كتب الصحفي البريطاني بيتر أوبورن: "مقارنة مع 50 ألف شيشاني قتلوا في الحرب، فالقتلى في
أزمة أوكرانيا الحالية لا يعد شيئا، لكن
الحرب الشيشانية لم يتم تغطيتها بنفس القدر الحالي في أوكرانيا، ربما هذا عائد إلى مصاعب الوصول للشيشان، أو بشكل أكثر احتمالا، خطورة واستحالة تغطية القصة للعالم الخارجي، وأيا كانت الأسباب فمأساة الشيشان التعساء لم تصبح موضوعا للاهتمام كما هو الحال في أوكرانيا".
وأضاف: "لم تهرع أية حكومة غربية إلى لنجدتهم، بل على العكس حصلت حملة
بوتين بعد الهجمات التي استهدفت برجي مركز التجارة العالمي في نيويورك على نوع من المصادقة عندما تم وضعها في منظور مظلة بوش/ بلير "
الحرب على الإرهاب".
وكان أوبورن يقارن الوضع الحالي وما جرى للمسلمين الشيشان على يد الرئيس الروسي بوتين، حيث يرى الكاتب أن الغرب تعامل باللين معه.
ويرى أبورون أن الغرب سكت عن جرائم بوتين؛ لعلمه أنه لا يتوقف عند حد لحماية المصالح القومية الروسية. ولكن الغرب تخلى عن هذه السياسة، وقرر مواجهة بوتين في اوكرانيا، ويعبر موقفها هذا عن تناقض في ظل اعتماد أوروبا على
الغاز الروسي.
ويكشف أن الغرب أخطأ العنوان حيث أراد دعم "المعتدلين" في كييف، وانتهى إلى دعم المتطرفين تماما كما حصل في سوريا وليبيا كما يقول.
ويستعيد الكاتب رحلة له في عز شتاء روسيا قبل 13 عاما لإلقاء محاضرة في معهد موسكو للدراسات السياسية. وكيف أنه ناقش مع في الليل مع عدد من الطلاب قصصا حول الثمن الذي يدفعه كل من يحاول الوقوف وتحدي "أمراء الحرب الذين يحكمون روسيا"، سواء بالاستفزاز أم القتل.
ومن أهم النقاشات التي عقدها كانت مع السفير البريطاني في روسيا في حينه رود لين، او كما يعرف بسير ردوريك، احد أعضاء لجنة تشيلكوت للتحقيق في ظروف غزو العراق التي لم تصدر تقريرها رغم مرور الموعد عليه منذ 3 أعوام.
في ذلك الوقت كان لين من المدافعين الأقوياء عن قائد روسيا الجديد، مع انه لم يحاول التغطية على قسوته، وعدم اهتمام بوتين بحقوق الإنسان.
وأكد لين مع ذلك أن بوتين هو الروسي الوحيد القادر على انقاذ بلاده من الفوضى والكارثة التي دخلت فيها بعد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.
وكانت قسوة بوتين واضحة في أعلى تجلياتها في الحرب الشيشانية الثانية التي تعبر واحدة من أكثر النزاعات المرعبة في بداية القرن الحادي والعشرين. وقتل آلاف من المدنيين وذبحوا من خلال القصف الوحشي على المدنيين، فيما انتشرت الإعدامات الجماعية والتعذيب.
ويقول أوبورن إن البريطانيين والأمريكيين كانوا يعرفون بالضبط من هو فلاديمير بوتين، عندما مدوا يد العون لعميل الاستخبارات السوفييتي السابق "كي جي بي" في بداية القرن الحادي والعشرين "فقد كنا نعرف أنه قومي روسي، ولن يتوقف عند أي حد ليعيد مجد الإمبراطورية السوفييتية، ومع ذلك قدمنا له الدعم". واستمر الغرب في موقفه الداعم لبوتين حتى عندما غزا جورجيا، حيث غض الغرب الطرف عن العمل.
ولم تفعل بريطانيا الكثير عندما اغتيل المعارض الروسي ألكسندر ليفيشنكو في لندن. ولم تثر الحكومة البريطانية ضجة حول الموضوع إلا بقدر، بل على العكس حاولت الحكومة تعويض مطلب أرملته مارينا بإجراء تحقيق رسمي في الأمر، حيث أصدرت المحكمة العليا أمرا لصالحها الشهر الماضي.
وعندما رفض بوتين المطالب البريطانية بترحيل قاتل ليفشينكو المحتمل عميل المخابرات السابق أندريه لوغوفوي، لم تفعل الحكومة البريطانية شيئا.
ويرى الكاتب هنا أن هناك عدة أسباب تجعل من أوروبا مترددة للوقوف أمام بوتين، وهذا متعلق أولا بعطش القارة المستمر للغاز الطبيعي الروسي الذي أصبحت شيئا فشيئا تعتمد عليه، ولهذا السبب للشركات البريطانية حضور في موسكو وليس فقط شركة النفط البريطانية "بي بي"، ويضاف إلى هذ مراكز لندن المالية حققت أرباحا خيالية من النخبة الروسية، وربح قطاع العقارات مبالغ ضخمة من خلال بيع الشقق الفارهة للروس الأثرياء.
أما الأمر الثاني فقد أصبحت بريطانيا والدول الأوروبية تعتمد بشكل كبر على موسكو، للحصول على معلومات استخباراتية في الحرب ضد القاعدة. وفي نهاية العام الحالي سيعتمد خروج البريطانيين ومعداتهم من أفغانستان على بادرة حسن نية من الروس.
ويتساءل الكاتب عن السبب الذي جعل بريطانيا وأمريكا تتخلى عن سياسة التعاون وغض الطرف عن فظائع بوتين؟
ويعود الكاتب إلى تشرين الثاني/نوفمبر الماضي حيث رفض الرئيس فيكتور ياكونوفيتش معاهدة للتعاون بين الاتحاد الأوروبي وأوكرانيا، وقرر الدخول في اتفاق مع الرئيس بوتين.
وحتى تلك النقطة لم يخف الغرب امتعاضه من ياكونوفيتش، وبدأ يتحالف مع المتظاهرين ضد نظامه. وكما هو متوقع فقد حدث خطأ، فقد عزل الرئيس الذي يتمتع بدعم شعبي في كييف بمساعدة من جماعات عنف ويمين متطرف، كان من بينها حزب "برافي سيكتور" الذي يحرس أعضاؤه المسلحون المباني الحكومية.
ويشير أوبورن إلى أن هناك مقارنة مثيرة بين أوكرانيا من جهة، وسوريا وليبيا من جهة؛ حيث انتهت جهود الغرب العمل مع "المعتدلين" بتسليم السلطة للمتطرفين.
وفي حالة سقطت أوكرانيا في يد المتطرفين والفوضى، فسيكون الوضع الذي كان يحذر منه رود لين قبل سنوات، وواحد من الأمثلة الكئيبة عن فشل السياسة الخارجية الغربية، "عندما نتدخل في شؤون الغير ليرتد علينا سلبا".
ويقول أوبورون: "سنذهب بعيدا في الزعم أننا تخلينا عن المبادئ الواقعية التي تحدث عنها السفير رود لين، وعدنا إلى التدخل العسكري الليبرالي في عصر بلير؛ لأن أحسن وصف لما يجري تشوش وارتباك".
ويعلق أوبورن أن بريطانيا لديها سياستان خارجيتان، حيث طور ويليام هيغ أسلوبا ليبراليا هادئا عززه بلفتات لا معنى لها. فزيارته كييف الأسبوع الماضي لا معنى لها، وتعتبر مضيعة للوقت منذ زيارة سير اليك دوغلاس- هيوم عندما زار لريكيافيك في ذروة حرب سمك القد.
أما السياسة الثانية فتلك التي يمثلها هيو باول من مجلس الأمن القومي الذي أكد -حسب مذكرة سربت بالخطأ- أن بريطانيا غير متسرعة لاتخاذ قرار بشأن أوكرانيا.
ونفس الوضع يلاحظ في الولايات المتحدة والسياسة الخارجية، حيث أقام كل من باراك أوباما ووزير خارجيته جون كيري مكاتب سرية خاصة تعمل بشكل مستقل عن آلية الدولة. والنتيجة هو تناقض من ناحية البلاغة والحماسة اللامسؤولة لما يجري والحذر الشديد من الالتزام بشيء.
في الوقت الذي لا مشكلة فيما يقوله الساسة من كلام، وما يفعلونه سوى فقدان الثقة بالنخبة السياسية على المستوى المحلي، إلا ان التناقض بين الأمرين على مستوى السياسة الخارجية خطير جدا.
ولولا حذاقة المستشارة الالمانية أنجيلا ميركيل لزاد الأمر تعقيدا فهي الذي وضعت حدا للحديث عن العقوبات الاقتصادية، وأصبحت المتحدث الرئيسي مع بوتين.
ويرى الكاتب في التطور نقطة مهمة في مرحلة ما بعد العالمية الثانية، فقد تحولت ألمانيا إلى قوة دبلوماسية، إضافة إلى كونها قوة اقتصادية تهيمن على الاقتصاد الأوروبي.
وما قامت به "هذه السياسية الباهرة هي أنها وضعت الشراكة الألمانية- الروسية في قلب اوروبا، وهو انجاز كان هدف السياسة الخارجية البريطانية التي حاولت منعه، فعلى خلاف بريطانيا فإن كلا من المانيا ميركل وبوتين روسيا لديهما الرؤية الواضحة لكيفية لعب دور على المسرح السياسي العالمي".