طوي فصل مهمّ في أوكرانيا، لكن الأزمة لم تنتهِ على النحو الذي يريح روسيا. وتكمن بذور استمرارها في الاتفاق الذي وقعه الرئيس فيكتور يانوكوفيتش والقادة الثلاثة للمعارضة برعاية وزراء موفدين من الاتحاد الأوروبي، فيما حضر موفد الرئيس الروسي ولم يوقع، إلا أنه بارك المفاوضات واعتبرها «إيجابية».
والواقع أنها لم تكن إيجابية بالمرة بالنسبة إلى روسيا، بل على العكس شكّلت تراجعاً وانتكاسة لها، فهي القطب الخارجي الآخر المعني بالأزمة، وقد وقفت وراء الرئيس الأوكراني وراهنت على جمهوره وعلى استخدامه لسلطاته الموسّعة واستناده إلى قوة الدولة ومؤسساتها. ولا دلالة للتنازلات التي قدّمها يانوكوفيتش، وأبرزها إجراء انتخابات رئاسية مبكّرة وتعديلات دستورية تنزع منه صلاحيات، سوى أن «حزب روسيا» في البلاد قد انهزم بعد يومين من محاولته.
واقعياً، هي الأزمة نفسها منذ أواسط العقد الماضي، لها أسباب اقتصادية ظاهرة وملموسة، لكن أسبابها السياسية أكثر تأثيراً لأن أوكرانيا تقع على تماس الاستقطاب بين الشرق والغرب، بمفهومه الذي ساد خلال فترة الحرب الباردة حين كان شرق أوروبا رازحاً تحت الهيمنة السوفيتية المباشرة. ورغم إعلان «النهاية» الرسمية لتلك الحرب، إلا أن سياسات فلاديمير بوتن أعادت إحياء رواسبها وغرائزها ومناخاتها في مواجهة توسّع الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلسي شرقاً، وميل الدول (السوفيتية سابقاً) إلى
الغرب. ومنذ انهيار الاتحاد السوفيتي انكشفت هشاشة الاقتصاد الأوكراني، وانكشفت معها خياراته، فهو محكوم من جهة بالغاز الروسي الذي تتأرجح أسعاره وفقاً للون السياسي للحكم في كييف. فبعد «الثورة البرتقالية» في يناير 2005 وانتصار فيكتور يوتشينكو فيها ارتفعت فاتورة الغاز لأن موسكو لم ترَ فيه صديقاً موالياً، حتى إنها اتهمت بتسميمه لكنه نجا بأعجوبة حاملاً تشوّهات جلدية. وبدوره اكتشف يوتشينكو أن للاتحاد الأوروبي شروطاً تصعب تلبيتها لنيل المساعدات اللازمة لتصحيح الاقتصاد وإنهاضه.
عملياً، كانت أوكرانيا ولا تزال ترى أن مصلحتها في البقاء على المسافة ذاتها من روسيا والغرب، وأن تحاول إرضاء الطرفين والاستفادة من تقدماتهما. ولأجل ذلك يفترض أن تنجح في إقناعهما بمثل هذا الخيار وأن يقبلا بأن تكون جسراً بينهما. لكن هذا يفترض أنهما متوافقان أو صدد التوافق الذي داعب مخيّلة باراك أوباما طوال ولايته الأولى ولا يزال متمسكاً به حتى وهو يراه يبتعد. والواقع أن الصراعات الروسية الغربية باتت أوسع من أن تستوعب «حالاً خاصة» كأوكرانيا التي تحتضنها الحدود الروسية (مع البيلاروسية) شمالاً وشرقاً، كما أنها تمثّل جغرافياً بالنسبة إلى روسيا حلقة وصل بينها وبين مناطق نفوذها القوقازية، فيما يلتفّ الاتحاد الأوروبي حولها جنوباً وغرباً بحدود مولدوفيا ورومانيا وبولندا.
كان فشل يوتشينكو في الوفاء بتعهداته الاقتصادية الاجتماعية (توفير فرص عمل، تحسين الأجور، خفض الضرائب، محاربة الفساد، زيادة الناتج الزراعي..) اضطرّه إلى الرضوخ للضغوط وقبول تعديلات دستورية قلّصت صلاحياته وجعلت الرئاسة والحكومة والبرلمان في صراعات مستمرة. وفي 2010 فاز خصمه يانوكوفيتش بالرئاسة ليرث كل المشاكل التي لم يتوصل «ربيع» كييف لحلّها، بل ليضيف إليها كونه يميل بوضوح إلى روسيا، ما يعني مخاصمة نصف الشعب الذي حسم ميله غرباً. ولدى إعلان فوزه لونت خريطة أوكرانيا بحسب المناطق التي صوتت له، وكان مذهلاً انقسام البلد بين لونين لا اختلاط بينهما، النصف الشرقي أزرق لمصلحته والغربي برتقالي لمنافسته يوليا تيموشينكو التي وافق البرلمان على مشروع قانون يسمح بإطلاقها من السجن، في سياق الاتفاق على تسوية الأزمة الراهنة.
عندما أصبح هناك اتفاق شراكة جاهز للتوقيع مع الأوروبيين مطلع نوفمبر 2013، بدأت متاعب يانوكوفيتش بين ضغوط موسكو التي عرضت بدائل وضغوط الداخل الذي يصر على التوقيع والمضي في إجراءات الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. وفيما اختصر أسباب الأزمة بثلاثة (خسائر 20 مليار دولار بسبب ارتفاع سعر الغاز الروسي، قروض البنك الدولي واستحقاق سدادها منذ 2012، وانخفاض حجم التبادل التجاري مع روسيا ورابطة الدول المستقلة)، إلا أنه لم يشر إلى تعليقه المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وتأجيله توقيع الشراكة في انتظار «ظروف ملائمة». ومنذ الأحد الأخير من نوفمبر 2013، انطلقت تظاهرة كبرى بشعارات بالغة الوضوح («نريد العيش في أوروبا»، خصوصا «نريد لأطفالنا مستقبلاً لا ضغطاً روسياً عليهم»)، وتواصلت إلى أن أصبحت أواخر يناير الماضي تطالب باستقالة الرئيس ورحيله، ما أشعل مواجهات في الشارع بين مؤيديه ومعارضيه. وكان لافتاً يوم الجمعة الماضي أنه بعد التوقيع على تنازلاته للمعارضة، توجّه إلى معقله في الشرق ليهدّئ أنصاره.
عشية «الاتفاق» كان يانوكوفيتش لجأ إلى القوة وسقط عشرات القتلى في «ميدان الاستقلال»، فيما «سقط» غرب أوكرانيا فعلياً في أيدي معارضيه، وأصبح البلد مشطوراً إلى جزئين أكبرهما يغلب عليه اللون البرتقالي. لم يجد روسيا إلى جانبه، وكان عليه أن يتخذ قراراً، بوتن يتشاور مع قيادته العسكرية ومن الواضح أنه لا يملك خيارات حاسمة، أما عواصم الغرب فخشيت من أن تؤدي الأزمة إلى أمر واقع تقسيمي. وإزاء تفاقم مظاهر انهيار الدولة واحتمال تحميله مسؤولية تمزيق البلاد لم يبقَ أمامه سوى الإذعان لوساطة «الترويكا» الأوروبية (وزراء خارجية ألمانيا وفرنسا وبولندا).
قدّم يانوكوفيتش كل التنازلات السياسية للمعارضة في مقابل أن تستخدم نفوذها لحمل المعارضة على قبول التسوية، لكنه تعلّم على حسابه إلى أي حدّ كان شعبه قد حسم خياره بين روسيا وأوروبا. أما كيف سيستوعب شرق أوكرانيا هذا الخيار، فهذه مسألة تبقى للمراقبة.
(العرب القطرية)