستثمار في المؤسسات التي قد تساعد بالبحث عن حلول واقعية لإنعاش الأحياء البائسة في المدينة، مما سيؤدي للحد من التوتر الطائفي، إضافة إلى دعم ميناء طرابلس الذي كان مصدر ازدهار ومجلبة للوظائف.
وفي الأسبوع الماضي شارك مسؤولون من المدينة والحكومة في سباق نصف ماراثون شارك فيه 20 ألف شخص، تحت شعار "هنضل نركض للسلام"، وذلك احتجاجا على العنف في المدينة. وتجنب وزير العدل اللواء أشرف الريفي ووزير الرياضة العميد عبد المطلب الحناوي من إطلاق رصاصة بدء السباق واستخدما صفارة صفراء اللون بدلا عن ذلك.
ومع أن المدينة تعرضت للإهمال والتهميش من الدولة، إلا أن وزير العدل الريفي، حاول- على الأقل في الظاهر- أن يعترف بكفاح أهل طرابلس "اليوم نريد أن نثبت أن طرابلس هي مدينة العيش المشترك والاعتدال والسلام والرياضة وهي مدينة لبنانية ونفتخر بذلك". وقال "نقوم بجهود جدية للنهوض بالمدينة والبدء بالخطة الاقتصادية والإنمائية وأعد بتلمس النتائج في الوقت القريب".