ثلاث قضايا فساد منفصلة تم تحريكها في يوم واحد، واعتقالات طالت أكثر من 50 شخصا بينهم رجال أعمال وأبناء ثلاثة وزراء في
الحكومة، لتبدو كقضية واحدة مدوية، ويظن الناس أنها «قضية
الفساد الكبرى» في تاريخ البلاد، وأن المعتقلين كلهم مرتبطون بعضهم ببعض.
التغطية الإعلامية للمداهمات والاعتقالات كانت مثيرة للغاية، حيث نُشِرَت وثائق ومعلومات عن المتهمين والقضايا مع أن تسريبها قبل استكمال التحقيقات يعده القانون جريمة، كما تم توزيع صور على وسائل الإعلام على أنها صور تم التقاطها خلال المداهمات، ويظهر في بعض الصور جهاز عد النقود على فراش نجل وزير الداخلية، ليعتقد الناس أنه كان يعد نقوده في غرفة نومه بجهاز لكثرتها، ولكن شهود عيان قالوا إن رجال الشرطة هم الذين أحضروا ذاك الجهاز. وفي صورة أخرى تظهر كراتين مليئة بالدولارات قيل إنها تم العثور عليها في بيت الأمين العام لـ «
بنك خلق» إلا أنها كانت في الحقيقة صورة قديمة مأخوذة من مواقع الإنترنت.
لا أحد يصدق أن هذه القضايا مجرد قضايا فساد، لأن ملفات القضايا كانت جاهزة قبل ستة أشهر على الأقل، كما أن بعض الصور التي يتم تقديمها كدليل يعود تاريخها إلى عام 2009، ولكن حملة الاعتقالات تم تأخيرها إلى قبيل الانتخابات المحلية لتشويه صورة حزب العدالة والتنمية الحاكم وربطها بالفساد في أذهان الناخبين.
يبدو أن جماعة كولن خلال سنوات التحالف مع حكومة أردوغان كانت تستعد لمثل هذا اليوم وتجمع الأدلة والوثائق عن طريق رجالها في أجهزة الشرطة والاستخبارات لاستخدامها ضد أردوغان سواء للابتزاز أو لضربه وقت الحاجة، وتحفر له حفرة ليقع فيها إن لم يقبل مطالب الجماعة ووصايتها على الحكومة.
الجماعة ما زالت تصر على أن القضايا تتعلق فقط بالفساد ولا تستهدف الحكومة أو أردوغان، إلا أن معظم الكتاب والمحللين في
تركيا يرون غير ذلك ويقولون إنها صراع على السلطة ومؤامرة قذرة تهدف إلى تغيير الخارطة السياسية وإسقاط أردوغان عبر صناديق الاقتراع من خلال ربط اسمه بالفساد.
الكاتب الصحافي أحمد طاشغيتيران يشير في مقاله الأخير الذي ودَّع به قراء صحيفة «بوغون» التابعة لجماعة كولن، إلى أنه لا يرى القضايا الأخيرة مجرد قضايا فساد بل يعتقد أنها امتداد لمعركة أخرى، في إشارة إلى الصراع على السلطة. وأما الكاتبة الليبرالية غولاي غوكتورك فتلفت إلى البعد السياسي للقضايا وأن العملية تم التخطيط لها بعناية من حيث التوقيت والأهداف، وتشدد على ضرورة تصفية المنظمة التي تغلغلت في المؤسسات الحكومية وأجهزة الدولة كدولة داخل الدولة، وتصفها بـ «الخطر الذي يهدد الجميع»، وتشير إلى أنه لا يرى أحد نفسه في الأمان قبل تصفية تلك المنظمة.
الكاتبان نديم شينير وأحمد شيك، هما صحافيان معارضان للحكومة التركية، وتم اعتقالهما في قضية أرغينيكون، وأطلق سراحهما في ربيع 2012. وكانت الحكومة التركية تعرضت لانتقادات واسعة آنذاك واتهمت بالتضييق على حرية الرأي والصحافة، إلا أن الكاتبين الصحافيين يتهمان الآن جماعة كولن بالوقوف وراء اعتقالهما وليست حكومة أردوغان، بسبب كتاباتهما لكشف التنظيم السري للجماعة في أجهزة الشرطة.
محاولة ربط اسم رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان بالفساد والرشوة يصعب نجاحها لأن الرجل اشتهر لدى عامة الناس بالنزاهة والبعد عن جميع مظاهر الفساد، ولكن هذا لا يعني عدم وجود أي فاسد في حزبه أو في الأوساط المقربة من حكومته. وبالتالي، على حكومة أردوغان أن تضرب الفساد بيد من حديد وتعاقب الفاسدين في إطار القوانين دون النظر إلى وجود مؤامرة تستغل هذا الملف لضربها.
الشارع التركي يرفض تدخل الحكومة والعسكر في شؤون القضاء ولكنه يرفض أيضا تدخل الجماعة فيها، ويطالب حكومة أردوغان بمكافحة الفساد والفاسدين وكذلك محاربة المنظمة التي تستغل تغلغلها في أجهزة الدولة لأغراض سياسية وفرض وصاية على الإرادة الشعبية باسم الجماعة التي تنتمي إليها. وهذه فرصة لا تعوض للتخلص من الاثنين وتنظيف المؤسسات.
الحرب المفتوحة التي تشنها جماعة كولن ضد أردوغان قد تكلِّفها ثمنا غاليا لينقلب السحر على الساحر، لأنها فتحت الملفات القديمة، ووضعت الجماعة تحت المجهر، وأعادت إلى الأذهان ما قاله زعيم الجماعة فتح الله كولن في حادثة الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة وكذلك حث أتباعه على «شراء قضاة» إن اقتضى الأمر لكسب قضاياهم، وغيرها من الأقوال والمواقف التي بالتأكيد سيزعج الجماعةَ تذكيرُها.
المساحة المشتركة بين جماعة كولن والجماعات الإسلامية الأخرى لم تكن واسعة وهذه الحرب سوف تؤدي إلى تقليص تلك المساحة أكثر وقد لا تجد الجماعة من يقف إلى جانبها غير هؤلاء الذين يصفِّقون لها نكاية بحكومة أردوغان بسبب موقفها من الثورة السورية والانقلاب في مصر، ولكن هذا التحالف الهش والمؤقت لن يكون على الإطلاق لصالح الجماعة.
موقع العرب الالكتروني (22 كانون الأول/ ديسمبر 2013)