عاش
التونسيون حدثا استثنائيا بمناسبة التوقيع على النسخة الأخيرة من
الدستور الذي حظي بتأييد 200 عضو بالمجلس الوطني التأسيسي، مقابل تحفظ أربعة، واعتراض 12 نائبا، وهي نتيجة لم تكن متوقعة نظرا لحدة الصراعات التي هيمنت في الفترة الأخيرة بين مختلف الأحزاب السياسية. لكن في اللحظات الحاسمة، تغلبت الروح الوفاقية لتسفر عن دستور نوعي في أغلب فصوله، كما تميز أحيانا بجرأة نادرة في اعترافه بحقوق وحريات تجاوزت ما كان متوقعا، وكادت أن تحدث تصدعات عميقة، خاصة داخل صفوف
حركة النهضة.
عندما تكتب الشعوب دساتيرها، فإنها في العمق تقوم بإعادة صياغة القاسم المشترك بين مواطنيها. وهذا خلاصة ما حصل في التجربة التونسية. فعندما تم تعليق العمل بدستور 59، انطلقت المغامرة في اتجاه بناء إجماع وطني جديد يرتكز على أهم التحولات التي مر بها المجتمع التونسي خلال أكثر من نصف قرن. وإذا كان الدستور السابق قد صاغته تحديات ما بعد الاستقلال، وفي مقدمتها بناء الدولة الوطنية، فقد سيطر على دستور الجمهورية الثانية هواجس بناء الديمقراطية بعد كلفة عالية جدا للاستبداد. ولهذا توجهت فلسفة الحكم التي هيمنت على عديد الفصول نحو توزيع واسع للصلاحيات، مما سيكون له الأثر العميق في القطع مع الزعيم الملهم، أو الحزب الحاكم المنفرد برقاب البلاد والعباد. ويكفي النظر في هذا السياق للباب الخاص بالسلطة المحلية؛ الذي أعطى صلاحيات واسعة للهيئات المنتخبة في الجهات والمناطق الأقاليم( مما سيكون له الأثر الكبير في تغيير طبيعة العلاقة بين المركز والأطراف داخل الوطن الواحد.
إلى جانب الهاجس السياسي، كانت الفصول الخاصة بصياغة العلاقة بين الدين والدولة من أكثر القضايا التي حولت الدستور عند البعض إلى لغم يصعب تفكيكه. ويعود ذلك إلى أن من بين أهم المتغيرات التي تفصل الأوضاع الحالية لتونس عما كانت عليه خلال مرحلة الاستقلال هو عودة العامل الديني بقوة إلى ساحات الفعل الاجتماعي والثقافي والسياسي. فمن قبل، اعتقد الرئيس الحبيب بورقيبة أن إغلاق جامع الزيتونة كمؤسسة تعليمية سيمثل القرار الحاسم في عملية التحكم في الدين والتدين، لكن ولادة الحركة الإسلامية في مطلع السبعينات كشف بأن التخطيط السياسي مهما كان محكما، فإنه لن يستطيع أن يضمن النتائج، أو يحول دون ولادة السيناريوهات الأكثر إزعاجا للسياسيين. فالثقافي أو الديني يمكنه أن يتحايل على الذين نصبوا أنفسهم مراقبين له، فيعود من الشباك بعد ان تم إخراجه من الباب.
لم تصمد الظاهرة الدينية / السياسة فقط أمام أدوات القمع والحصار، وإنما استطاعت أن تتطور وتتضخم إلى أن تحولت إلى قوة مهيمنة، فكانت في مقدمة المستفيدين من الثورة. وبناء عليه كبر معها هاجس الهوية، وكانت تتجه بقوة نحو إقامة دولة إسلامية تعيد للشريعة قوتها الفاعلة، وتجعل منها قاعدة دستورية ثابتة ومحكمة. لكن ردة فعل النخب قلبت الموازين، ودفعت بالشيخ راشد الغنوشي إلى أن يفرض على أنصاره تغيير الأولويات، والحرص على عدم التورط في تقسيم التونسيين في هذه المرحلة الدقيقة. ومع ذلك استمر الجدل حول كيفية تضمين المرجعية الإسلامية في دستور يقوم على أساس حماية الطابع المدني للدولة.
لقد انتصر العمق التونسي على الانتماء الحركي والأيديولوجي لحركة النهضة. هذه الحركة التي ولدت إخوانية، وحافظت طيلة مسارها على إقامة علاقة تاريخية وعضوية بحركة الإخوان المسلمين كتنظيم دولي وكخلفية دينية وثقافية، إلا أنها في كل محطة من محطات نموها تجد نفسها مدفوعة للأخذ بعين الاعتبار الخصوصية التونسية في مختلف أبعادها. وحتى عندما وصلت إلى السلطة أدركت أكثر من أي وقت مضى بأن الواقع الوطني أشد تعقيدا مما كانت تتوقع، وأن بقاءها ونجاحها مرهونان إلى حد كبير بمدى قدرتها على التكيف مع معطيات هذا الواقع. لهذا السبب عندما خاضت تجربة المشاركة في صياغة الدستور، حاولت في البداية أن تخضعه – على الأقل في بعض مفاصله الأساسية – لأهدافها وأولوياتها الفكرية والسياسية، غير أنها اصطدمت برفض أغلب القوى السياسية والاجتماعية والنخب الثقافية وجزء واسع من شرائح المواطنين، وهو ما دعاها إلى التراجع عن العديد من مطالبها، وأن تقبل بنوع من التوافقات المؤلمة، وهي التوافقات التي أصبح يسميها رئيس الحركة راشد الغنوشي بـ"التنازلات من أجل الوطن والديمقراطية".
هكذا تخلت الحركة عن الشريعة، وقبلت بالفصل الأول السابق لدستور 1957، وتراجعت عن كل ما من شأنه أن يفتح المجال أمام استنقاص حقوق النساء، ورضيت بالتنصيص على حرية الضمير وما يعنيه ذلك من حق الخروج من الإسلام، وساندت مبدأ توزيع السلطات لمنع الانفراد بالحكم، وتراجعت في الأخير بعد معركة شرسة مع القضاة لتقبل بتوفير كل الضمانات لاستقلال السلطة القضائية.
الخلاصة أن الانتقال الديمقراطي عمق المصالحة بين حركة النهضة وواقعها التونسي. أما ما سيترتب عن ذلك من تداعيات على بنيتها الداخلية، فهذا ما ستكشفه المرحلة القادمة.