أعادني الأخ الاستاذ عبد الفتاح
السيسي مشكوراً إلى أيام الطفولة، وذكرني بما نسيت، وهو يرتدي "بدلة"
المشير قبل الموعد المقرر لاستحقاقه هذه الرتبة، فتذكرت ملابس العيد، والتي لم تكن سوى جلباً مخططاً، إذ أن "اللون السادة" كان مقرراً لمن بلغ أشده، أو من يريد أن يبدو أمام الناس أنه بلغ أشده!.
لم تكن طفولة معذبة، أو مترفة، فقد كانت بين هذا قواماً، فلم يكن في تذكري لها بمناسبة "بدلة السيسي" ما يمثل "تقليباً للمواجع"، فهناك اعتبارات تجعلها ذكرى طيبة، فلك أن تتصور أن المتذكر ذكراً، ووحيداً. وهي عوامل احتفاء لاسيما إذا كان المتذكر من
الصعيد، ويحوز هذه الخصال، فهو "ولد"، وليست البنت هناك ابداً "زي الولد"، وهو وحيد أبويه!.
لا تأتي وقفة العيد، إلا ويكون الجلباب سالف الذكر معداً للاستعمال، ويظل الفتى يدور حوله في انتظار أن تدق ساعة ارتدائه، وأحياناً يقوم بهذا خلسة قبل الموعد المحدد، وقد يضبط متلبساً بفعلته فيقال له: أعرض عن هذا، حتى لا يبدد الفرحة به في يوم أعد للبهجة والسرور.
الأخ الأستاذ السيسي، مُنح من الرئيس المعين، رتبة المشير، بالمخالفة للتقاليد العسكرية، فهذه الرتبة العظيمة تمنح لقادة الجيوش إذا خاضوا معارك ميدانية وانتصروا فيها، والسيسي أنهى دراسته في وقت كانت فيه مصر تدخل في مرحلة كامب ديفيد، التي قرر على أثرها الرئيس السادات أن حرب أكتوبر هي آخر الحروب، وهناك كلام عن أنه كان من ضمن أفراد الجيش المصري الذين شاركوا في حرب الفتنة، لتدمير العراق، بقرار أمريكي، ولم نسمع للفريق السيسي أو غيره اعتراضاً على ذلك، كما لم نسمع عنه أداء استحق به أن يمنح درجة المشير، ولو استحقها لمنحها له مبارك، لكنه لم يكن على أيّ حال من القادة المدينيين، ولم يحرز نصراً، فالنصر تم تسجيله في سجل القوات الأمريكية، التي عمل الجميع تحت إمرتها.
ما علينا، فالسيسي لم يطق صبراً أمام البدلة، والنجوم، والسيوف، والنسور، فلم يستطع الانتظار ليومين ليرتدي "بدلة المشير" في موعدها، فقام بارتدائها، واستدعي "مصور" جريدة المصري اليوم، ليلتقط له الصور، والتي وجدت طريقها للنشر قبل الموعد المحدد، وأعلن المصور أنه المسؤول عن هذا الخطأ لأنه سلم الصور للأرشيف في صحيفته دون أن يخبرهم بموعد نشرها، وكأن هذا هو الموضوع!.
نُشرت الصور أو لم تنشر، فهذا لا يغير من طبيعة الأشياء، فطبيعتها أن سيادة المشير كان مثلي صبياً وأنا أتربص بملابس العيد، فهما بها وهمت به، فقضى منها وطراً في حضور مصور "المصري اليوم" وربما اعتبر هو، وربما نظرت الصحيفة إلى الصورة، على أنها تمثل سبقاً صحفياً جباراً فقامت ببثها، لتخلق حالة من القيل والقال، لاسيما وأن هذا الأمر لو كان في بلد يُطبق فيه القانون، لوقع السيسي تحت طائلته ولتم استدعاؤه لسين وجيم أمام القضاء العسكري، فالسيسي عندما ارتدى بدلة المشير لم يكن مشيراً، وكان في حكم منتحل الصفة، وهو تصرف مجرم قانوناً.
المهم، فلسنا في دولة القانون، فنحن في حكم لا تعلو فيه العين على الحاجب، والمتابع سيقف بسهولة على أنّا ما يدشنه الانقلاب في مصر هو "دولة اللا قانون"، لكن مثلي يرى في هذا التصرف، أن مصر تصغر مع الانقلابيين، وتكاد تصبح في حجم عقلة الاصبع، وأن هذا التصرف الصغير، يسقط ما تبقى من أسطورة قد تم صنعها في مرحلة ما بعد الانقلاب، وبدأت في الانهيار، فلم يتبقى منها سوى الحطام!.
لقد جرى تقديم السيسي على أنه جمال عبد الناصر، وبذلت أنا جهداً خارقاً للتأكيد على أننا امام حالة الاستدعاء القسري للرئيس الأسبق، فإذا كان منهج ناصر في الحكم قائم علي أمرين: الانحياز للفقراء، ومواجهة الهيمنة الأمريكية والإسرائيلية، فإن السيسي في هذين المجالين: أبيض يا ورد، فانحيازه الأصيل هو لمن يمثلون الإقطاع وسيطرة رأس المال الذين حاربهم عبد الناصر، فضلاً عن أن إسرائيل وأمريكا جزء من دوائر الانقلاب، وإسرائيل ترى أن عهده أفضل لها من عهد كنزها الاستراتيجي حسني مبارك!.
وفي اللحظة التي كانوا يقولون إن السيسي هو عبد الناصر، كانوا أيضاً يقولون إنه ديجول، وايزنهاور. وأديب كعلاء الأسواني بذل جهداً خارقاً لإقناع روبرت فيسك، بأن صاحبنا هو أعظم قائد عسكري بعد ايزنهاور!.
استدعاء ناصر وديجول وايزنهاور في المشهد عندما يجري الحديث عن السيسي تحول الي نكتة، ولهذا تم الاحتماء بالخزعبلات، ولا تزال ملامحه حاضرة الي الآن، إن شئت فقل إنها بقاياه!.
فالجوقة، تحدثوا في البدء عن السيسي على أنه الله، وكاتب جهول، كتب في صحيفة قومية كبرى مستدعياً بيت شعر من قصيدة قديمة، قيلت نفاقاً وتأليها في حاكم أيضاً، عندما اختتم "الكاتب الضرورة" مقالاً له بقول الشاعر: ما شئت بل ما شاءت الأقدار، فاحكم فأنت الواحد القهار!.
تعالى الله عما يصفون علواً كبيراً، ولا تزال لهذا الادعاء ملامح حتى الان، فكاتب تحرير يخاطب السيسي بأمر خاطب الله به احد رسله: "خذ الكتاب بقوة" وهو بحاجة الى استتابة، وقد قال كلمة الكفر، وربما لا يقصد باطنه ما عبر عنه ظاهره، وربما لو سئل عن الكتاب المطلوب من السيسي أخذه بقوة لقال إنه يقصد كتاب "ابلة نظيرة".. الكتاب العمدة في فنون الطهي والطبيخ!.
هذا المسار بدأ في التلاشي وإن كانت لا تزال أطيافه ماثلة، وتجلت في مقولة فريدة الشوباشي بأن السيسي هو
المسيح عيسي ابن مريم، وهو اكتشاف سابق لعصره، وإن كان الأمر يحتاج الي توضيح!.
فريدة كان مسيحية، ودخلت الاسلام، وتزوجت، وهو أمر لم يكن يمثل أزمة لدي اليسار المصري، وأحد رموزه وهو غالي شكري عندما قيل له وهو المهاجر في باريس، لن يشمله كرم العقيد القذافي لأنه نصرانياً، ذهب الى الجماهيرية ليعلن إسلامه أمام القذافي باعتباره "ولي أمر" الاسلام، وعندما عاد الى مصر بعد مقتل السادات، احتفت به الكنيسة ملتمسة له العذر، ولا نعرف مراسم دفنه علي أي ملة تمت، فهذا مما لا يشغل بالنا البتة!.
لا نعرف ما إذا كانت فريدة عادت، أم لا تزال في مكانها، والسؤال هنا ليس على قاعدة الطائفية، لأنها لو كانت عادت في ملتها، لتمكنا من الوقوف علي طبيعة "السيد السيسي"، من واقع فهمنا لطبيعة " السيد المسيح"، بحسب الفهم الأرثوذكسي لها، وهي الكنيسة التي كانت تنتمي لها فريدة، وربما لا تزال، وطبيعة السيد المسيح عليها خلاف بين الطوائف المسيحية المختلفة. ليتها سهلت علينا المهمة!.
ومهما يكن، فقد سقطت الأسطورة، ولم يجد أنصار السيسي سوي مجالاً آخر لتقديمه زعيما من خلاله، ظناً منهم أنه مجال لا ينافسه فيه احد، والذي بدا أنه منهج حياة، بعد إعلان السيسي نفسه أن المتحدث العسكري مطلوب في وظيفته لأنه "جاذب للنساء" علي حد قوله.
لقد فوجئنا بالدكتور حازم الببلاوي يعلن في دافوس أن الميزة التي دفعت لترشيح السيسي أنه وسيم ويمثل جذباً للنساء.
وقس يفترض فيه الوقار، بحكم وظيفته، يعلن في مؤتمر صحفي أنه يذوب عشقاً في السيسي، وأن النساء معذورات في حبه.
وشيخ أزهري معمم يدخل علي الخط من باب الوحدة الوطنية، ولتأكيد الاجماع الوطني، فيؤكد على أن السيسي وسيم.
رحم الله زماناً كانت للوسامة معايير أخرى، منها أن يكون الموصوف بها "طولاً في عرض"، وأن يكون شعره ناعماً كالحرير، " يهفهف" علي عينيه فيزيحه بيده في رقة ودلال!.
لا بأس فقد سقطت أسطورة السيسي الزعيم السياسي، والنبي المخلص، ونحن الان في مرحلة اختبارات الوسامة التي تشبه "اختبارات الحمل"، وهي مرحلة لا تمنع من أن يكون السيسي مثلي قديماً تربص بملابس العيد وقد ارتديتها قبل مجيء العيد خلسة.
إنها مصر عندما تصغر على يد الانقلاب، وتعود إلى مرحلة الطفولة، تمهيداً لعودتها الي مرحلة الجنين المستكين!.