لولا التدخل الفاعل للديبلوماسية الكويتية لكانت قمة دول مجلس التعاون أمام امتحان كبير. الشيخ صباح الأحمد اصطحب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني قبل أيام من موعد القمة الـ 34 إلى الرياض لترطيب الأجواء بين قطر والسعودية. كان الهدف تبديد التوتر الناشيء عن التعارض في موقفي البلدين مما يجري في مصر. ثم كان التحرك الكويتي لإخماد عاصفة أثارتها تصريحات الوزير العماني المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي بن عبد الله الذي أعلن معارضة السلطنة قيام «اتحاد خليجي» حتى ولو أدى ذلك إلى مغادرتها المجلس القائم... ومرت القمة بسلام على قاعدة أن «الاختلاف مسموح لكن الخلاف ممنوع» كما عبرت إحدى الصحف الكويتية.
الاختلافات كثيرة بين دول المجلس، ويتوقع أن تستمر بفعل التطورات التي تشهدها المنطقة، والغموض الذي يكتنف مسيرة قيام نظام إقليمي جديد. وما فعلته الكويت هو إستعادة هذه الاختلافات والتباينات إلى داخل المجلس. ولا يعني هذا بالطبع زوالها. لكنها ستبقى تحت سقف المنظومة فلا تهدد مصيرها ومسيرتها. ستظل التحديات التي ظهّرت هذه المواقف المختلفة قائمة ما دامت الظروف والتداعيات التي استدعتها قائمة هي الأخرى. لقد تجاوز المجلس امتحانات قاسية طوال مسيرة ثلاثة عقود ونيف. فليس قليلاً أن يعيش الخليج ثلاث حروب مدمرة وينجو: الحرب العراقية -
الإيرانية التي استمرت نحو ثماني سنوات، ثم غزو الكويت وتحريرها ثم الغزو الأميركي للعراق. وقد تركت هذه الأحداث الكبرى تداعيات بدلت البيئة السياسية والمشهد الأمني في المنطقة برمتها. وجاءت عواصف «الربيع العربي» التي أطاحت ما بقي من أركان النظام العربي وأسسه لتفاقم حال الانكشاف في منطقة الخليج والشرق الأوسط عموماً.
توكأت دول المجلس طويلاً على المظلة الأمنية الغربية التي ربطت أمن الطاقة في الخليج بأمنها القومي وبمصالح الدول الصناعية الكبرى. ووفرت بذلك الأمن والحماية لهذه الدول حيال التهديدات والمخاطر. لكن المواقف الأخيرة للإدارة الأميركية ساهمت في مزيد من انكشاف دول مجلس التعاون. وبات على هذه الاتكال على قدراتها الذاتية في الصراع المحتدم لقوى كبرى في المنطقة تتسابق لملء فراغ جزئي سيخلفه تراجع دور واشنطن المتوجهة شرقاً إلى بحر الصين. لا جدال في أن الدول الست للمجلس تتشارك في مخاوفها من قدرات إيران العسكرية، ومن برنامجها النووي وترسانتها الصاروخية، ومن تمدد نفوذها وطموحها الجامح لقيادة المنطقة. ألم يدعُ الرئيس محمود أحمدي نجاد قمة المجلس في الدوحة نهاية العام 2007 إلى إنشاء «مؤسسات أمنية للتعاون» بين ضفتي الخليج، وإلى هيئات للتعاون في مجلات الاقتصاد والطاقة والتعليم والسياحة...؟ دعاها إلى طهران الساعية إلى اخراج القوى الكبرى من الخليج، وهو أمر شبه مستحيل نظراً إلى المصالح الحيوية والاستراتيجية لهذه القوى. وهو ما تعارضه أيضاً الدول الست الأعضاء في مجلس التعاون التي لا تخفي هواجسها الأمنية والعسكرية حيال طموح جارها الشرقي إلى قيادة المنطقة.
لم يسبق لدول الخليج أن واجهت في العقود الثلاثة انكشافاً بهذا القدر. سقط العراق، «البوابة الشرقية» التي دعمتها طويلاً للوقوف في وجه سياسة «تصدير الثورة» التي نهجها الإمام الخميني. وأخطر ما في هذا السقوط أن الإدارة الأميركية التي أطاحت نظام صدام حسين سحبت قواتها مخلية الساحة لإيران. لم تتخذ أي إجراء يطمئن حلفاءها الخليجيين أو يبدد هواجسهم من الآثار السلبية لهذا الانسحاب. من هنا مرد المخاوف المتجددة من مآلات الحوار القائم بين واشنطن وطهران. صحيح أن الولايات المتحدة لم تتخل عن مصالحها في المنطقة، لكن ما تغير هو سبل حماية هذه المصالح والدفاع عنها. وهي لم تراع هنا لسد الفراغ الذي قد يخلفه تراجع دورها سوى أمن إسرائيل. ولهذه الغاية كان تفكيك الترسانة الكيماوية
السورية، وربما على حساب المعارضة السورية و»اًصدقائها» وأهدافهم. ثم اتفاق جنيف لوضع البرنامج النووي الإيراني على سكة الرقابة الدولية لمنع تطوير سلاح ذري. وما يقلق مجلس التعاون هو توجه في السياسة الأميركية إلى إيكال مهمة حماية الأمن والاستقرار في هذا الإقليم أو ذاك إلى قوى إقليمية كبيرة هنا وهناك. وفي عالم عربي متحول باستمرار بفعل «عواصف التغيير» التي لم تهدأ ثمة ميل أميركي نحو التفاهم مع الجمهورية الإسلامية، بصرف النظر عما يخلفه هذا التفاهم من إضرار بمصالح حلفائها العرب التاريخيين... على غرار ما حصل في العراق، وما قد يحصل في أفغانستان حيث حاجة الإدارة ماسة إلى التفاهم مع طهران وموسكو عشية الانسحاب من كابول.
يكفي مثل هذا السيناريو لمضاعفة مخاوف أهل الخليج الذين اطمأنوا طويلاً إلى قاعدة ثلاثية من
السعودية ومصر وسورية لم تعد قائمة في ظل التطورات الأخيرة. بل في ذاكرتهم صورة تجربة لم تعمر قامت لترسيخ هذه الثلاثية ومأسستها، عندما قام ما سمي «إعلان دمشق» وضم مصر وسورية إلى الدول الست. وأشير يومها إلى ضغوط أميركية كانت، مع أسباب أخرى، وراء انفراط هذا العقد. كانت واشنطن تسعى إلى «حبس» مصر داخل حدودها المحلية والحد من دورها الإقليمي، خصوصاً في الخليج الذي طالما اعتبرته جزءاً من فضائها الأمني والاقتصادي الحيوي.
حيال هذا التبدل العميق في البيئة السياسية الذي فرضته التطورات المتسارعة، كان طبيعياً أن تتباين مواقف دول مجلس التعاون، خصوصاً بين
عُمان والسعودية. كان الموقف العماني صادماً. لكنه لم يكن مفاجئاً بالقدر الذي صُوّر به. كان طبيعياً، في ظل الأجواء الملبدة التي تعيشها دول مجلس التعاون، أن يبالغ بعضهم في قراءته ولكن ليس إلى حد الحديث عن «خطة لتدمير» هذه بنية عمرت ثلاثة عقود. كأن العوامل التي استدعت قيام هذه المنظومة ربيع العام 1981 كانت أشد خطورة مما يواجه دول الخليج هذه الأيام. أو كأن هذه المنظومة لم تنج من أتون ثلاث حروب كبيرة زلزلت المنطقة. لذا لم يكن متوقعاً أن ينفرط هذا العقد أمام التحديات الآنية الخطيرة، على رغم التباينات بين الدول الست من هذه الحرب وغيرها من الأزمات. فالمجلس رأى النور وسط دخان الحرب العراقية - الإيرانية. وبينما رأى معظم دوله مصلحة في دعم نظام الرئيس صدام حسين، كان للسلطنة موقف مختلف. ارتأت «النأي بالنفس». ولم يثنِ صدام عن سعيه لاستخدام طائراته الحربية أجواء عُمان ومطاراتها لمهاجمة الجمهورية الإسلامية، إلا عندما لوّحت مسقط باستعمال القوة لمنع هذا الأمر.
وفي السياق نفسه كان غياب عُمان عن القمة التي عقدت في بغداد إثر قبول طهران وقف النار، وعشية غزو الكويت. لم يرق لها أن «تبايع صدام زعيماً على العرب»، كما عبر بعض ديبلوماسييها. وجاء موقف عُمان في سياق سياسة عامة نهجتها طويلاً قبل ذلك. فقد غابت عن قمة بغداد التي عقدت في نهاية العام 1978 وقررت إسقاط عضوية مصر الذاهبة إلى اتفاقي كمب ديفيد، ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس. بل إن السلطان قابوس توجه في زيارة رسمية للقاء الرئيس أنور السادات!
ولعل القدر الكبير في هذا التباين مرده - بين عوامل أخرى - إلى واقع الجغرافيا والإرث التاريخي والثقافي والاجتماعي. فبخلاف دول شبه الجزيرة التي تنظر تاريخياً إلى الشمال، إلى بلاد الشام وبعدها إلى أوروبا، تتطلع السلطنة نحو الجنوب والشرق، من شرق القارة السمراء إلى المقلب الآخر من الخليج وبحر العرب، إلى الهند وباكستان وإيران وما بعدها. هذه النظرة مثقلة بصفحات طويلة من النفوذ العماني الذي امتد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر من بحيرات أفريقيا الوسطى إلى شبه القارة الهندية، في ظل «السلطنة» العمانية في مسقط وزنجبار، إلى أن سقطت الأخيرة، «الأندلس الأفريقية»، كما يحلو لبعض العمانيين أن يسميها، في العام 1964 وتهاوى الحضور العربي هناك.
ومن واقع الجغرافيا والتاريخ أن السلطنة لا تزال تحفظ للإيرانيين الدعم العسكري الذي قدمه الشاه في مواجهة «ثورة ظفار» من 1965 إلى 1975. هذا حتى لا نتحدث عن العلاقات الاجتماعية التي تربط بين العمانيين والإيرانيين. وهو ما تشي به الديموغرافيا العمانية وتنوعها المذهبي والعرقي، العربي والبلوشي والباكستاني والهندي والسواحلي. وهناك سيل من الاتفاقات المبرمة بين السلطنة والجمهورية الإسلامية، المتجاورتين في مضيق هرمز، ليس آخرها «اتفاق التعاون الأمني» (2009)، واتفاق التعاون الدفاعي واتفاق تصدير الغاز (2013). هذه الحقائق الجغرافية - التاريخية لا يمكن أن تزول بسهولة مهما تعاظم التلاحم بين دول مجلس التعاون. وحسناً فعلت الكويت بنزع فتيل المواقف المختلفة، خصوصاً من ملف التعامل مع الجمهورية الإسلامية. ولكن يبقى على السلطنة التي وجدت مصلحة في أداء دور مسهل للحوار بين طهران وواشنطن، أن تجد السبيل لدعم أشقائها في مواجهة مصيرية مع الجمهورية الإسلامية فوق أكثر من بقعة مشرقية. وهي تدرك بالتأكيد أن خسارة السعودية لسورية ومعها لبنان بعد العراق سيترك آثاراً مدمرة على مستقبل شبه الجزيرة والإقليم برمته. وعندها لن ينفع مجلس تعاون ولا اتحاد خليجي... ولن تكون السلطنة بمنأى.
ليس المطلوب أن تصطف دول الخليج في موقف واحد موحد، فهذا لم تصل إليه أوروبا التي يجمعها اتحاد واسع. المطلوب أن تحث الدول الست الخطى على طريق توحيد منظومتها من القوانين والشرائع ومؤسسات الحكم وأدواته، خصوصاً في الميدان الاقتصادي. صحيح أنها قطعت شوطاً كبيراً في هذا الميدان، لكن الطريق لا يزال طويلاً لتحقق الحد الأدنى من المساواة في المجالات المالية والاجتماعية والتنموية والخدماتية، ومن القوة العسكرية المشتركة والمعتبرة... عندما يشعر أهل الخليج جميعهم بجدوى المصالح والمنافع الاقتصادية وبتوافر القوة الذاتية التي يقدمها مجلسهم يحسنون اختيار السياسات التي تحافظ على هذه المكاسب بعيداً من إرث التاريخ وتقاليده وثقل الجغرافيا وثوابتها، وبعيداً من المخاوف والهواجس حيال هذا الجار وذاك!
(عن الحياة اللندنية)