استعادت
تونس بريقها هذه الأيام، وعاد الجميع يخطبون ودها بشكل مثير للاهتمام. فباستثناء روسيا ، التي اتخذت مواقف مختلفة تجاه ما حدث بالعالم العربي تحت عنوان "الربيع العربي"، فإن الدول الرئيسية الأخرى القائدة للعالم الرأسمالي الديمقراطي، قد رحبت بما حدث، وصدرت عن قادتها تصريحات مفعمة بالمساندة والوعد بتقديم الدعم.
في هذا السياق قرر نائب وزير الخارجية الأمريكية وليام بيرنز القيام بزيارة لم تكن مبرمجة إلى تونس وهو عائد من مؤتمر أديس أبيبا ليؤكد للمسؤولين التونسيين وكذلك لراشد الغنوشي رئيس حركة النهضة أن "كل العالم ينظر بإعجاب وتقدير للمسار الإنتقالي التونسي الذي تمكن من تجاوز صعوبات المرحلة الانتقالية وتعقيداتها بنجاح في الوصول إلى توافق على
دستور يحظى بإجماع حقيقي وواسع". حصل ذلك بعد أن اعتبر وزير الخارجية جون كيري أن "المصادقة على دستور ديمقراطي وتنصيب حكومة مستقلة محطتين تاريخيتين تميزان مرحلة الانتقال الديمقراطي في تونس". أما الرئيس الفرنسي فقد قرر بدوره التحول إلى تونس للمشاركة في الحفل الرسمي الذي سيعقد يوم السابع من الشهر الجاري للاحتفال بالمصادقة على الدستور مع كوكبة من الرؤساء والملوك. كما أعلن وزير خارجيته لوران فابيوس أن فرنسا ستدعم تونس في تنظيم انتخابات شفافة.
هذه ليست سوى عينات من كم واسع من الردود الإيجابية على ما تحقق في تونس. والسؤال الذي لا مفر من طرحه هنا، لماذا كل هذا الترحيب ؟ وما هي الخلفيات التي قد تكون وراء ذلك؟
لقد كثر الحديث في الفترة الأخيرة عما وصفه الكثيرون بتحول "الربيع العربي" إلى شتاء قارس. وذلك استنادا لما تمر به أغلب الدول التي تعرضت لزلزال التغييرات الكبرى في مطلع سنة 2011. ولتفسير حجم الصعوبات الضخمة والمعقدة التي تواجهها هذه الدول، تم الترويج إلى القول بأن الأطراف الدولية المتهمة بكونها هي التي تقف وراء "الثورات العربية"، تعمل حاليا على تجويف هذه التحولات بهدف إدخال المنطقة في نمط من "الفوضى العارمة" التي من شأنها أن تضع جميع الأطراف في مأزق هيكلي شامل، ويجعلها تستسلم في النهاية لرغبات المارد الأمريكي وحليفه الكيان الصهيوني.
لا أعتقد بصحة هذا التحليل الافتراضي. فلا الثورات جاءت نتيجة مخطط إمبريالي، ولا الصعوبات التي تواجهها المراحل الإنتقالية في كل من مصر وليبيا واليمن هي صناعة أمريكية أو غربية. علينا أن نضع حدا لمثل هذه الفرضيات التي تحولت عند الكثيرين إلى آلية دائمة تتعمد تضخيم الأدوار الخارجية، وتطمس نقاط القوة أو مواقع الضعف والخلل في الأجسام الوطنية. الثورات صناعة محلية في كل دول المنطقة. وكذلك الشأن بالنسبة لقسم واسع من العوائق التي تعمل بنشاط للحد من إمكانية التقليل من كلفة الإنتقال السياسي. إنه من العبث أن نصدر أخطاءنا للآخرين، بحجة كونهم أعداء تاريخيون لمنطقتنا.
ما يجري في تونس يعتبر المثال العكسي لنظرية المؤامرة. هناك إرادة أوروبية أمريكية لتحويل تونس إلى بلد ديمقراطي. تكفي الإشارة في هذا السياق إلى تلك البرقية التي كادت أن تطيح بحكومة علي العريض، والتي وجهتها مصالح المخابرات الأمريكية لتحذر المخابرات التونسية من اغتيال وارد للمرحوم محمد البراهمي، لكن المصالح الأمنية التونسية المختصة لم تتعامل بجدية وحرفية مع هذه البرقية، وكانت النتيجة تنفيذ العملية في التوقيت المحدد. لكن من هو الذي كان هدف الإرهابيين؟. باختصار كان مناضلا ضد السياسات الأمريكية في المنطقة بحكم انتمائه القومي الناصري. أي لو كان للأمريكان نية تفجير الوضع التونسي، لما تدخلوا وحرصوا على إنقاذه.
لا أقصد من وراء حديثي تنزيه الجهات الأمريكية، وتقديم قادتها في صورة فاعلي خير، ورسل رحمة ومحبة. فتنفيذهم عشرات الانقلابات ضد إرادة الشعوب بأمريكا اللاتينية وآسيا وفي غيرها من عواصم العالم لإجهاض ثورات عديدة، تشهد على خلاف ذلك. لكن في الحالة التونسية الأمر يبدو مختلفا تماما. إنهم مع الأوروبيين يريدون إنقاذ الدولة التونسية من أن تتحول إلى دولة فاشلة. لأنه لو حصل ذلك، لأصبحت تونس بحكم موقعها الاستراتيجي مسرحا للجماعات الخارجة على القانون، ومرتعا لشبكات الإرهاب الإقليمية والدولية، وهو ما يجعلها مصدر تهديد للأمن القومي الأوروبي والعالمي. هذا بالإضافة إلى ما ينجر عن ذلك من انهيار اقتصادي سيؤدي حتما إلى تفاقم الهجرة السرية لعشرات الآلاف من المغامرين.
هذا يعني أن دعم الانتقال الديمقراطي في تونس ليس بالضرورة وجها من وجوه مؤامرة تحاك في الظلام، وإنما يمكن أن يشكل جزء من ضمان حماية الاستقرار السياسي والأمني لهذه الدول الداعمة. وبالتالي فإن ما تقوم به ليس عملا خيريا، بقدر ما هو ضرورة إستراتيجية في مرحلة تعددت فيها المخاطر، وأن تكون حركة النهضة جزء من القوى الملتزمة بالتغيير السلمي، خير من أن تتحول إلى حقل من حقول البارود التي تنفجر في أكثر من مكان.