لاحظ تشارلز آدامز ما سبق للوثرب ستودارد أن لاحظه في ما يتعلق باتجاهات التفكير في الشرعية في أذهان النُخَب الإسلامية. لكنّ آدامز كان معنياً بالوضع في مصر في الفترة 1910- 1930. وأهميةُ ملاحظاته أنه ما كان معنياً بالحركة الإصلاحية أو ما صار يُعرف بتيار محمد عبده فقط، بل وبالتيارات الإسلامية الأُخرى، أو ما سمّاه تيار الجمعيات الدينية والخيرية. فقد ظهرت مئاتُ الجمعيات التي كانت لها ثلاثة أهداف معلنة: إحياء الوعي الديني أو تجديده، والأعمال الخيرية والاجتماعية، والأعمال التربوية في مجال الهوية الموجَّهة الى الأطفال والفتيان.
وقد افتتح هذا النوعَ من الجمعيات في القرن العشرين ظاهراً الشيخ محمد عبده في «الجمعية الخيرية الإسلامية». بيد أنّ الجمعيات الأُخرى كانت مهتمةً أكثر بالوعي الديني بالتحديد. فجمعية عبده كانت إصلاحيةً نهضوية مثل جمعيات المقاصد في القرن التاسع عشر. أما الجمعيات الجديدة فهي إحيائية معنية بإحقاق الهوية ومكافحة التغريب. ومن ذلك الجمعية الشرعية، وجمعية إحياء الكتاب والسنّة، وجمعية الشبان المسلمين، وجمعية الإخوان المسلمين.
ومما له دلالته أنّ حسن البنا سمَّى جمعيته «جماعة» بخلاف الآخرين. وهو مصطلح سنّي عريق ربمّا زوَّده إيّاه رشيد رضا. وله دلالات عدة وفق المصادر: الأمة في موطنٍ معين، والإجماع الفقهي، والاجتماع على إمام. وقد امتدت ظاهرة الجمعيات إلى بلاد الشام والعراق.
لقد سقطت الخلافة التي ما كانت تحكم في مصر منذ العام 1805 على الحقيقة. لكنّ رمزيتها ظلّت على علاقةٍ بالشرعية التأسيسية للوحدات الثلاث السالفة الذكر، وشعور عامة الناس بأنهم ينتمون إلى أمةٍ واحدةٍ على اختلاف تجلياتها. وما كان الاستعمار احتلالاً فحسب، بل أحدث تغييراتٍ اجتماعيةً مزلزلة ليس في الواقع فقط، بل وفي الوعي أيضاً. وصحيح أن الحركة الوطنية المصرية في مرحلتيها: مرحلة مصطفى كامل، ومرحلة حزب الوفد، كانت تستقطب الوعي الحداثي، ولها جمهورٌ هائل، لكنّ ذوي الذهنية الدينية على ضآلة أعدادهم في البداية، كانت حركة الوعي لديهم مختلفة. وبعبارةٍ أُخرى، فإنّ هذه الجمعيات كانت تتحول إلى بؤرٍ هي البقية الباقية للشرعية الدينية بمعناها العميق. وهذا الأمر تجاوز حتّى المؤسسات الدينية، فالأزهر على سبيل المثال، ما وجد حرجاً في تركيز الشرعية في النظام الملكي الناشئ، وإن شاركت قلةٌ من علمائه في الجمعيات. وقبل ذلك وبعده - وبعكس الجمعيات الخيرية العامة مثل جمعية عبده السالفة الذكر -، فإن نجاحات الجمعيات الجديدة لم تتمثل في أعمالها الخيرية، بل في تركيزها على مسائل الهوية والانتماء، وعلى قياداتها الكارزماتية. وهكذا فإنه ومنذ أواسط الثلاثينات بدا أنّ أنجح جمعيتين هما: جمعية الشبان المسلمين، وجمعية الإخوان المسلمين.
وقد أثار ذلك اهتمام هيوارث –دن تلميذ تشارلز آدامز، الذي يبدو أنه كان مكلفا من الاستخبارات البريطانية متابعة نشاط تلك الجمعيات. فقد شبّهها بحركات الإحياء البروتستانتية العاملة عادةً على نهوضٍ دينيٍ جديد، وهي معاديةٌ للغرب، لكنّ البنّا زعيم أكبرها مِرنٌ ويمكن التفاوُض معه. وقد أفاد البنا في حركته أو جمعيته من أربعة أمور: وعيه الحادّ بحركات الإحياء الديني، حركات الجهاد والهجرة وآخِرها الحركة السنوسية التي كانت لا تزال تقاتل الإيطاليين في ليبيا، واعتباره أنّ الباقي للشرعية الإسلامية وحسْب الدولة السعودية الناشئة على نهج الكتاب والسنة، والقدرة التنظيمية الهائلة، وعدم القطع مع سائر التيارات الوطنية الراديكالية وغير الراديكالية التي يتشارك معها في الوعي القاطع ضد الاستعمار والتغريب، وإن لم تشاركه رأيه في تركُّز الشرعية أو انكماشها إلى حدود تنظيمه. ولذلك استظهرتُ أنّ التنظيم أو بؤرة الشرعية الباقية والمتجددة تقدَّم لدى الإخوان المسلمين بالذات على اعتبارات العقيدة في السنوات العشر الأُولى. ولذلك فقد عمد بعد اتساع التنظيم، إلى اجتراح «النظام الخاص» 1938/1939. وأعضاؤه المرتبطون به وحده هم خلاصة أو نخبةُ النخبة في التطابق الناشئ بين التنظيم والعقيدة. ويبدو ذلك على خير نحوٍ في رسالة البنا للمؤتمر الخامس. فالأهداف هي: تكوين الفرد المسلم، ثم الأسرة المسلمة، ثم المجتمع المسلم، ثم الحكومة المسلمة، فالدولة، فالخلافة الإسلامية، فأُستاذية العالم. ويتم ذلك على ثلاث مراحل: مرحلة الدعاية والتعريف والتبشير بالفكرة، وإيصالها إلى الجماهير من طبقات الشعب، ثم مرحلة التكوين وتخيُّر الأنصار وإعداد الجنود وتعبئة الصفوف من بين هؤلاء المدعوين، وبعد ذلك كله مرحلة التنفيذ والعمل والإنتاج.
إعادة تأسيس
فماذا يعني هذا كلُّه؟ إنه يعني أنّ أزمة الشرعية في نظره وصلت إلى أعمق الأعماق. ما عادت هناك دار إسلام، ولا عادت هناك مرجعية إسلامية بزوال الخلافة. وما عادت المشكلة تنحلُّ حتى بتنصيب خليفةٍ أو زعيم في إحدى البقاع. بل لا بد من العودة إلى مرحلة «دعوة الإسلام» إذا صحَّ التعبير بتربية أفرادٍ عليه بعيداً عن أوضار ثقافة الاستعمار، والدولة المتغربة الناشئة، ثم المُضيّ قُدُماً بالتنظيم الذي يعيد المجتمع المسلم فالدولة والخلافة. ولذلك ففي حين انهمك الجميع بمن فيهم أستاذه محمد رشيد رضا بمحاولات استعادة الخلافة، ومصارعة أعدائها، رأى حسن البنا أنّ الموقف بلغ من الفساد حداً يذكّر بظروف دعوة النبي محمد (صلى الله عليه وسلّم) الأُولى، أي أنّ الأمر هو أمرُ إعادة تأسيس، تكون فيه النواةُ ذلك التنظيم الذي أقامه لاحتضان الشرعية أو الدعوة الأُولى أو الجماعة الأولى، ثم تأتي الخطوات التالية بحيث تكون الخلافةُ المكتملة الشرعية هي نهاية المطاف. وما ذكر الشيخ البنّا مسألة الهجرة إلاّ عَرَضاً، مع أنها جزءٌ من التأسيس للإسلام الأول. لكنّ سيد قطب ذكرها وركّز عليها. وبالطبع، فإنّ الظروف كانت قد تغيرت تغيراً كبيراً، لكنها كانت في الواقع وظلت ضمن المشروع الأصلي، وإن كانت هجرةً داخليةً أيام البنا، وصارت هجرةً للمجتمع الجاهلي أيام سيد قطب. فالشرعية لدى البنا تحتاج في تكونها الجديد إلى الهجرة الداخلية، إلى البؤرة أو التنظيم أو دار الأرقم بن أبي الأرقم، وحذارِ من الهجرة الخارجية لأنّ تجاربها فشلت خلال أكثر من قرنٍ بسبب التغول الاستعماري بالهند والجزائر وليبيا على وجه الخصوص. وهذا التركُّز للشرعية في التنظيم في زمني الجاهلية والغفلة هو الذي حقّق ثلاثة أمور: كارزماتية التنظيم أو الجماعة، وكارزماتية المرشد أو الإمام الذي جرى الإقبال على مبايعته، وبالتبع كارزماتية الهدف وهو الدولة الإسلامية. ولذلك، فإنّ التنظيم يستعصي على الانقسام أو التزعزُع في أزمنة الملاحقة والاضطهاد بالذات، ولو لم يبق منه خارج السجن إلاّ ثلاثة أفراد كما قال لنا الراحل الشيخ محمد الغزالي نقلاً عن البنّا في إحدى المرات. فمن غير المتصوَّر أو المعقول أن تختفي الجماعة، أو يحدث ما جاء في الأثر الذي يرويه مسلم عن إمكان اختفاء الجماعة والإمام، باعتبار ذلك من أمارات يوم القيامة!
ومع ذلك، فالذي أراه أنّ الدخول بعد التكون التنظيمي والآخر العَقَدي، في مشروع الدولة الإسلامية أو الحاكمية أو النظام الكامل، ليس من عمل الشيخ حسن البنا المباشر بالتحديد، وإن يكن من ضمن أهدافه بالطبع. ذلك أنّ الدولة أو الاستيلاء على السلطة لتحقيق المشروع ضروريٌّ لاكتمال الشرعية. فالنبي (ص) ما بُعث إلاّ لإقامة دولة الدين التي تتأستذ على العالم، كما فهم البنّا من قوله تعالى: لتكونوا شهداء على الناس - وقوله: ليُظهره على الدين كُلِّه. لكنّ البنّا شهد الأهوال التي صاحبت قيام دولة باكستان الإسلامية عام 1947. وفي الوقت نفسِه كان قد بدأ صِلاته بضباط الجيش، فربما اتجه تفكيره إلى استخدامهم وسيلةً للوصول إلى السلطة، وتحقيق برنامجه من خلال ذلك في المدى الأطول. وعلى أي حال، فإنه قُتل عام 1949. والذين خَلَفوهُ فكّروا فوراً بإكمال المشروع والمشروعية من خلال السلطة التي يتولَّونها بأنفُسهم. وما ارتعبوا مثله من تجربة باكستان، بل على العكس، صارت باكستان النموذج والمثل. وما تراجعوا عن ذلك رغم انتكاسة العام 1954. بل إنّ ذلك دفعهم لإكمال الإطار النظري لإسلامية الدولة مسترشدين بكتابات أبي الأعلى المودودي التي تفعل أمرين: جلاء أبعاد الطهورية الإسلامية التي يستحيل معها تعايش الإسلام والكفر في دارٍ واحدة - والترتيبات التنظيمية للدولة في ظلّ الظروف الحديثة المعتبرة في إحلال الشرعية.
وعندما يتحدث الدارسون عن ذلك اليوم بل وخلال العقود الماضية، ينسبون ذلك إلى سيد قطب. ولا شكّ في أنه كان الأبلغ في التعبير عن المشروع الحركي والنظام الكامل تحت قبعة الحاكمية. لكنّ آخرين كثيرين كتبوا في ذلك قبل سيد قطب. فالمشروع للدولة الإسلامية التي تطبّق الشريعة قائمٌ كلُّه في كتاب عبدالقادر عودة: الإسلام وأوضاعنا السياسية، وكتابه الآخر: الإسلام وأوضاعنا القانونية. بل إنّ عودة يعتبر أنّ الإخوان تأخروا كثيراً في العمل الجاد من أجل إقامة الدولة، لأنّ الدين هو الدولة، والدولة هي الدين، والشريعة هي التي تتقدم على الأمة وتعطيها الشرعية لما تقوم به وفقاً لمبادئها وأحكامها. بل إنه يخشى أن يؤثّر هذا التأخُّر في السعي الحثيث إلى تبخُّر شرعية التنظيم أو تبخر الشرعية من التنظيم. وفي حين يعتبر البعض استناداً إلى كتاب «دُعاة لا قُضاة»: الصادر عن شيوخ الجماعة في السجون أواخر الستينات، أنه كان هناك مشروعان في الإخوان: المشروع الدعوي غير الدولتي الذي رعاه تيار حسن الهضيبي والتلمساني والآخرين باعتباره المعبِّر عن روح مشروع حسن البنا- والمشروع الراديكالي الثوري الاستيلائي الذي قاده سيد قطب، فإنّ الذي أراه أنّ مشروع قطب مجرَّداً عن حواشيه البلاغية والإبلاغية والإنشائية هو الأكثر تعبيراً عن دعوة الإخوان الأولى بزعامة حسن البنا. وربما جاء الكتاب المذكور الذي روَّجت له إدارة السجون المصرية، تعبيراً عن الانكسار الذي نال من الشيوخ نتيجة الاضطهاد، أو أنه كان حمايةً لأعضاء التنظيم من الإبادة. قام تنظيم الإخوان لاستعادة الشرعية التي انفقدت في كل مكان بهذا القدر أو ذاك، ولذلك كان حسن البنا من قبل مثل سيد قطب من بعد، على اختلاف الزمان بل والمكان (في السجن أو خارجه). ويكون علينا ألا ننسى أنّ عقائديات وعنفيات سيد قطب ثم القرضاوي ما واجهت التحديات التي واجهتها «دعوة» حسن البنا. ففي النصف الثاني من الستينات كانت الحتميات في أوجها لدى اليساريين العرب أو القوميين المتحولين إلى اليسار. وفي نظر القرضاوي أنه إذا كانت القومية حتمية، وكذلك الشيوعية، فلماذا لا يكون الحلّ الإسلامي حتمياً؟! والمعروف أنه في الوقت نفسه، فإنّ شرعية الدولة الوطنية العربية، كانت تتعرض للاستنزاف على أيدي العسكريين.
إنّ السرعة الهائلة التي استعاد فيها التنظيم حيويته منذ مطالع السبعينات، وخططه لنشر مفهومه للشرعية أفقياً في المجتمع، ورأسياً في أحشاء الدولة، ليس دليلاً على قوة التنظيم فقط، بل هو دليلٌ أيضاً على عقائدية التنظيم، ويقينه بضرورة إقامة الدولة الإسلامية. أمّا الذي عاد فيه التنظيم إلى أسلوب حسن البنا بالفعل فهو التخلّي عن فكرة الصراع المسلَّح تحت اسم الجهاد لإقامة الدولة، على المستويين المحلي والعالمي، واعتماد الانتشار التدريجي للتغلغل في بطن السلطة، وللسواد الاجتماعي والقيمي أو ما سمّيتُه في إحدى دراساتي: السمتية الإسلامية، وهي أبرز ظواهر الصحوة. وقد واجهت تلك السْمتية بل وتسببت في ثلاث مشكلات: انفجار الجهاديات من قُطبيي الإخوان ومتسلِّفيهم، وإعراض الطبقات الوسطى والمدينية عنهم، والشُبُهاتُ من حولهم في المجتمع الدولي. ويحتاج الأمر إلى بحثٍ مستفيضٍ في كيفية تجاوُزهم لعقبتي الجهاديين، والمجتمع الدولي. لكنني أُريدُ التركيز على مسألة القبول بهم من جانب الطبقات الوسطى في المجتمع المصري والمجتمعات العربية الأُخرى، لاتصال هذا الأمر بمسائل الشرعية والتأهُّل والتمكين التي هي موضوعُ هذه الورقة. فمنذ عبدالقادر عودة ومحمد الغزالي ومحمد محمد حسين وإلى سيد قطب ومحمد قطب والقرضاوي في مرحلته الأُولى، جرى التركيز على الانفصال الشعوري والثقافي والتربوي والقانوني والسياسي عن العصر وأنظمته وثقافاته، حتى لقد صارت هذه الطهورية وهذا التأصيل أحد أسباب قوتهم التنظيمية، وأساس كل ذلك بالطبع تركُّز «الشرعية» المرتبطة بالشريعة في التنظيم أو في الجماعة. في الوقت الذي عمقت فيه هذه الانفصالية الإحساس بعدم تأهُّلهم للسلطة في مجتمعٍ كالمجتمع المصري. إنما في ثمانينات القرن الماضي وتسعيناته، جرت مساعٍ حثيثةٌ لجعل السمْتية الانفصالية أو التمامية استيعابيةً إذا صحَّ التعبير. وما ظهر ذلك في سلوكهم تجاه فئات المجتمع المدني، وأطراف المجتمع السياسي فقط، بل كانت له مظاهر قانونيةٌ وتشريعيةٌ. فعلى أيدي عشرات القانونيين والفقهاء الدستوريين الحاضرين في صفوفهم أو المتقربين منهم، جرى نشر فهمٍ لحكم الشريعة يجعلها مُساويةً لحكم القانون في الدولة الحديثة. كانت الشريعة قد صارت لها طبيعة القانون المُلْزم ضمن مقولة النظام الكامل لكنها كانت هناك ذات أصل تكليفي إلهي، أمّا هنا فقد اختلف الأمر، بمعنى أنّ المؤوِّلين والمرشِّدين ذهبوا إلى انّ حكم الله (المتجلِّي من خلال الشريعة) لا يختلف في تنزلاته الواقعية عن القوانين ذات الطبيعة الديموقراطية في الدول المعاصرة. ولذا فبدلاً من كتابات الأربعينات والخمسينات والستينات عن التمايز والقطيعة والافتراق بين الشريعة والقوانين الوضعية والنظام الثالث، صار «النظام الإسلامي» المراد إنشاؤه أو إقامته إنما يرعى حقوق الناس وحرياتهم، ويحافظ على مدنيتهم، ولا ينقض أو لا يسعى لأن ينقض ما وصل إليه الناس في الدول الليبرالية، وفي النظام العالمي. ولذا، فإلى جانب التسوية بين حكم الشريعة وحكم القانون، عادوا إلى الاستعانة بمقولة الشاطبي (-790هـ/1388م) في مقاصد الشريعة، فكثرت في الأوساط القريبة منهم كتابة الدساتير الإسلامية، والإعلانات العالمية لحقوق الإنسان في ظلّ الضرورات الخمس لمقاصد الشريعة لدى الفقهاء. وكما سبق القول، فإنّ أساتذةً كثيرين معروفين، وما كانوا محسوبين على الإخوان وإنما على السمْتية الإسلامية الجديدة، دخلوا في هذه التسويغات، التي أفاد منها الإخوان في إغناء مخزونهم الحِجاجي والنشري. لقد صاروا في نظر أبناء الطبقة الوسطى في التسعينات يشبهون حزباً من الأحزاب الديموقراطية المسيحية المحافظة في أوروبا. فبدوا ملائمين ومتلائمين، ليس فقط للفئات الريفية التي يحظون بشعبية فيها. بل ولفئاتٍ مدينيةٍ واسعةٍ رأتهم يتجنبون العنف، وغير المألوف، ويحترمون القوانين، ويدخلون في الرأسماليات النيوليبرالية، ولا يشاركون في الفساد، ويتمدّحون بالشريعة باعتبارها القانون الأمثل لا أكثر ولا أقلّ.
تحوّلات ضخمة
استطاعت الإسلامية الجديدة خلال ستين أو سبعين عاماً، إجراء تحولات ضخمة في الفهم للدين وعلائقه الاجتماعية والدولتية والعالمية. ومن خلال تلك التحويلات، صار الإسلاميون حاجةً وأحياناً ضرورةً في بعض المجتمعات العربية والإسلامية بالمعاني الأخلاقية والاجتماعية والسياسية. وصحيح أنّ السلفيين يشاركون الإخوان اليوم باعتبارهم أحد جناحي الإسلامية الجديدة عند أهل السنّة، لكنّ السلفيين انفجاريون ولا يملكون رؤيةً سياسيةً متماسكة ولا تنظيمات متماسكة. ولذلك يظلٌُّ الإخوان متسلِّفين – كما يسميهم الباحث الراحل حُسام تمام - وغير متسلِّفين هم الفريق الأبرز في هذا الإسلام السياسي. ويذهب باحثون مثل أوليفييه روا وجيل كيبيل وسعد الدين ابراهيم وفرانسوا بورغا إلى أنّ الإسلام السياسيَّ هذا فشل وهو في طريقه إلى الانقضاء. لكنني أرى أنّ له مستقبلاً في مجتمعاتنا إن لم يكن في سلطاتنا لأسباب عدة، أولها تأسُّسه على فكرة أو عقيدة استعادة الشرعية التي حظيت بوزنٍ مُضاعَفٍ بسبب تضاؤل الشرعية الأُخرى، شرعية الدولة الوطنية العربية. كان لدينا من جهة مقولة الشرعية المتشبثة بالشريعة بوجهها الجديد ذي الجانب العقائدي/ السياسي والتنظيمي. ولدينا من جهةٍ ثانيةٍ الدولة الوطنية العربية ممثَّلةً بعسكريات صدام والأسد والقذافي التي تخلّت عن الدولة والمشروع، وانصرفت إلى المذابح والتقسيمات بالداخل، والاعتماد في البقاء في السلطة على التوازنات الدولية والإقليمية وصولاً إلى الاستقرار في أحضان الهيمنة الأميركية المتجددة. وثانيها اكتسابه مشروعية وثقةً بنفسه وفي النظر العام بالفوز في الانتخابات بعد الثورات فقد كانت لدى الإخوان والحركات المشابهة دائماً مشكلةٌ مع الجمهور، ولذا بدوا حتى هزيمة العام 1967 حركات أقليةٍ وعنف. ولذا ما كان إعراضهم وما كانت جدالاتهم مع الديموقراطية لأنها غربية وتغريبية فقط، بل وللإحساس بأنّ الناس لن يحسموا الأمر لمصلحتهم حتى في انتخابات حرة. لقد كانوا يقولون ويكتبون: كيف نُقدِّم حكم العامة على حكم الله في صناديق الاقتراع على فرض حريتها وهي ليست حرة؟ ومن قال إنّ السيادة للشعب كما في الديموقراطيات الغربية، بل هي لله عز وجلّ. لكنّ سقوط كل شرعيةٍ للأنظمة السائدة، ثم ما أُجري من تلاؤماتٍ وتأويلاتٍ بين المرجعية العليا، والديموقراطية الإجرائية، ثم حدوث الثورات التي ركبوا أمواجها، كل تلك الأمور دفعت شرائح عريضةً من الجمهور باتجاههم. وقد أكسبهم ذلك ثقةً بالنفس ما كفّ من غربها قليلاً غير ما اقتطعه منهم السلفيون في صناديق الاقتراع. وما قلّل ذلك من سواد عصمة الشريعة لديهم، بل إنّ أحدهم قال إنّ الجمهور إنما أقبل على حكم الشريعة والجماعة صَوناً لإيمانه. إضافةً إلى أنّ ذلك صار مفيداً في المشهد العام، وفي المشهد الغربي. وبالطبع، فإنّ الفشل في إدارة السلطة كان يمكن أن يؤثر في شعبية الإخوان وحتى في شرعيتهم. إنما للأسف، فإنّ الظروف البديلة في سائر ربوع بلاد الثورات وبخاصةٍ في مصر ما ساعدت على التقليل من شعرية الإخوان في نظر الشرائح الصحوية، والأخرى المعادية للنظام السابق. وثالثها صلابة تنظيماته العَقَدية، رغم افتقاره إلى القيادات الكارزماتية، لأنه يمتلك كارزما الشريعة أو النوموقراطية، وكارزما التنظيم أو الجماعة التي تحتضنها، وكارزما إقامة الدولة التي تطبق الشريعة وتستعيد الشرعية. ورابعها وأهمُّها تمكُّنُهُ من القيام بعمليات تحويل مفهومية في قلب الدين ارتبطت به وارتبط بها ويصعُب إخراجه وإخراجها من يقين العامة وبعض الخاصة إلاّ في مدياتٍ متطاولةٍ من نجاح الدولة المدنية والحكم الصالح. وذلك مثل الإسلام دين ودولة، والدولة ضروريةٌ لصون الدين، وارتباط الشرعية بالشريعة، والإسلام هو الحل:
فهيهات هيهات العقيقُ وَمَنْ به
وهيهات خِلٌّ بالعقيق نُواصِلُهْ
• مفكر لبناني، والنص من ورقة قدمها في ندوة لمركز دراسات الوحدة العربية في بيروت عن «الإسلام السياسي» في 30 تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.