عندما شاهدت فيلم
عمر المختار، للممثل الغربي
أنطوني كوين لأول مرة، حدث لي نوع من الانبهار، انبهار من قصة هذا المجاهد العظيم، وانبهار كذلك من قدرة هذا الممثل الغربي على تشخيص هذه الشخصية الإسلامية في هذا الأداء التمثيلي البديع.
وكنا نسمع ساعتها كلاما من قبيل أن أنطوني كوين قد أعلن إسلامه، لأنه تقمص دور عمر المختار إلى درجة جعلته يعشق الإسلام والجهاد من أجله، وطبعا تبين لنا بعد ذلك أن هذا الكلام ما هو إلا
إشاعات كاذبة، ربما كان الدافع لها، الانبهار من قدرة الرجل على تلبس الشخصية، بدرجة جعلت من المستحيل تخيل أن يكون قد بقي على الرغم من ذلك بعيدا عن الإسلام.
في الفيلم، هناك جملة تأتي على لسان أحد الأشخاص، علقت بذهني طويلا، فكنت مأخوذا بها، غير أني لا أفهمها، لأنها تنطق في الدبلجة بلغة عربية مع لهجة بربرية تعطيها سرعة في الانطلاق والانتهاء مع تداخل في الكلمات.
هذه الجملة قيلت عندما كان بعض المجاهدين في حالة اشتباك مع أحد جيوش العدو الإيطالي المحتل الغاصب، فلما أن تبين للمجاهدين غلبة العدو عليهم في هذه الجولة، وأنهم مهزومون لا محالة، قاموا فأطلقوا خيولهم، ثم جثوا على ركبهم، وربطوا أرجلهم، مخافة أن تحدثهم أنفسهم بالفرار من أمام العدو إذا تيقنوا بالهلكة، وهنا قال أحدهم هذه الجملة (مرحب بالجنة جات تتدنى)، ثم قتلوا، مجاهدين ثابتين صابرين.
وتبين المعنى بعد لأيٍ من الزمان، وفهمت أن قصد القائل في مقولته (مرحب بالجنة جات تتدنى) هو (مرحبا بالجنة جاءت تدنوا) أي تقترب.
هذه جملة سحرتني من هذا الفيلم الساحر للمخرج العبقري (مصطفى العقاد)، الذي قتلته يد التطرف الغبي في تفجير إرهابي لأحد فنادق الأردن في عام 2005، فقتلت بقتله أحد أهم دعاة الإسلام في دنيا الغرب، فهو بفيلميه (عمر المختار) و(الرسالة) قد أوصل لكثير من الغربيين ما لم يصل به إليهم كل دعاة الإسلام التقليديين، وكل دعاة التحرر المفوهين المباشرين.
معروف تأثير الدراما والسينما في عقول وتصورات الغرب، بل في عقول وتصورات الغرب والشرق.
ولذلك فقد اعتمدت أمريكا -في أهم ما اعتمدت عليه- على السينما والدراما لترسيخ صورتها الأسطورية في عيون العالم، ولترسيخ كونها الحلم الأمريكي الكبير، وكذلك فعلت إسرائيل في الترويج لكذبتها الأسطورية، كذبة أنها الضحية في وسط ذئاب العرب وسباعهم، وكذلك كذبة أنها واحة الديمقراطية والسلام في صحراء التخلف والتعصب العربي.
(مرحب بالجنة جات تتدنى) جملة سحرتني وعلقت بذهني، وكنت أرددها طويلا قبل أن أفهم معناها، وبعد أن فهمته، ولا أدري أهذه جملة مأثورة حقا عن أحد مجاهدي
ليبيا مع عمر المختار، أم أنها من بنات أفكار مؤلف الفيلم ومخرجه وأبطاله، المهم أنها جملة عظيمة، تعبر عن موقف عظيم، موقف الرضا بالموت، بل وطلبه والسعي إليه، من أجل ما أعده الله أجرا عليه، إذا ما كان ذلك الموت في سبيل الله دفاعا عن الدين والوطن.
جملة أخرى كانت أكثر سحرا وعظمة من سابقتها، لكنها تختلف عن الأولى في أنها جملة ثابتة النسب للمجاهد العظيم (عمر المختار)، فهي أهم ما أثر عنه، وهي عنوان قصته ومشواره.
فعندما طلب منه أعداؤه وخصومه الاستسلام مقابل بعض الامتيازات قال جملته الخالدة (نحن لا نستسلم، ننتصر أو نموت).
هذه الجملة العظيمة، هي فلسفة الإسلام في الحروب من قبل أن يتلفظ بها عمر المختار، فالإسلام يجرم الاستسلام والانسحاب من المعارك، إلا أن يكون الانسحاب انسحابا تكتيكيا.
يقول الله تعالى (وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) إذن هو التحرف للقتال، أو الاستعانة بفئة أخرى، وليس هناك مكان للاستسلام أو الانسحاب أبدا.
وقد صدق عمر المختار في كلمته، فقد عاش بها، ومات بها، مات مجاهدا ثابتا صابرا، عندما أعدمه الإيطاليون مشنوقا في العام 1931.. هكذا كان عظماؤنا ومجاهدونا على مر الزمان، وهكذا كانت تضحياتهم، وهكذا كان ثباتهم.
ما عرف اليأس طريقا إلى قلوبهم في أي معركة من معاركهم، مهما كان الفارق بينهم وبين عدوهم، ومهما كانت غلبته عليهم.
هم قوم أرادوا الجنة قبل الانتصار، فكان الموت في ساحة المعركة شيئا تقبل عليه أنفسهم راضية راغبة، وليس هناك أي مجال لقبولها الهزيمة أو الانسحاب.
(وفي معركتنا هذه)، معركتنا مع الانقلابيين الطغاة الفسدة، لا بد لنا من تلمس سيرة أسلافنا، ولا بد أن نكون رجالا كما كانوا، فإن كانوا قد سبقونا فلن يكون سبقهم لنا إلا بميزان السنوات والزمن، أما عن العمل والأثر، فسنكون بعون الله مزاحمين لهم في كل صغيرة وكبيرة.
إننا في معركتنا هذه ثابتون صابرون محتسبون، لن يتطرق يأس إلى قلوبنا مهما كان، ولن نقف عاجزين عن مواجهة عدونا مهما كانت غلبته علينا.
فنحن قوم (لا نستسلم، ننتصر أو نموت)، فإذا كان الانتصار من الله فله الحمد والمنة، وإذا كانت الأخرى فـ(مرحب بالجنة جات تتدنى).