لنعترف بأن تحصيل عيالنا من
اللغة العربية مخجل ومؤسف ويكسف، (سأظل أطالب بترقية بعض الكلمات العامية إلى الفصحى بعد أن تصبح متداولة في كافة البلدان الناطقة بالعربية، كما يفعل أصحاب قاموس أكسفورد سنويا، ومن بين تلك الكلمات "يكسف" و"يبهدل" و"يشرشح" "يصيع" ومشتقاتها)، ويعزى ضعف الحصيلة ذاك إلى بؤس مناهج
تدريس العربية. وتحتم طبيعة عملي قراءة سير ذاتية لراغبين في العمل في مجال التلفزيون، واللغة هي العنصر الأساسي في الإعلام، وتليها مرتبة الصورة وغيرها من الأدوات. وقل لي ماذا تفعل عندما يأتيك طلب توظيف من واحدة اسمها هدى او ندى وتكون قد كتبت اسمها "هدي"/ "ندي".. أو يكتب شخص ما أنه يبحث عن وظيفتن.. يعني "وظيفةٍ" (قال نائب في البرلمان السوداني إن تلميذا في مدرسة سئل عن العشرة المبشرين بالجنة فذكر الرسول عليه السلام ثم أبو لهب). أجيال كاملة لا تميز بين الياء والألف المقصورة، ولا التاء المربوطة والمفتوحة، أما الهمزات فـ"خليها على الله".. أستاذ جامعي في الهندسة استنكر أنني كتبت "أبو ظبي" بالظاء، وليس بالضاد، وفشلت في إقناعه بأن طريقة نطقه للحرفين لا تمثل "مرجعية" لغوية.
لا أعرف الكثير عن الطرق المثلى لتدريس اللغة العربية، ولكنني حصلت على تدريبات مكثفة لتدريس الانجليزية. وفي تقديري فإن طرق التدريس في معظم الدول وفي كل المواد متداخلة وبينها قواسم مشتركة. وقبل أكثر من 35 سنة توصل معلمو اللغة الانجليزية إلى ضرورة إلغاء مادة القواعد/
النحو كمادة أو حصة مستقلة ومنفصلة، وهكذا. وفي معظم أنحاء العالم بما في ذلك العالم العربي يتم إعطاء الطالب جرعات خفيفة من قواعد اللغة الإنجليزية، في سياق قراءة وفهم نصوص مكتوبة او مسموعة، بمعنى ان يتم استنباط القاعدة والشواهد عليها من نص. ولو ظلت مناهج اللغة العربية عندنا جافة ومملة كحالها الراهن، فإن اللغة الفصحى ستصبح عما قريب "تخصصا" لنخبة النخبة. والنخب في جميع المجتمعات أقلية هزيلة العدد، ويزيد الأمر ضغثا على أبالة (وهذه العبارة ليست بالأوردو، وتعني أن الأمر تحول من سيئ إلى أزفت) أن التلفزيون، وهو أكثر أدوات الإعلام رواجا لأنه يشد الأميين والمتعلمين، وقع تحت سطوة مجاميع من الأميين لغويا ومعرفيا، فهدموا كل ما بناه الصحفيون العرب الرواد - في الصحافة المكتوبة والإذاعات خاصة - على مدى نصف قرن عندما نجحوا في استنباط لغة فصيحة وبسيطة لا تنطع فيها ولا تقعُّر.
وكشخص أمضى معظم سنوات عمره في مجال الصحافة/ الإعلام، أعرف كيف يثق العوام بمعظم ما يأتيهم عبر وسائل الإعلام. وفي المرحلة التي كنت أسعى خلالها لتحسين إلمامي باللغة العربية، كنت ألجأ إلى إذاعة بي بي سي (هنا لندن) للتأكد من صحة نطق واستخدام بعض المفردات. واليوم فإن نفس تلك الإذاعة والتي تظل أفضل من غيرها من حيث المحتوى، صارت تفتك باللغة العربية آناء الليل وأطراف النهار، حتى لصرت أحسب أن ضعف التحصيل اللغوي بات شرطا للحصول على وظيفة فيها. وإذا كان هذا حال أداة إعلامية ذات خبرة وإرث تراكمي ضخم، فما بالك بإذاعات وتلفزيونات سلق البيض التي تسلل إليها جهلة عصاميون كل رأسمالهم وسامة مصطنعة ويقدمون برامجهم بلغة المقاهي والأرصفة. وبالمناسبة فإن كثيرين يعرفون أنه حتى نظام التصحيح في الكمبيوترات يتسم بالغباء عند معالجة النصوص العربية، فيضع لك خطوطا حمراء تحت كلمات مكتوبة بطريقة صحيحة، في حين أن النظام الخاص باللغة الانجليزية لا يصحح الخطأ الإملائي فحسب بل النحوي أيضا، وما ذلك إلا لأن من أعدوا نظام التصحيح العربي كانوا قليلي الزاد والعتاد اللغوي.
لا أزعم أنني فطحل في اللغة العربية (وضع الكمبيوتر خطا أحمر تحت "فطحل")، ولكنني حريص على الاستزادة منها لأني أحبها بوصفها عنصرا أساسيا في تكويني الثقافي وبالتالي هويتي، وأخاف عليها من التلوث والتحنط والتيبس والتكلس. وأتمنى أن تختفي من مناهجنا – على الأقل في المراحل الأولى من التعليم النظامي- بعض دروس النحو التي تسبب التهاب القولون: الفاعل مرفوع بالضمة المقدرة على آخره منع من ظهورها التعذر!! طيب طالما الضمة غائبة ومعذورة فلماذا لا تسترونها بمنطق "الغائب عذره معه"؟ هل دراسة الطباق والجناس والاستعارات تسهم في تحسين إلمام الدارس باللغة؟ حتى بعض النقاد القدامى لم يستحسنوا قول أبي تمام:
السـيـــف أصــــدق أنبـــاء مـــن الـكتــب في حده الحد بين الجد واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف في متونهن جلاء الشك والريب
وفي نظر جيل الشعراء المعاصرين ففي هذين البيتين تلاعب غير محمود بالألفاظ لا يعتد به في الشعر الحديث!
ولماذا درسّونا الإعلال والإبدال في المرحلة المتوسطة؟ فيم يفيدني أن أعرف أن "ميناء" أصلا "موناي" لأنها من الفعل الثلاثي "وني"، بفتح الأحرف الثلاثة، وقلبت الواء إلى ياء لأنها جاءت بعد كسرة، وقلبت الياء إلى همزة متطرفة من الخلايا النائمة؟
وما أتمناه هو تخفيف جرعة النحو في مراحل التعليم كلها ومضاعفتها لمن يدرسونها في الجامعات والدراسات العليا، ولكن مع "الرأفة" التي تتمثل في عدم تلقين أي طالب ألفية ابن مالك، لأن حفظ عشرين بيتا منها يسبب تلفا في الذاكرة البشرية التي لا سبيل لإصلاحها بالـ"فرمتة" أو حقنها بمضادات الفيروسات.