صديق فاضل كان يرأس مؤسسة اتحادية مهمة، ووقف بشجاعة نادرة ضد محاولات رئيس الحكومة ابتلاعها وتجاوز طابعها الدستوري المستقل، وظل حتى بعد ان خسر منصبه في واحدة من صولات المالكي الادارية، مؤثراً يضع يده على الخلل، ويساعدنا في فهم كثير من الجوانب القانونية المتعلقة بالصراع الدائر في بلادنا، بين الغرائزية المتخلفة، ومحاولات ارساء اسس الحداثة السياسية.
وجدت الصديق الاديب اليوم يتحدث عن الإحباط، بينما كنت اسأله عن سلسلة من المضايقات الرهيبة التي يتعرض لها منذ سنوات، على يد اتباع المالكي في هذه البلاد. ولم اكتمه أنني انا وسواي، نمر بلحظات جزع حقيقية، والامر طبيعي، اذ نحلم بدولة الحداثة السياسية، ونضطر الى اكمال المشوار ونحن نشهد على درب من دماء شعبنا، اذ يصطادهم الغدر والارهاب وخواء السياسة.
وأقول "نضطر" رغم فداحة الثمن، اذ لا خيار آخر سوى دولة حديثة تقبل التنوع السياسي، وتمنع تكريس السلطات بيد فرد، وقد امضينا العقود الاخيرة بيد افراد أوردوا شعبنا المهالك، دونما هدف سوى تتويجهم ابطالاً، حتى في قعر الهزائم.
نحن مضطرون ان نتجرع كل هذه المكاره، ولحظات تكوين الحداثة السياسية، هي الاصعب، اذ تتطلب ان تواصل اقناع الناس بتجربة شأن جديد لا يعرفونه، وأن تتوقع اثناء ذلك هجمة شعواء من ساسة يعتاشون على تخلف المجتمع وفقره وجهله. ان مهمة هؤلاء اسهل، لانهم يبنون على قديم راسخ، يستمد مشروعيته من تاريخ استبداد طويل، وهو استبداد ظل يقول للناس لقرون، انه منقذهم من الفوضى، وأن عليهم القبول به مستبداً يزعم انه قوي قادر عالم، كي لا يغرقوا في حبائل الغوغاء. بينما يطلق هذا المستبد غوغاءه الخاصة، ليتلاعب بمصائر الناس ويبدد مستقبل الشعوب كما يزين له عقله الفاسد. والنتيجة اننا خارج سباق الحضارة منذ ألف عام!.
قد يصاب صديقنا الفاضل باليأس لحظة، وربما شعر كل انصار الحرية بهذا، لكن الجهود التي يقومون بها، والتضحيات التي نشهدها، هي الشرط الذي بدونه، لن ترسخ قاعدة حديثة في البلاد. التحول سيتأخر، كأي حركة تاريخ بطيئة، وقد لا يتاح لنا الوقت لنرى ثماره القصوى، غير ان الاستسلام للفريق الممسك بالسلطة، سيجرد المستقبل من كل ضوء، وسيفضحنا امام العالم المتحضر، كأمة عاجزة ويائسة، لا تستحق سوى دكتاتور يعبث بفلوس
النفط وبنادق موسكو وواشنطن.
الحراك السياسي الاحتجاجي الذي قام به نفر من ابناء هذه البلاد، ليس بلا أثر. وبغض النظر عن ان النفر المحدود يعبر عن شريحة واسعة اختارت الصمت (او قامت بتأجيل الكلام) نتيجة شكوكها وريبتها، فإن العالم من حولنا يدرك بنحو اوضح اليوم، وبفضل جهد احتجاجي صادح، بذله ساسة وذوو رأي وتكنوقراط، ان العراق اكبر من ان يجري ابتلاعه ببضعة صفقات نفط او
بنادق، وأن احترام التعدد السياسي مطلب اقوى من الطائفة، وأن ممثلي طائفة الحاكم هم في طليعة منتقدي سياساته، وأنه لا يمكن لبضعة عواصم ان تتلاعب الى الابد، بصفقة الحكومة.
في المرات السابقة، كان هناك خارج قوي متماسك، وداخل مرتبك غير متآلف. كانا يتصارعان فيفرض الخارج مرشحه للحكومة، رغم انف كل الاعتراضات. اما هذه المرة فإن الخارج مرتبك ومتردد ومتناقض بشأن المالكي، بينما الداخل قوي ومتماسك بشأن رفض نهجه في حكم العراق. ان هذا التحول في الصورة، يعود فضله الى فريق عراقي شعر باليأس مرات ومرات، لكن طعم الحرية على لسانه، يمنحه الشجاعة، ليدرك ايضا ان التضحية على مسار الاصلاح السياسي، لن تتوقف حتى بعد تغيير المافيا التي يتزعمها المالكي، وأن أخطاء نهجه ليست سوى مناسبة لتذكيرنا، بأن التحول الى نمط حديث في ادارة الخلافات، يحتاج الى حزمة ضمانات، أولها ان لا نخاف، وأن نتحاشى اليأس، ونصبر على بطء التاريخ.
(المدى)