سلط تقرير نشره موقع "
ذا نيو هيومانتاريان" الضوء على الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية الهادفة إلى تجويع سكان شمال
غزة وإثارة الفوضى الاجتماعية، وهو ما يعتبره الخبراء دليلا على "نمط من جرائم الحرب".
وقال الموقع، في تقريره الذي ترجمته "عربي 21"، إن وكالات الأمم المتحدة نظمت جهودًا طارئة لإيصال المساعدات الغذائية بأمان إلى مئات الآلاف من الأشخاص في
شمال غزة، التي كانت على حافة المجاعة بسبب القصف والحصار الإسرائيلي.
وذكرت الوكالات، مثل برنامج الأغذية العالمي وهيئة تنسيق المساعدات الإنسانية، أنها استعانت بالمجتمع الفلسطيني المحلي لتأمين توصيل المساعدات من خلال لجان طارئة تضم أفرادًا من العائلات والقبائل البارزة ومتطوعين.
وأشار الموقع إلى أن هذا النظام نجح لبضعة أيام في منتصف آذار/ مارس، حيث تم إيصال مساعدات غذائية إلى أجزاء من شمال غزة دون تعرضها للنهب أو الهجمات الإسرائيلية.
وبعد أقل من 48 ساعة من أول عملية توصيل ناجحة للمساعدات، استهدفت ضربة جوية إسرائيلية في 18 آذار/مارس مستودعًا للمساعدات، ما أسفر عن استشهاد شخصين. وخلال الأسبوعين التاليين، استهدفت القوات الإسرائيلية أكثر من 100 فلسطيني، بينهم مشاركون في الجهد الإنساني وعائلاتهم.
اظهار أخبار متعلقة
وأوضح الموقع أن هذا الأمر أدى إلى تراجع اللجان المحلية، مما شل الخطة الإنسانية في وقت كان الأطفال يموتون من سوء التغذية والجفاف.
واعتبر الموقع أن انهيار خطة الأمم المتحدة لإيصال المساعدات بسبب الهجمات هو مثال على عرقلة إسرائيل الأوسع نطاقًا للمساعدات وتسييسها، مما يفسر فشل جهود الإغاثة، مشيرًا إلى أن الجهود الدولية للاستجابة الإنسانية في غزة ما زالت محدودة بسبب القيود الإسرائيلية وانعدام الأمن، وهو ما عززه قتل أعضاء لجنة المساعدات في آذار/مارس.
وشدد الموقع على أن ذلك أدى إلى اقتصاد حرب قائم على التلاعب بالأسعار، حيث استولت عصابات يُزعم أنها مدعومة من الجيش الإسرائيلي على المساعدات ونهبتها.
على حافة المجاعة
وكان القصف الإسرائيلي والعمليات البرية وأوامر الإجلاء قد أجبرت معظم السكان على الفرار، مما حوّل
جباليا إلى أكوام من الأنقاض والطرقات المدمرة والمباني المدمرة. وبحلول نهاية كانون الثاني/ يناير، لم يبقَ في المخيم سوى حوالي 100,000 شخص تقريبًا، بعد أن يئسوا من الجوع؛ حيث أصبح الأطفال يبكون باستمرار، بينما تطعم بعض الأسر أطفالها طعام الحيوانات، وبيحث آخرون عن طعام بين الأنقاض.
وأفاد الموقع بأن أرباب العائلات والقبائل البارزة في المنطقة طالبوا الشباب بالمساعدة في تأمين قوافل المساعدات التابعة للأمم المتحدة، وذلك على الرغم من استهداف القوات الإسرائيلية من ينتظرون المساعدات في الشمال، وارتفاع المخاطر في عملية التأمين.
الانفصال عن الجنوب
وذكر الموقع أن طلب تأمين تسليم المساعدات من المدنيين العاديين يعكس اليأس في شمال غزة والتحديات الكبيرة التي تواجهها الوكالات الإنسانية. وذلك بعد أن فرضت إسرائيل حصارًا كاملًا عقب هجمات حماس في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، فقد منع الجيش الإسرائيلي دخول الإمدادات الأساسية، وأمر سكان الشمال بمغادرة منازلهم.
وأشار الموقع إلى أن جيش
الاحتلال الإسرائيلي كثف قصفه للمباني وتدمير الطرق، ليتم تقسيم القطاع إلى نصفين عبر ممر نتساريم مع نقاط تفتيش إسرائيلية. وفي حين سمحت إسرائيل بكميات محدودة من المساعدات في الجنوب، إلا أن الشمال لم يتلقَ سوى القليل.
وفي كانون الأول/ ديسمبر، حذرت الهيئة الدولية من خطر المجاعة في غزة، ووصفت الوضع في الشمال بالـ "مقلق"، كما أصدرت محكمة العدل الدولية، في كانون الثاني/ يناير، أمرًا لإسرائيل بتسهيل المساعدات. ورغم ذلك، إسرائيل رفضت غالبية طلبات الأمم المتحدة لإرسال قوافل إلى الشمال، وهاجمت القوافل القليلة التي تم الموافقة عليها، وزادت التهديدات ضد عمال الإغاثة.
وفي كانون الثاني/ يناير، نفذت الأمم المتحدة 10 من أصل 61 بعثة إنسانية بسبب العرقلة الإسرائيلية، والتي انخفضت إلى 6 بعثات في شباط/ فبراير، ثم توقفت المساعدات في نهاية الشهر بعد قصف قافلة غذائية تابعة للأمم المتحدة، وجمدت إسرائيل دور الأونروا في الشمال، مما اضطر الناس لأكل العشب، وقد توفي 10 أطفال بسبب سوء التغذية والجفاف في نهاية الشهر نفسه.
خلق فراغ أمني
مع انتشار المجاعة، بدأ النظام المدني في الشمال بالانهيار. وعندما تمكنت قافلة نادرة من عبور نقاط التفتيش، سارع الناس الجائعون إلى نهبها لتأمين الطعام لأنفسهم ولعائلاتهم.
وأوضح الموقع أن السلب المنظم كان يشكل تهديدًا أيضًا، لكنه كان أقل شيوعًا مما أصبح عليه لاحقًا. وعلى الرغم من التصريحات الإسرائيلية المتكررة بأن حماس كانت تسرق وتعيد بيع المساعدات، إلا أنه لم يكن هناك أدلة تذكر لدعم هذه الادعاءات.
اظهار أخبار متعلقة
وأضاف الموقع أنه عندما بدأت الشرطة المدنية بتوفير الأمن لقوافل المساعدات، تعرضت هي الأخرى للهجوم. وبعد سلسلة من الغارات الجوية المميتة في شباط/ فبراير، انسحبت الشرطة وتُركت قوافل المساعدات دون حماية، وتدهور الأمن في جميع أنحاء غزة.
واعتبرت الأمم المتحدة أن استهداف إسرائيل للشرطة المدنية غير قانوني، كما انتقدت الولايات المتحدة هذه الهجمات، محذرة من عرقلة نقل المساعدات وخلق فراغ أمني.
الفوضى والعنف
وذكر الموقع أن وتيرة المجاعة في غزة تسارعت بالتوازي مع الانهيار الاجتماعي؛ حيث تجمع الفلسطينيون في دوار الكويت والنابلسي بانتظار المساعدات، لكن الجنود الإسرائيليين فتحوا النار، ما أدى إلى تدافع.
وذكر الموقع مجزرة "الدقيق" التي وقعت في 29 شباط/ فبراير، حيث استشهد 100 شخص وأصيب 700. وسجلت المفوضية 10 هجمات على الأشخاص الذين كانوا ينتظرون المساعدات. وحمّل مكتب المفوض السامي إسرائيل، بصفتها القوة المحتلة، مسؤولية توفير الطعام والرعاية أو تسهيل الأنشطة الإنسانية.
الخطة تتضح
وقال الموقع إن العائلات والقبائل البارزة في غزة نظمت لجانًا لتوفير الأمن بعد الهجمات الإسرائيلية. وقد تعاونت الأمم المتحدة مع هذه اللجان لتوزيع المساعدات بشكل عادل، على أمل توسيع الاستجابة الإنسانية لاحقا.
ونظرا لعدم وجود أي مؤشر على الأرض يفيد بأن إسرائيل مهتمة بتسهيل استجابة إنسانية ذات مغزى، كان هذا المخطط يبدو صعب التنفيذ. لكن مع تزايد الجوع والفوضى، شعرت الوكالات أنه ليس أمامها خيار آخر.
المتاهة السياسية لمساعدات غزة
وأفاد الموقع أن المسؤولين الإسرائيليين قاموا في وقت سابق من السنة بطرح فكرة إنشاء هياكل حكومية محلية لتحل محل حماس في غزة، مع محاولة تسليح العائلات والقبائل لتأمين المساعدات، لكن الخطط قوبلت بالرفض من العائلات وتحذير حماس من التعاون مع إسرائيل.
ولجأت إسرائيل إلى العمل مع متعاقدين من القطاع الخاص لمحاولة إنشاء نظام مساعدات بديل تحت سيطرتها للتحايل على الأمم المتحدة، كما انتشرت شائعات وتقارير تفيد بأن السلطة الفلسطينية كانت تحاول بناء قوة أمنية خاصة بها في القطاع.
وفي ظل هذه الخلفية، كانت القبائل والعائلات حذرين من العمل مع الأمم المتحدة، لكنهم أيضا كانوا يراقبون بقلق متزايد جهود إسرائيل لإزالة الحكومة ودفع غزة إلى الفوضى، وكانوا قلقين من أن ينتهي الأمر بالعائلات إلى القتال من أجل السيطرة على الموارد في صراع عنيف مجاني للجميع.
وقد استغرق الأمر بعض الوقت ورأس المال السياسي للتغلب على حذر العائلات في البداية، لكن مسؤولي الإغاثة نجحوا في تنظيم اجتماعات مع قادة المجتمع المحلي في غزة وأسفرت هذه الاجتماعات عن تشكيل لجان شعبية لتأمين المساعدات، والتي حظيت بموافقة ضمنية من حماس لتجنب أن يبدو الأمر وكأنه استقطاب لصالح أهداف الحرب الإسرائيلية.
نجاح وصول المساعدات
وأوضح الموقع أن الخطة التي تبلورت كانت على النحو التالي: عندما تنطلق القافلة، تقوم الأمم المتحدة بإبلاغ اللجان القبلية التي تقوم بدورها بإرسال أشخاص على طول الطريق لحمايتها من النهب وضمان وصول حمولتها بأمان إلى المستودعات.
ووفقا لجيمي ماكغولدريك، منسق الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية في ذلك الوقت، فقد استخدمت جهود الإغاثة نفس نظام تفادي التضارب مع السلطات الإسرائيلية الذي تستخدمه الأمم المتحدة.
ولتجنب التعرض لهجوم إسرائيلي، منعت اللجان القبلية أعضاءها من حمل الأسلحة النارية، لكن بعض عناصرها حملوا العصي أو القضبان الحديدية في حال احتاجوا إلى صد اللصوص.
وقبل منتصف ليلة 16 أذار/مارس بقليل، وصلت قافلة تابعة للأمم المتحدة مكونة من تسع شاحنات محملة بالمواد الغذائية إلى شمال غزة، تبعتها في 17 آذار /مارس 18 شاحنة أخرى.
وجاء ذلك في لحظة حاسمة؛ ففي 18 آذار/مارس، أصدرت فرقة العمل التابعة للجنة الدولية للصليب الأحمر تحذيرًا شديد اللهجة: كانت المجاعة وشيكة في شمال غزة؛ وبدون زيادة كبيرة في وصول المساعدات الإنسانية، كان أكثر من 200,000 شخص معرضين لخطر وشيك.
وأشار مكتب تنسيق الشؤون الإنسانية إلى أنه لأول مرة منذ شهور تتم عمليات التسليم والتوزيع "دون الإبلاغ عن أي حادث يُذكر". وللمرة الأولى منذ بداية شهر آذار/مارس، لم يتم الإبلاغ عن أي حوادث قتل في دوار الكويت والنابلسي في أي من اليومين.
سلسلة من الاستهدافات
وذكر الموقع أن مخزن المساعدات في جباليا تعرض للقصف بعد أقل من 48 ساعة، وأعقب ذلك الهجوم على المخازن هجمات إسرائيلية على أعضاء اللجان القبلية الذين كانوا يعملون على تأمين المساعدات، مما أسفر عن استشهاد العديد من القادة والمجتمع المحلي.
وجاءت هذه الغارات بعد أيام فقط من توقيع غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك، على رسالة إلى الحكومة الأمريكية وعد فيها بأن السلطات الإسرائيلية لن تعرقل المساعدات الإنسانية وستستخدم الأسلحة التي قدمتها الولايات المتحدة وفقًا للقانون الدولي.
ومع بدء انهيار جهود إيصال المساعدات تحت القنابل والرصاص، عاد الناس إلى دوار النابلسي والكويت، واستؤنفت الهجمات الإسرائيلية اليومية على الأشخاص الذين ينتظرون المساعدات في تلك المواقع.
وقال عمال الإغاثة التابعون للأمم المتحدة إنهم لا يستطيعون الجزم بأن إسرائيل استهدفت عمدًا أعضاء لجان العشائر بسبب دورهم في تأمين إيصال المساعدات، ولكن بالنسبة لأعضاء اللجان القبلية، لم يكن هناك شك في ذلك، وقال أحد مسؤولي الأمم المتحدة إنه يعتقد أن قادة اللجان وأعضاءها "مستهدفون بشكل خاص ومتعمد لأن إسرائيل تريد فرض الفوضى في قطاع غزة".
وتزامنت الهجمات على اللجان العشائرية مع هجمات على ضباط ومسؤولين في الشرطة في شمال غزة، كما بدأت القوات الإسرائيلية غارة على مستشفى الشفاء استمرت لمدة أسبوعين؛ حيث قتلت المسؤول البارز في الشرطة فائق المبحوح.
وفي حين أنه من الصعب تحديد النية، إلا أن الضربات الإسرائيلية على أعضاء اللجان القبلية وضباط الشرطة وغيرهم من قادة المجتمع المحلي خلال تلك الفترة كان لها تأثير في قتل عدد كبير من الأفراد الذين كانوا يتمتعون بسلطة كافية لحشد جهود مدنية لتأمين إيصال المساعدات ومنع شمال غزة من الانزلاق إلى الفوضى.
وفي 30 آذار/مارس؛ استهدفت غارة إسرائيلية مجموعة من العاملين على تأمين المساعدات في دوار الكويت، مما أدى إلى استشهاد 19 شخصًا. وفي اليوم التالي، قررت اللجان القبلية إنهاء مشاركتها في تأمين المساعدات.
ما بعد الكارثة
وقال الموقع إنه في 1 نيسان/أبريل، قتلت غارة إسرائيلية سبعة من عمال الإغاثة التابعين لمنظمة "المطبخ المركزي العالمي" غير الحكومية في دير البلح وسط قطاع غزة، وكان ستة من القتلى يحملون جوازات سفر غربية، وقد أثارت هذه الوفيات مستوى من الغضب الدولي لم تفلح المجاعة في الشمال ومقتل عشرات الفلسطينيين المشاركين في جهود الإغاثة في إثارته.
واستجابت إسرائيل للضغوط الدولية بالسماح بعمل المخابز شمال غزة وفتح مسارات جديدة للمساعدات الإنسانية، وبدأت أول عملية تسليم عبر الطريق الجديد في 12 نيسان/أبريل، مما أظهر أنه كان بالإمكان تجنب الأزمة السابقة لو تم فتح المعابر مسبقًا.
ورغم استئناف عمل المخابز، ظل نقص الغذاء واضحًا بسبب منع دخول معظم المواد الأساسية، فيما استمرت الغارات الإسرائيلية بقتل المدنيين واستهداف عمال الإغاثة.
وأشار تحليل أصدره المركز الدولي للأزمات في نهاية شهر حزيران/يونيو إلى أن المجاعة المحتملة في شمال غزة لم تحدث بسبب زيادة شحنات الغذاء في شهري آذار/مارس ونيسان/أبريل، لكن وضع الأمن الغذائي في جميع أنحاء غزة ظل حرجًا.
فقد بدأت حالة من العنف الذي كان يخشاه قادة المجتمع المحلي في الشمال، ومع مقتل القلة من الفلسطينيين القادرين على تأمين توصيل المساعدات والحفاظ على قدر من النظام العام، سرعان ما تحولت "عمليات التوزيع العفوية" التي كان يقوم بها الجائعون إلى هجمات منظمة من قبل العصابات المسلحة التي كانت تبيع البضائع المنهوبة بأسعار باهظة.
اظهار أخبار متعلقة
وفي بداية شهر تشرين الأول/أكتوبر؛ فرضت إسرائيل حصارًا شاملًا على المراكز السكانية الثلاثة الواقعة في أقصى شمال القطاع - جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا - وأمرت السكان المتبقين بالمغادرة، وشنّت إسرائيل هجومًا عسكريًا وحشيًا هناك، ومنعت دخول جميع المساعدات الإنسانية تقريبًا.
ومع استمرار الحصار الإسرائيلي، أدى تزايد العصابات التي تهاجم قوافل المساعدات إلى انهيار تام في توافر المواد الغذائية، وفي تشرين الثاني/نوفمبر، أعلن المجلس الدولي للمساعدات الإنسانية أن المجاعة وشيكة في شمال غزة، وأن الإمدادات الغذائية "تدهورت بشكل حاد" في بقية القطاع.
وقد تجلى التهديد الذي تشكله العصابات ودور إسرائيل في تمكينها عندما اختطف لصوص مسلحون 98 شاحنة من أصل 109 شاحنات تابعة للأمم المتحدة في قافلة مساعدات غذائية دخلت غزة في منتصف تشرين الثاني/نوفمبر.
وختم الموقع بأن سلسلة عمليات القتل التي وقعت في آذار/مارس كانت مثالًا بارزا على كيفية قيام إسرائيل بشكل منهجي بتقويض القيادة المحلية والجهات الفاعلة الإنسانية من أجل تحقيق الفوضى في غزة، وفقا لتصريحات أحد عمال الإغاثة الذي وصف الوضع بأنه "بغيض وإجرامي".