في البداية أبارك لك ولنا ولفلسطين واليسار نيلك حريتك من معتقلات الاحتلال، منتظراً كتابات تتناول فيها قضية فلسطين وراهنيتها، والثورات العربية وتحدياتها، والماركسية وتجديداتها، متمنياً ألا يعكّر الاحتلال عليك ذلك في اعتقالات محتملة تطال جميع المناضلين.
رفيقي أحمد، يعود الفضل لقسم كبير من وعيي الفكري والسياسي لكتابك "مداخل لصياغة البديل"، وقد قرأته يوم كنت عضواً في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في مخيم "العائدين" في حمص، وطالباً جامعياً خلال فترة الانتفاضة الثانية. تركتُ الجبهة واحتفظت لتاريخها مكانة عندي كما لرموزها وعلى رأسهم الحكيم جورج حبش وغسان كنفاني، صاحبا الفضل الأكبر علي.
أقول ذلك رغم (أو بسبب) انتقاداتي الشديدة والعديدة لسياسة الجبهة الحالية وقياداتها وبعض قواعدها الملحقة بـ"القرارات المركزية" لهذه القيادات، ورغم (أو بسبب) ما وصلني من شتائم وتخوين واتهامات من بعض هذه القواعد المخلصة.
شاهدت المقابلة التي أجرتها معك "وكالة وطن للأنباء" فور خروجك من معتقلك وسمعت ما قلته عن الوضع السوري. ولاهتمامي بتجربتك النضالية والفكرية، ولكونك مثقفاً مستقلاً ونقدياً أولاً وأخيراً ولستَ قائداً سياسياً له ولحزبه اعتباراته وأولوياته وتخوفاته وارتباطاته الخاصة، أطرح عليك، ومن خلالك على مجمل اليسار الفلسطيني أفرادا وجماعات، بضعة أسئلة لا تنتظر أجوبة، بل فرصة للتفكير بها، بكل حرية وقدرة على الانتقاد.
بدأت حديثك عن
سوريا بالقول ان "المخطط الأمريكي الإقليمي المعادي للنظام سقط". هنا أسأل: هل تُختصر المسألة السورية كلّها بمخطط أمريكي أقليمي يعادي النظام؟ هل لمخطط خارجي أن يُخرج شعباً عن بكرة أبيه في مظاهرات سلمية اضطره عنف النظام إثرها لحمل السلاح؟ واختلاف أحدنا على مسألة حمل السلاح لا يضرب عدالة الثورة وأحقيتها.
ألا تجد في النظام السوري أسباباً ليثور السوريون عليه، اقتصادياً واجتماعياً وأمنياً مثلاً؟
تقول بأن "النظام صمد"، أمام من تحديداً؟ أمام المظاهرات الشعبية أم أمام القوى المسلحة أم أمام التهديدات الأمريكية؟ سياق حديثك يحيل إلى الأخيرة. لكن ضمن المسار السوري خلال ما يقارب الثلاث سنوات، ما الذي فعلـــته الإدارة الأمريكية غير الحرص على إيصال الوضع إلى ما هو عليه حالياً، من دمار للبنى التحتية والفوقية في سوريا، ومِن تفشٍ للجماعات الإسلامية المتطرفة والترهيبية (اسمح لي بالقول: سنّية وشيعية)؟ ولا يقود إلى ذلك غير ما سميته "صمود النظام" وبقاءه على ما هو عليه وبقاء
الأسد رئيساً.
وهي، انتهازية الإدارة الأمريكية وانتشار الجماعات الإسلامية، بالمناسبة العون الأكبر الذي يمكن أن يحوزه الأسد في حربه على الشعب السوري، وأنت أعرف مني بأن شعباً إن اتخذ قراراً بالثورة لن يعود عنه، فكيف لو تحدثنا عن ثورة تطلّب اشتعالها جرأة من نوع خاص يقابل مدى البطش المُتوقّع من نظام كنظام الأسد.
تقول بأن "المعارضة معارضتان، معارضة يمكن أن تحكي معها ومعارضة هي أصلاً غرباء". أختلف معك بأني أرى ثلاثة أطراف في سوريا: النظام والجماعات المساندة له عسكرياً، الثورة الشعبية والجيش الحر والتجمعات السياسية المعارضة، وطرف آخر اعتبَرته أحد أطراف المعارضة هي الجماعات الإسلامية المسلحة من "
النصرة" إلى "
داعش".
أولاً الغرباء هم من المشاركين عسكرياً مع جيش الأسد، وهم ضمن البنية الأساسية في هذه الحرب وهم وافدون على أساس طائفي ولمبررات طائفية من لبنان والعراق وباكستان وأفغانستان وإيران وغيرها، هؤلاء غرباء يا رفيقي.
وهنالك كذلك غرباء ضمن بعض الجماعات الإسلامية المسلحة وتحديداً "الدولة الإسلامية في العراق والشام، داعش"، أما "جبهة النصرة" فمعظم عناصرها من السوريين (المتطرفين الترهيبيين) وتحوي كذلك غرباء. أما أصحاب البلد فثائرون على كلا الطرفين.
أرجع لمسألة المعارضات، للجماعات الإسلامية أولويات ومصالح تختلف عما هي للثوار، سلميين مدنيين وعسكريين، أقول لدينا ثلاثة أطراف لأن كلاً من "النصرة" و"داعش" يقتلان ويعتقلان السوريين في المناطق التي يحتلانها، كما يفعل النظام في المناطق التي مازال يحتلها، هي تقاتل الجميع لتجد مكاناً تحت الشمس تعلن فيه إمارتها الإسلامية، فأتت إلى سوريا حيث الثورة وحيث الحرب وحيث الفوضى. عدا عن أن الأسد قد أفلت بعضهم من سجونهم بإعفائه الجمهوري الشهير.
كما يمكنك أن تقول بأن الإسلاميين هؤلاء في صف المعارضة يمكن لغيرك أن يقول انها في صف النظام، ويمكن لكليكما دعم فرضياته بحقائق.
تقول بأنه كان للشعب السوري في بداية تحركه "مطلب عادل ديمقراطي أما بعد ذلك أصبحت العوامل الإقليمية والدولية هي المؤثر الأكبر".
لكن أين صار هذا المطلب العادل الديمقراطي؟ طالب السوريون سلمياً ومن البداية بإسقاط النظام، إن كان هذا مطلب عادل وديمقراطي هـــــل لعوامل خارجية أن تحيله إلى غير ذلك ويدفع أحدنا لاختزال الموضوع بمؤامرة أمريكية، وأن النظام صمد؟ إن كان المطلب عادلاً من البداية سيظل حتى الأبد عادلاً، وأي تدخلات خارجية أو اصطفافــات إقليمية لا يمكن أن تحدث خللاً في مطلب كان في الأساس عادلاً.
إسقاط النظام إذن مطلب عادل لشعب يطالب به، وما زال، وتَقاطع مصالح أنظمة خليجية وعربية وإقليمية ودولية لا يهمّها من القضية السورية غير ما فيه مصالح لها، لن تؤثر في عدالة مطلب هذا الشعب وفي أنه يملك كل الأسباب لإشعال ثورته.
تقول بأن الحل هو "الحوار لإقامة نظام سياسي جديد ونظام قانوني يكفل الحرية للأفراد والمركبات السياسية والاجتماعية". هنا أتفق معك تماماً إن كان هذا النظام الجديد على النقيض تماماً من النظام الذي ثار الشعب عليه لمطالبه "العادلة الديمقراطية"، وهو نظام جديد لن يكون "للبعث" فيه مكان كونه أساس (بل وكل) النظام السابق/الحالي، ولن يكون للإسلاميين المتطرفين فيه مكان لأن فاشيّتهم لا تختلف عن فاشية نظام "البعث" في شيء.
تختم حديثك بأن هنالك الآن "قوى تكفيرية ضد الشعب.. يجب الاصطفاف لمواجهتها". تماماً، وهو، برأيي المتواضع، المَخرج كذلك. يجب الاصطفاف لمواجهة القوى التكفيرية للبدء بمرحلة جديدة في سوريا. هي أولاً القوى المساندة للنظام عسكرياً وعلى مبدأ طائفي (هي تكفيرية كذلك بالمناسبة)، وهي ثانياً الطرف الثالث، أي الجماعات الإسلامية المقاتلة لجميع الأطراف وعلى مبدأ طائفي كذلك. إن كان هذا ما قصدته، وهو ما آمله ولا أتوقعه حسب سياق حديثك (متمنياً أن أكون خاطئاً)، فلا خلاف في ذلك.
إضافة لكل ما ذكرت، وهي أسئلة حملَتها إلي أجوبتك في المقابلة، هل من أي اعتبار للفلسطينيين في سوريا؟ لما يعانونه من قتل ناتج إما عن التعذيب في المعتقلات أو التجويع والحصار والقصف والذبح.. لا تسألني عن المرتكب يا رفيقي، ولا تسأل قيادات الجبهة، اسأل أهالي المخيمات هناك.
هذه مجرد أسئلة سريعة لم أطرحها إلا لاعتقادي بضرورة مواجهتها بصدق وجرأة وحرية ونقدية وشمولية لم أجد أياً منها في خطابات اليسار الرسمي العربي والفلسطيني، و "الجبهة الشعبية" منه تحديداً، وأجدها فيك رفيقي، من خلال كتاباتك تحديداً كوني لم أعرفك إلا من خلالها.
(عن صحيفة القدس العربي 8 كانون الثاني/ يونيو 2014)