إن الجندي الشاب الملتحي الذي يلبس الملابس العسكرية الخضراء رسم على وجهه ابتسامة واسعة كي يغطي على حرجة المطلق. فهو لم يعتد أن يرى زائرين ليسوا ايرانيين يأتون الى الموقع الذي وُضع حارسا عند مدخله. وطلب المعذرة بأدب كبير وسارع الى الاتصال بالهاتف الذي على طاولته الى المسؤول عن الحرس في مكتب القيادة.
لم يكن للضابط على الطرف الثاني من الخط علم بما يُفعل بضيوف غير متوقعين مثلنا. طُلب الينا أن نودع أغراضنا وأن يُجرى علينا تفتيش بدني سريع والانتظار في صبر الى أن يأتي جواب هل يجوز لنا الدخول أم لا. وفي حين كنا ننتظر مر بنا زوار آخرون محليون هم حجاج ينظرون الى هذا المكان في ورع. ولم يكن الجمهور كبيرا لكنه لم يكن صغيرا ايضا: كان هناك كبار وشباب؛ ونساء يلبسن الشابور الاسود، يحرصن على تغطية شعورهن ووجوههن احيانا عن عيون الغرباء، ونساء في لباس أكثر حداثة وإن يكن محتشما.
بعد نحو عشر دقائق ومكالمتين هاتفيتين أخريين جاءت الموافقة المأمولة وهكذا استطعنا أن نزور بيت آية الله روح الله الخميني زعيم الثورة الاسلامية الايرانية. إن النظرة الغاضبة المتقدة للفقيه الشيعي أشعلت اللهب في أنحاء الشرق الاوسط ووراءه. وارتبط اسمه باعدامات جماعية وارهاب وارسال اولاد الى حقول ألغام وفي أيديهم مفاتيح بلاستيكية لأبواب الجنة وباضطهاد النساء والأقليات. لكن آية الله الخميني هو بالنسبة لايرانيين كثيرين رسول من الله نجح في أن يحرر بلده من قيود الاستعباد لقوى اجنبية وفي تحدي مكانتها الدولية واعادة مجد الاسلام الى ما كان عليه. وقد شارك ثمانية ملايين انسان في جنازته في 1989، وكان ذلك أكبر حدث جماعي في التاريخ البشري المكتوب.
يقع بيت الخميني في جمران، وهي قرية صغيرة عند سفوح جبال هالبورز المطلة على شمالي العاصمة طهران. وقد جعل تطوير المدينة السريع جمران حيا صغيرا مبتلعا بين ناطحات السحاب الحديثة الفخمة التي هي منازل أثرياء ايران. وفي السنوات الاخيرة رُممت الأزقة الضيقة البسيطة في جمران لمنحها صورة تناسب مكانتها باعتبارها آخر مكان سكن الامام، لكن بيوتها المنخفضة وحوانيتها المتواضعة ما زالت تبدو مثل نبتة غريبة في المحيط الموفور المال والكماليات حولها.
غير بعيد من جمران تظهر القصور الفخمة التي خلفتها أسرة القياصرة الفهلوية. فالمباني الفخمة وعائلة الشاه الفاسدة التي حُفظت كما كانت في آخر ايام المملكة الايرانية تجذب إليها في كل يوم عشرات آلاف الزوار من أنحاء ايران ومن خارجها. وبيت الخميني المتواضع غير مشمول في مسارات السياحة العادية ولا توجد ايضا لافتات تُبين الطريق إليه، ولهذا فان السكان المحليين هم الذين يدلونك على الطريق الى المبنى الصغير المخفي بين بيوت اخرى.
إن الخميني الذي عانى في جملة ما عانى ربو شديد أرسله الى جمران أطباؤه الذين نصحوه بترك مركز نشاطه في المدينة الأم المقدسة والانتقال للسكن في جبال شمال طهران حيث الهواء أصح وأبرد. والشقة الصغيرة التي وجدت له تقع في أعلى شارع صغير. وأراد مالكها أن يهبها هدية الى آية الله لكن الامام رفض هذا التفضل وأصر على أن يدفع أجرة شقة شهرية بلغت 80 ألف ريال. والحديث اليوم عن نحو من 20 شيكل بسبب الانخفاض المستمر لقيمة العملة الايرانية. لكن كان الحديث في بدايات ثمانينيات القرن الماضي عن مبلغ أكبر.
في الشقة غرفتان وممر ومطبخ صغير. إن الشخص الذي أخاف شعبه والعالم عاش هنا في تواضع نموذجي، ولم يكن يتناول من الطعام سوى اللبن الرائب والتمر والأرز. ويمكن أن ترى فقط الغرفة الصغيرة التي اعتاد الخميني على استقبال الضيوف فيها جالسا على أريكة منخفضة. ويفصل لوح زجاجي شفاف بين الحجاج والزوار داخل البيت. وقد أُخفيت غرفة نوم آية الله بستارة لونها بلون الكريم. ومن وراء الأريكة، الى جنب مرآة مدورة كبيرة توجد أكوام كتب والى جانبها على طاولة هاتف ابيض كان يربط الخميني بالعالم. واعتاد الخميني في أيام الصيف الحار أن يجلس في شرفة الغرفة ويستقبل أشياعه الكثيرين الذين أرادوا أن يُقبلوا يديه فقط.
كان جسر خشبي صغير يصل الشقة بمبنى مجاور كان يلقي فيه الخميني دروسه أمام جمع من المُجلّين كانوا يملأون القاعة وهو اليوم يبدو مثل مركز جماهيري مهجور.
وعرض علي الحارس الشيخ المبتسم في فخر كبير صورة قديمة بدا فيها الامام يخطب في ذلك المكان من فوق شرفة عالية في جمهور مُصغ متأهب.
كانت ايام وما زالت، فروح آية الله ما زالت تغطي ايران. ويُطل وجهه من حيطان البيوت وقاعات الاستقبال في مباني حكومية وفنادق. وأبواب الدخول الى معسكرات الجيش وفوق طاولات في المكاتب والحوانيت. وينظر الخميني الى ثورته مترددة حائرة ويحاول أن يجد لها طريقا.
مر نحو من 35 سنة على نشوء الجمهورية الاسلامية. ومر ربع قرن على موت الخميني. وفي هذه السنوات تذبذبت ايران كالرقاص بين يأس مطلق وأمل بالتغيير. قبل خمس سنوات قُبيل نهاية فترة الرئاسة الاولى لاحمدي نجاد زرت هذه الدولة الآسرة أول مرة وهي التي يراها كثيرون مكانا مظلما وفظيعا. وتمت تلك الرحلة قبل احتجاج "الثورة الخضراء" في 2009 الذي قمعه أشياع المعسكر المتطرف بعنف كبير.
وتجولت في أنحاء ايران نحوا من ثلاثة اسابيع واطلعت على واقع مختلف تماما عما تصوره تقارير الاعلام. فقد بدت ايران آنذاك في نظري دولة مليئة باللون الرمادي. ومجالات حرية محدودة انشأها الشباب خاصة لأنفسهم في تحدٍ جريء لنظام الاضطهاد الديني في أحيان كثيرة، ومع كل ذلك كان الشك الكبير آنذاك في المحيط وفي الاجانب خاصة. وامتنع ايرانيون في الشارع عن انشاء صلة لئلا يتبين أن السائح غير المعروف هو في واقع الامر عميل للسلطات المحلية. وأوحى الناس بنظراتهم وحركاتهم وردودهم بتوتر وعصبية مكبوحة وعدم رضا. إن الايرانيين شعب مهذب جدا ولهذا لم تترجم هذه المشاعر السلبية الى عدوان أو عنف. لكن كان يصعب ألا تشعر بأنك في داخل قدر ضغط تهدد بالانفجار.
إن ايران التي عدت اليها الآن مدة اسبوعين تغيرت حتى لم تعد تُعرف تقريبا. وكان من الصعب علي في لحظات ما أن أصدق أن الحديث عن نفس الدولة التي زرتها قبل خمس سنوات فقط. ومن ذلك على سبيل المثال ساعات المساء التي قضيتها في المقاهي والتي كانت مليئة بمجموعات من الشباب مختلطة من شباب وشابات يدخنون النارجيلة معا بطعم النبيذ أو الويسكي ويلبسون أفضل الموضات الغربية ويبحثون بلا توقف عن كل شيء ممكن. إن أمورا كثيرة كانت محظورة الى الفترة الاخيرة وكانت تتم في الغرف المغلقة فقط أو في أحضان العائلة أو في حفلات خفية خشية عملاء شرطة آداب سلطات الثورة، أصبحت تتم الآن في وضح النهار وأمام الجميع. فالأزواج يسيرون في الشوارع يمسك بعضهم بأيدي بعض أو وهم متعانقون دون أن يحاول أحد أن يفحص هل هم متزوجون بمقتضى الشرع، وقد كان هذا المشهد نادرا جدا قبل خمس سنوات. وتُسمع موسيقى فارسية وغربية في اماكن عامة ومن سيارات مارة تنطلق مسرعة في طريقها. قبل خمس سنوات سمعت القليل جدا من الموسيقى، وفي كل مرة كان يمر فيها سائق ركبت معه بموقع تفتيش شرطة كان يسرع الى إسكاتها لئلا يُضبط متلبسا.
في الاسبوعين اللذين قطعت فيهما ايران من جنوبها الى شمالها، من شيراز الى تبريز مرورا بيزد وأصفهان وطهران – رأيت الكثير جدا من الايرانيين السعداء الذين يضحكون ويبتسمون. ولم يخف الناس من التقدم مني والحديث إلي بصفتي أجنبيا بل على العكس من ذلك بادروا طوعا الى أحاديث ولقاءات حتى لو كانت سيطرتهم على اللغات الاجنبية محدودة جدا. وأراد الجميع أن يعلموا ما هو انطباعي عن ايران؛ فهم جميعا يعرفون جيدا صورة بلدهم السلبية الفظيعة التي قويت في ايام رئاسة احمدي نجاد. وكان من المهم للجميع أن يؤكدوا أن ايران مختلفة اليوم وتتغير وهي متعددة الألوان ومليئة بالحيوية والتاريخ والثقافة وفرح الحياة.
كُتب غير قليل من التفسيرات لابتسامة الرئيس الجديد حسن روحاني في محاولة لفهم ما الذي يكمن وراءها. لكن روحاني ليس الايراني الوحيد الذي يبتسم في هذه الايام. فالنظرة القاتمة التي كانت في عيون الناس الذين التقيت بهم هنا قبل خمس سنوات حلت محلها نظرة مُشرقة. ويوحي الايرانيون اليوم بتفاؤل كبير وكأنهم تحرروا، فقد انقضت ثماني السنين السيئة لاحمدي نجاد. ويريد الايرانيون الآن أن يلحقوا بالوقت الضائع في أسرع وقت ممكن. إن الايرانيين تواقون الى اتصال بالعالم الخارجي ولا سيما الغرب، وقد ضاقوا ذرعا بعزلتهم ومقاطعتهم ويريدون أن يكونوا ككل الشعوب دون مسيحانية دينية، ودون شعور برسالة ثورية عالمية.
إنهم يريدون أن يعيشوا فقط.
يتوجه الايرانيون إلي بصفة "خارجي"، أي اجنبي. وليست هذه كلمة مذمة توجب الشك والاحتراس وابلاغ الشرطة. وقد حدثوني في زيارتي السابقة عن حظر مطلق فُرض على الايرانيين أن يتحدثوا الى اجانب لم يدعوهم هم شخصيا الى زيارة ايران. ووقف الايرانيون في هذه المرة في الصف تقريبا للتدرب على اللغة الانجليزية الضعيفة التي يتحدثونها ولتُلتقط الصور لنا معا. ورفض باعة لم يأخذوا مني مالا في المخابز والمطاعم بل في حانوت أشرطة مسجلة طلبت فيها أن أشتري عددا من الافلام الايرانية الجديدة. وعرض علي البائع فهرس فيه آلاف الأفلام وأنزل من حاسوبه نسخ الافلام التي بدت لي مثيرة للاهتمام ورفض بكل قوة أن يتلقى الثمن مني، وقال لي بابتسامة واسعة: "أنت خارجي، فأهلا وسهلا في ايران".
يبدو أن العالم مشتاق الى استكشاف ايران من جديد. فقبل خمس سنوات حينما سيّر احمدي نجاد ايران في طريق صدام متعمد مع المجتمع الدولي وكان امكان هجوم عسكري اسرائيلي أو غربي معلقا في الجو، كانت مواقع ايران التاريخية المدهشة والفنادق في مدنها الرئيسة شبه فارغة تقريبا. وهي اليوم تزخر بالزوار ففيها مجموعات وأفراد وسياح ورجال اعمال من اوروبا في الأساس – المانيا وهولندة وايطاليا والنمسا وروسيا وكذلك ايضا تيار أخذ يقوى من الزوار من الولايات المتحدة ومن الصين واليابان والدول العربية المجاورة بالطبع ولا سيما العراق، وعلى حسب معطيات رسمية، سجل منذ بدء السنة الفارسية الجديدة في 21 آذار زيادة بنسبة 27 بالمئة على عدد السياح الذين جاءوا الى ايران. ويصعب على وكالات السفر المحلية أن تصمد أمام الطوفان وتجدد سريعا عمالا جددا يعملون مرشدين وسائقين. زار ايران في العام الماضي نحو من 4 ملايين سائح جاءوا بايرادات بلغت 8 مليارات دولار. وبالنسبة لدولة تقع تحت عقوبات دولية في المجال المالي ايضا فان نماء فرع السياحة هو زيادة اوكسجين تنفس وعملة اجنبية على الخزينة العامة التي أخذت تفرغ.
إن صورة الرئيس الجديد روحاني المعتدلة تساعد ايران على أن تروج لنفسها بصفتها هدفا سياحيا جذابا. وقد أعلنت السلطات العالمة جيدا بالطاقة الاقتصادية الكامنة فيها في هذه الايام حقا أنه استقر رأيها على تخفيف اجراءات منح تأشيرات الدخول للسياح وأن زوارا من أحسن دول العالم (ما عدا عددا منها، منها الولايات المتحدة وبريطانيا) يستطيعون أن يحصلوا قريبا على تأشيرات دخول فورا حينما يصلون الى مطارات ايران. وكان يُحتاج حتى الآن الى اسابيع من الانتظار حتى الحصول على التأشيرة من وزارة الخارجية في طهران وسفاراتها في أنحاء العالم.
إن الشيء الذي فاجأني أكثر من كل شيء في زيارتي الحالية عدم وجود شعور بالنقص. وقد صورت تقارير مختلفة عن تأثير العقوبات التي فرضت على ايران صورة سكان مدنيين أصبحوا يعانون أكثر فأكثر صعوبات اقتصادية. كنت في العراق وجمهورية الصرب حينما كانتا تحت عقوبات خارجية. وظهرت تأثيرات ذلك آنذاك للعيان بصورة جيدة، فلم يكن يوجد على رفوف الحوانيت سوى منتوجات أساسية جدا وبكميات محدودة، وكانت الحوانيت والمشاغل مغلقة، وسافر الناس في سيارات قديمة منتقضة، وقُدمت في المطاعم وجبة واحدة فقط أو اثنتان، وكانت انقطاعات الماء والكهرباء أمرا راتبا.
لم أر وضعا كهذا في ايران. بالعكس، فالدولة مُغرقة بسلع من كل نوع ومنها أفضل منتوجات الكماليات والرفاه من الغرب. ويمكن أن تحصل في الاسواق الفوارة وفي مراكز الشراء الجديدة التي تُبنى على عجل في المدن الكبيرة، على كل شيء يمكن أن يخطر بالبال وبأسعار معقولة جدا. ولا يوجد في محطات الوقود صفوف والشوارع المزدحمة مليئة بسيارات برغم اسعار الوقود المرتفعة جدا. وفي المطاعم الفخمة في شمال طهران وفروع شبكات الطعام السريع الايرانية يمكن أن تجرب كل طعام ممكن ما كان يلائم قواعد "الحلال" الاسلامية. وتُدخل شبكات مهربين على طول حدود ايران – ولا سيما في مناطق الساحل من الخليج الفارسي – العربي (بازاء امارات النفط) وفي الشمال بالقرب من أرمينية وتركيا وأذربيجان – تُدخل الى الدولة ايضا منتوجات تخالف روح الاسلام وروح عقوبات الامم المتحدة. من المؤكد أنه يوجد فقر في ايران - وسنتداول ذلك فيما يلي من الرحلة – لكنه مختبيء تقريبا في شوارع المدن الكبيرة.
طور الايرانيون طرقا كثيرة للالتفاف على العقوبات الاقتصادية الكثيرة التي فرضت عليهم. أتوجد قيود على تحويل العملة الاجنبية في البنوك الايرانية؟ سارعت بنوك في دبي الى عرض خدماتها باعتبارها عامل وساطة. وهل يوجد قيود على تصدير نفط طبيعي واستيراد نفط مكرر؟ تهتم حكومة ايران بصفقات التفافية مع الصين والهند ودول اخرى في وسط آسيا تُمكن من اعمال بصورة عادية تقريبا.
إن ما تلاحظ عليه العقوبات هو القطاع الحكومي، فان مشروعات مختلفة لتطوير البنى التحتية – كالجسور وتوسيع شبكات النقل العام المدنية، وإتمام سكك حديدية – مجمدة. لكن القطاع الخاص في نماء وازدهار ولا سيما في مجال العقارات. وهذا أحد الاسباب الرئيسة لهياج التضخم المالي ايضا.
تُنشأ في كل أنحاء ايران في أكبر سرعة أحياء سكنية جديدة، ومراكز شراء عصرية، وفنادق خاصة وطائفة منها برتب فخامة لا تُخجل أية عاصمة اوروبية. بعد الثورة فورا تم تأميم أكثر الفنادق في الدولة ونُقلت الى أيدي الموالين للنظام. وأتذكر في زيارتي السابقة فنادق متوسطة مع درجة خدمة متوسطة فما دون. واطلعت في هذه المرة ايضا على فنادق حديثة وخدمة أكثر فنية وتهذيبا.
لكن تطور القطاع الخاص الذي أخذ يقوى والذي تشارك فيه بالطبع جهات مقربة من نظام الحكم، يكمن فيه توتر اجتماعي عالٍ: فالأغنياء يزدادون غنى والفقراء يصبحون أكثر معاناة. وقد صُنفت ايران في المكان الـ 12 في العالم في قائمة الدول ذات أكبر عدد من أصحاب الملايين. وزاد الفرق بين طبقاتها العليا والدنيا زيادة ضخمة. وقد حرك هذا الفرق في حينه عجلات الثورة التي أسقطت نظام الشاه. أفلا يمكن أن يوجد انفجار غضب اجتماعي آخر، وعلى من سيوجه في هذه المرة؟ "يمكن أن نقول شيئا واحدا بيقين عن الناس هنا" يقول لي أحد من تحدثت إليهم. وهو مبادر شاب من سكان طهران، حينما يُطرح هذا السؤال للنقاش: "إن الايرانيين شعب جد غير متوقع. ولا يمكن أن نعلم ماذا يلد اليوم".
"يصعب أن نرى تأثير العقوبات اليومي"، يُبين لي رجل اعمال ايراني آخر، "لكن العقوبات الاقتصادية يُشعر بها جيدا بين أجزاء واسعة من السكان. فالتضخم المالي يطغى وقيمة العملة المحلية في تهاو والبطالة تزداد. والطبقات الضعيفة هي بالطبع التي تعاني أكثر من غيرها. فهي متعلقة بالدعم الحكومي الذي تمنحه الحكومة لها، وأصبح للحكومة – بسبب العقوبات – مال نقد أقل لدعم الفقراء. وأصبحوا يخططون لالغاء تام لدعم البنزين الذي اقتطع منه في السنوات الاخيرة. ويحصل كل مواطن اليوم على وصل بنزين بقيمة 70 ألف ريال (أقل من 10 شواقل) كل شهر، وهو يدفع الى ذلك نحوا من 20 ألف ريال (2.5 شيكل) عن اللتر الواحد. والفرق محسوس به جدا مع راتب شهري يبلغ في المعدل 450 يورو. في الاحياء الجنوبية الفقيرة من طهران التي كانت في الماضي قلاع تأييد احمدي نجاد يشعرون بسوء ظروف العيش بصورة جيدة، فالناس هناك مستعدون لبيع كل شيء يملكونه لشراء قليل من الطعام".
هنا وهناك يظهر الى الخارج مع كل ذلك الوضع الاقتصادي القاسي لفريق من السكان: فقد رأيت في مركز أصفهان مظاهرة لعمال مصنع محلي خرجوا الى الشوارع لأنهم لا يدفعون لهم رواتب؛ ورأيت في مركز طهران اولادا وفتيات يتسولون بين صفوف السيارات في الشوارع الرئيسة؛ ونشأ احيانا في عربات القطار الارضي الواسعة المكيفة في العاصمة الايرانية، احيانا زحام باعة غير قانونيين يحاولون أن يبيعوا كل ما يستطيعون الحصول عليه ليكسبوا عددا من الريالات؛ ويستل فتيان من حقائبهم المدرسة سلعا مختلفة وينتقلون من راكب الى راكب مع نظرات تثير الشفقة. والناس الذين يبسطون كتبهم على الارصفة للبيع مشهد شائع جدا. إن الايرانيين شعب كتاب. فالشعر والنثر والعلم متغلغلة تغلغلا عميقا في نفوسهم، فالذي يبيع كتبه يكون قد بلغ في الحقيقة الى درجة عوز يائسة.
قبل خمس سنوات كان مستوى التضخم المالي يراوح بين 20 بالمئة الى 25 بالمئة وهو اليوم يقف على 37 بالمئة. وفي مطلع السنة تجاوز 40 بالمئة. قبل خمس سنوات حصلت عن كل يورو على 14300 ريال وأصبح السعر اليوم 40 ألفا لكل يورو. ونسبة البطالة الرسمية هي 16 بالمئة لكنها تجاوزت بحسب تقديرات مختلفة 20 بالمئة منذ زمن. وفي دولة فيها ثلثا السكان تحت عمر الثلاثين يكون الشباب هم المتضررين المباشرين بعدم امكان العمل. واذا وجدوا عملا لحسن حظهم فان الرواتب المنخفضة لا تُمكنهم من أن يخططوا لمستقبل أفضل.
يبلغ ايجار شقة صغيرة في مركز طهران 500 – 800 دولار. ويبقى شباب ايران في المدن ليسكنوا عند والديهم حتى الزواج لا لاسباب دينية وتراثية فقط بل لأنهم لا يستطيعون ببساطة أن يسمحوا لأنفسهم بالسكن وحدهم. "بدأت في المدن الكبيرة ظاهرة السكن المشترك"، يقول لي شاب من طهران. "فقد بدأ طلاب من عائلات حسنة الحال أو شباب يربحون ربحا جيدا نسبيا يتركون البيوت. والحديث على نحو عام عن شباب يتقاسمون شققا مع شباب آخرين. وتوجد حالات نادرة تسكن فيها شابات مع صديقات. وتوجد حالات نادرة جدا تتقاسم فيها شابات خلافا لكل الأعراف الاجتماعية شقة مع شباب ليسوا أزواجهن". ويؤثر الوضع الاقتصادي القاسي ايضا في قدرة الشباب على الزواج. فالزواج المحترم يُكلف بضع عشرات آلاف اليوروات. ولا تستطيع كل عائلة أن تبيح لنفسها نفقة كهذه، لكن يوجد غير قليل من العائلات تنفق أكثر من ذلك. في الفندق العصري الذي مكثت فيه في طهران كان يجري في كل مساء عدة أعراس شديدة الفخامة وراء أبواب مغلقة بالطبع. وقبل أن تغلق أبواب القاعات كنت استطيع ان اشاهد المدعوين في قاعة الدخول وكلهم يلبسون كما يلبسون في عرض أزياء: فالرجال في بدلات براقة؛ والنساء مع أحذية عالية وفساتين ضيقة. وتُزال أغطية الرؤوس الملونة والمعاطف الطويلة التي تخفي اللباس غير المحتشم بعد أن تدخل النساء الى القسم المنفصل المخصص لهن. وفي اللحظة التي تغلق فيها الابواب ويبدأ الحفل تنطلق الموسيقى. ويتحدث العالمون بالخفايا عن أنه تفتح تحت موائد ما زجاجات الخمور التي هُربت الى الحفل بمخاطرة بالنفس.
في ذروة زيارتي وفي حين كان العالم يضج بالتخمينات والتقديرات فيما يتعلق بالتفاوض حول البرنامج الذري الايراني، تناول آية الله علي خامنئي وارث الخميني باعتباره الزعيم الروحي للجمهورية الاسلامية، الشأن الذي يقلق القيادة الايرانية جدا وهو تشجيع الولادة. فقد دعا خامنئي في محاضرة في طلبة جامعات شباب في طهران، دعا سكان بلده الى المساعدة في الجهد السكاني كي تستطيع ايران ان تواجه تحديات المستقبل التي تواجهها. ووجه بعض خطبته الى نخب المجتمع الايراني مباشرة. وقد بدا ذلك عجيبا لكن الحقائق تتحدث من تلقاء نفسها: فقد طرأ تحت حكم النظام الاسلامي خاصة انخفاض حاد جدا لنسب الولادة في ايران. كان متوسط النسبة في مطلع ثمانينيات القرن الماضي 7 اولاد لكل عائلة وانخفض اليوم الى 1.3 لكل عائلة.
إن السلطات الدينية الايرانية هي التي سببت التحول لأنه اذا كان الخميني في بدء الثورة الاسلامية التي صاحبتها الحرب الدامية للعراق قد شجع نساء بلده على ولادة أكبر عدد ممكن من جنود المستقبل، فانه بعد انتهاء الحرب فورا (التي قتل فيها أكثر من مليون انسان من الطرفين) وبعد موت الخميني استقر رأي قادة الدولة على أن اقتصاد بلدهم لن يتحمل نموا سريعا لعدد السكان، وبدأت السلطات تشجع الرقابة على الولادة – واشتمل ذلك على توزيع وسائل منع حمل بالمجان في العيادات الحكومية.
ولوحظت الدلائل الاولى على القلق المتزايد لانخفاض مستوى الولادة الحاد تحت رئاسة احمدي نجاد، فقد عبر الرئيس السابق عن معارضة شديدة لسياسة "يكفي العائلة ولدان" ودعا النساء الى أن يعملن أقل وأن يصرفن وقتا أطول للعناية بعائلاتهن. وتبنى خامنئي هذا التوجه في المدة الاخيرة، فهو يزعم أن سياسة الرقابة على الولادة كانت صحيحة في الظروف التي كانت تسود ايران قبل عشرين سنة. ويزعم أن استمرار الرقابة على الولادة الآن سيجر ايران – التي يعيش فيها اليوم 72 مليون نسمة – الى أن تواجه مشكلة سكان يشيخون ويقل عددهم.
لكن يُشك في أن يحظى كلام خامنئي بصدى بين الايرانيين لأن مضاءلة الولادة مكّن عائلات كثيرة من أن تمنح أبناءها تربية وحياة أفضل وأسهم ذلك اسهاما كبيرا في زيادة استقلال النساء، فقد تحولت النساء الى جزء شديد النشاط في المجتمع الايراني. "لهن كل الحقوق لكن لا الحقوق نفسها"، يُبين رجل دين مبتسم تزوج قبل ثلاث سنوات ولم تلد زوجته بعد.
كانت كلمة "الأمل" هي الكلمة التي تكررت مرة بعد اخرى في الاحاديث مع المحليين. فبعد سنوات احمدي نجاد التي جعلت ايران ترجع في مجالات ما الى الخلف، أصبح ايرانيون كثيرون – ولا سيما الشباب فيهم – يبيحون لأنفسهم النظر الى الأمام في أمل.
وهذا أمل حذر لأن الماضي غير البعيد علمهم ألا يتمسكوا بالأوهام. ويقول لي طالب علم نفس: "قد جربنا مشهدا مشابها حينما انتخب محمد خاتمي للرئاسة في 1997. فقد كنا على يقين من أنه سينجح في القيام باصلاحات بعيدة المدى وفي أن يغير صورة الدولة. وتبين لنا بعد ذلك أنه لم تكن له الصلاحيات لفعل ذلك. فقد منعه أناس المعسكر المتطرف وعلى رأسهم خامنئي بصورة منهجية من تحقيق السياسة التي آمن بها وكانت خيبة الأمل كبيرة جدا، وقُبيل نهاية فترة رئاسته الثانية نظم الطلاب في الاحرام الجامعية مظاهرات عاصفة، والسؤال الاكبر الآن هل ينجح روحاني حيث فشل خاتمي. إن صلة روحاني أقوى بالمؤسسة الرسمية للثورة الاسلامية. وهو يستطيع أن يستعمل هذه الصلات بحكمة وأن يدفع بالدولة قدما أو يحاول على الأقل كسب الوقت. لكن ما زال من السابق لأوانه أن نعلم ما هي خططه، فهو لم يكد ينهي 100 يوم في كرسي الرئاسة".
وحاولت في حديث الى طالبة آداب أن أقف على جوهر الأمل الجديد الذي يملؤهن. كانت متبرجة تبرجا شديدا وكان شعرها المصبوغ يظهر من تحت غطاء الرأس، المثبت بدبوس على هيئة زهرة من القماش تبرز من أطراف رؤوسهن. إن هذا الدبوس العجيب يُمكن نساء ايران الراغبات في أن يكشفن عن جزء كبير من تسريحاتهن من فعل ذلك. وقد اختفى حرس الآداب الثوريون الذين اعتادوا في الماضي ان يرغموا النساء على ازالة اصباغ الوجه عن وجوههن باوراق الزجاج أو طرحوا في السجون نساءا لم يلبسن الحجاب، اختفوا كأنهم لم يوجدوا. وتلبس طالبات الجامعات تحت معاطف حديثة وملونة تغطي ثلثي اجسامهن بنطالات جينز أو بنطالات ضيقة شفافة.
إن موضة البنطالات الضيقة أحدثت عاصفة عامة وقامت في مركز المعركة الانتخابية الاخيرة أكثر من المفاعلات الذرية الايرانية، فالمحافظون يرون أن بنطالات الرياضة "هجوم ثقافي غربي جديد يُحدث جو شهوة سيعدي المجتمع الايراني". وكان من زعموا أن البنطالات التي تبرز اجسام النساء بصورة جيدة ستضر "بالسلامة النفسية والجسمية لشباب ايران"، وإنه بدأ بسبب ذلك ارتفاع عدد الاعتداءات لاسباب جنسية، وأُثير ايضا اقتراح اعادة حرس الآداب الى الشوارع لـ "ينظفوا المدن من هذا الرجس"، ولم يتم تنفيذ هذا الاقتراح الى الآن.
"إن أملي هو أن أعيش كما أريد"، تجيبني احدى الطالبات. وسألتها: "وكيف تريدين أن تعيشي؟"، فأجابت: "أريد أن أكون قادرة على أن ألبس ما يحلو لي دون أن يفرض علي أحد شيئا".
وانتهت بذلك قائمة مطامح الشابة في منتصف العشرينيات من عمرها. فهي لا تفكر في أن تترك عائلتها قبل الزواج وتنتقل للعيش وحدها، ولا يخطر ببالها ألبتة امكان أن تسكن مع خليلها قبل أن يتزوجا. فهي تعلم أنها ستكون باعتبارها امرأة متعلقة بدخل زوجها في المستقبل حتى لو عملت. وهي لا تشتهي السفر الى الخارج فوضعها في ايران جيد بالنسبة اليها. وليس لها ولصديقاتها مواقف سياسية قاطعة. فهن مثل غير قليل من نظيراتهن في الغرب أشد عناية بالامور المادية كالموضة والجمال والآيفون 5 وسائر البدع الجديدة.
إن شوارع طهران وشيراز وأصفهان – وهي مدن ايران المفتوحة على العالم الكبير – غارقة بالنساء والرجال الذين غُطيت أنوفهم باللصقات. فقد أصبحت العمليات الجراحية التجميلية بدعة الوقت بين شباب ايران من الجنسين، فكلهم يريدون أنفا صغيرا جذابا. ويوجد كذلك زرع الشعر الصناعي. وما زالت اماكن تسريح شعر النساء مخفاة عن نظر السابلة تحشما، ويفضل غير قليل من النساء الحلاقة في البيت. لكن حوانيت الملابس تعرض علنا ملابس نسائية جريئة جدا فخمة صارخة وفاضحة وفساتين ضيقة جدا. وتوجد ايضا ملابس داخلية جذابة تعرض على رؤوس الأشهاد. والباعة هم رجال على نحو عام.
إن المظهر النسائي في ايران جرت عليه في السنوات الاخيرة ثورة حقيقية، فقد افتتحت مصممات أزياء جريئات مثل نجمة كيومرسي وزهرة يرمهادي في احياء طهران الغنية دور أزياء تعرض على الزبائن تأليفا بين التراث والحداثة الغربية، فلم تعد توجد أغطية رأس وجلابيب وشوادير سوداء تغطي جسم المرأة مثل خيمة، بل يوجد لباس حديث ملون يمنح كل امرأة تملك مالا القدرة على التعبير عن نفسها مع أدنى قدر من الحرص على قوانين الحشمة.
وتمضي طالبات الجامعات ساعات في التراسل بواسطة الهواتف المحمولة حتى مع أبناء الجنس الآخر. والدراسة في الجامعات، خلافا للمدارس، مختلطة وتنشأ فرص كثيرة للتعارف بين الأزواج. وهن يستطعن اليوم أن يخرجن مع عدد من الخلان قبل الزواج الى مقاهي أو نزهات في احضان الطبيعة بلا رقابة.
وأصبح الطلاق اليوم أسهل ولا سيما اذا لم يكن الرجل قادرا على ان يضمن للمرأة مستوى عيش مناسبا. وزيادة الطلاق تقلق جدا سلطات الثورة الاسلامية التي ترى ذلك إضرارا متزايدا بسلامة الخلية العائلية الايرانية. فهناك حالة طلاق واحدة بين كل خمسة أزواج.
تعرض سينما الاستقلال في وسط طهران في هذه الايام ميلودراما شعبية جديدة اسمها "لمصلحة فونه". إن قاعة العرض كبيرة وقديمة وكأنها من سبعينيات القرن الماضي. وليست المقاعد الخشبية المبطنة مريحة. وقد جاء عدد من الآباء معهم باولادهم الصغار الذين كانوا يجرون بين صفوف المقاعد الأمامية الفارغة. إن "فونه" بطلة الفيلم متزوجة من رجل عاطل عن العمل مدمن لمخدرات خفيفة، وهي تعمل وتحاول بلا نجاح أن تخرج زوجها من دائرة البطالة والادمان. وفي نهاية الفيلم تغادر البيت. وفي اعلانات "في القريب" قبل بدء العرض مقدمة فيلم آخر يتناول إدمان المخدرات الشديدة.
وقد أصبحت قضية ادمان المخدرات في السنوات الاخيرة داءا عاما في ايران. فبحسب التقديرات تحتل ايران رأس القائمة العالمية من حيث عدد المدمنين. ويقول تقرير من قبل الامم المتحدة إن 2.2 بالمئة من مجموع سكان ايران مدمنو مخدرات شديدة وخفيفة أكثرها منتوجات الهيروين المهرب الى الدولة من الحدود مع افغانستان. ويتحدث خبراء مستقلون عن 8 بالمئة.
وتبذل السلطات في ايران أقصى قدرة لمكافحة هذه الظاهرة بطرق مختلفة. فيتم اعدام مئات من تجار المخدرات الذين يُضبطون في كل سنة. لكن السلطات تنجح في أن تضع يدها على خُمس المخدرات فقط التي تغرق ايران. وقد أصبحت منطقة الحدود مع افغانستان جبهة قتال حقيقية بين وحدات الجيش الايراني وعصابات مهربي المخدرات. ففي اثناء مكوثي في ايران قتل في صدام واحد فقط بالقرب من الحدود 12 جنديا ايرانيا دُفنوا في مراسم رسمية باعتبارهم شهداء مكافحة الارهاب. والخدمة العسكرية في منطقة الحدود مع افغانستان من الامور التي يخشاها جدا المجندون الجدد.
خرجت من سينما الاستقلال الى احدى أطول جادات طهران وهي جادة والي العصر – وهذا واحد من ألقاب الامام المحجوب وهو المهدي بحسب اعتقاد الشيعة الايرانيين. وتقطع الجادة المنطقة المدنية في مركز العاصمة الايرانية حيث تُركز مكاتب المصارف الكبيرة والشركات الحكومية.
برغم أن هذه المنطقة فيها غير قليل من اماكن اللهو يفرغ مركز طهران تماما تقريبا في ساعات المساء المتأخرة. وتتوقف شوارع سائر المدن عن الحركة قرب العاصمة ليلا ويأوي الناس الى بيوتهم في احضان العائلات حيث يستطيعون التصرف بحرية كاملة. "ما زالت النواة العائلية ذات أهمية كبيرة في نظر أكثر الايرانيين بخلاف تام لما يحدث في الغرب"، يُبين لي شاب محلي، "وهذه من خصائص المجتمع هنا ونحن غير مستعدين للتخلي عن ذلك، فالناس لا يطرحون والديهم في دور العجزة بل يستمرون على العناية بهم في البيوت في أواخر حياتهم. ويهتم الآباء براحة أبنائهم، وهذه الصلات الوثيقة هي التي مكنت كثيرين من تجاوز أزمان أقسى مرت علينا منذ كانت الثورة الاسلامية".
وجدت في أحد الاكواخ في قلب طهران زوايا لعشرات الصحف والمجلات، قص بعضها بالنمائم المتعلقة بنجوم السينما والتلفاز والرياضة المحلية. وجدت في صورة فاجأتني كراسة ارشاد لفتيان وفتيات تتناول الصلة بالجنس الآخر. بعد قمع الثورة الخضراء قبل اربع سنوات أغلقت صحف ومجلات كثيرة كانت موالية لمعسكر الاصلاحيين. ومنذ كان انتخاب روحاني بدأ نماء من جديد – لكنه حذر – لصحافة ليبرالية وانتقادية، ومع ذلك ما زالت الطريق طويلة. في اثناء مكوثي في ايران نشرت الصحيفة اليومية الاصلاحية "بهار" مقالة هاجمت واحدا من أسس اعتقاد الشيعة، ورد مجلس الصحافة الرئيس باغلاق الصحيفة فورا.
وأسرع متحدثو المحافظين الى اتهام كاتب المقالة بأنه متعاون مع شرطة الشاه (السافاك) ذات السمعة السيئة، وأشد من ذلك أن كلامه يُذكر بايام "حكم الاصلاحيين" تحت الرئيس خاتمي. وأسرعت أسرة تحرير "بهار" الى الاعتذار عن نشر المقالة وبينت أن المقالة جاءت قبل توجيه الصحيفة للطباعة ولم يجر عليها فحص من المحررين. ولم يساعد ذلك فقد منح الرئيس روحاني الدعم الكامل لاغلاق الصحيفة التي اعتبرت مقربة منه على نحو سبب امتعاض غير قليل من مؤيديه.
في زيارتي لايران قبل خمس سنوات شعرت بخوف حقيقي من هجوم عسكري اسرائيلي برغم أن عددا من الناس الذين تحدثت اليهم عبروا عن أمل أن يساعد هذا الاجراء على اضعاف نظام احمدي نجاد المتطرف. ويبدو الآن أن الايرانيين غير قلقين ألبتة من امكان هجوم اسرائيلي، فهذا الشأن لا يُطرح للنقاش في احاديث تتناول الوضع السياسي وكأنه فقد صلته تماما.
إن الايرانيين المعنيين بتقدم المحادثات مع المجتمع الدولي في برنامج بلدهم الذري يؤمنون بأن روحاني سيعرف كيف يحرز تسوية تُمكن ايران من الحفاظ على انجازاتها في مجال الطاقة الذرية المدنية، ويُهديء مخاوف الغرب من خيار ذري عسكري ويفضي الى ازالة تدريجية للعقوبات الدولية. لكن أكثر الايرانيين غير معنيين في الحقيقة بالمحادثات بل هم مهتمون بالامور اليومية والمشكلات المالية ويتلذذون بجو الحرية النسبية الجديدة التي تسود الدولة.