قضايا وآراء

ماذا يحدث في المحكمة الجنائية الدولية؟

محمد جميل
وُجهت إلى المحكمة انتقادات قانونية محقة بسبب تَلكُّئها وتباطُئها في الملف الفلسطيني، إلا أن هذه الانتقادات لم ترقَ إلى مستوى التشويه أو التهديد أو الابتزاز.. الأناضول
وُجهت إلى المحكمة انتقادات قانونية محقة بسبب تَلكُّئها وتباطُئها في الملف الفلسطيني، إلا أن هذه الانتقادات لم ترقَ إلى مستوى التشويه أو التهديد أو الابتزاز.. الأناضول
لم يسبق أن تعرضت المحكمة الجنائية الدولية منذ تأسيسها إلى هذا القدر من التشويه وممارسة الضغوط التي وصلت حد الفضيحة. فكل القضايا التي عُرضت على المحكمة سارت في مسارها العادي دون كثير من الضوضاء، وحتى عندما صدرت مذكرات القبض ضد بوتين وهو رئيس دولة نووية، لم نسمع عن تهديدات وضغوط كبيرة.

وُجهت إلى المحكمة انتقادات قانونية محقة بسبب تَلكُّئها وتباطُئها في الملف الفلسطيني، فمستوى التحرك في مكتب المدعي العام منذ إحالة الجرائم إلى المحكمة في يونيو/حزيران 2014 لم يرقَ إلى مستوى الجرائم كماً ونوعاً مقارنةً بسرعة التحرك في ملفات أخرى، وخاصة في الدول الإفريقية والملف الأوكراني. إلا أن هذه الانتقادات لم ترقَ إلى مستوى التشويه أو التهديد أو الابتزاز.

سر الهجمة الشرسة على المحكمة كشف عنه المدعي العام الحالي كريم خان في مقابلة مع شبكة "سي إن إن" الأمريكية، أن رئيس دولة غربية منتخبا قال له: "هذه المحكمة أُنشئت من أجل إفريقيا ومن أجل السفاحين مثل بوتين وليس ضد الدول الغربية وحلفائها". فهم لا يتوقعون أن تطالهم أو تطال ربيبتهم إسرائيل، فجن جنونهم منذ أعلنت المدعية العامة السابقة فاتو بن سودا تحقيقاتها الرسمية في الجرائم المرتكبة في فلسطين، وازداد هذا الجنون بعد طلب خان إصدار مذكرات قبض بحق نتنياهو وجالانت.

تصريح خان حول التنبيهات التي تلقاها وما تضمنته من تهديدات مبطنة (يُعتقد أنها كانت بعد وقت قصير من استلام منصبه) يفسر سبب الجمود في الملف الفلسطيني؛ فخان عَلِم بالمخاطر التي قد تواجهه إذا ما أكمل عمل المدعية السابقة، فاستسلم وتجاهل الملف كلياً، لكن أحداث السابع من أكتوبر وحجم الجرائم التي تُرتكب وتصاعد الانتقادات الموجهة إليه فرض عليه التحرك بالشكل المتواضع الذي رأيناه.

اليوم، هناك أحداث تُوصف بأنها مفاجئة وغير طبيعية تدور في المحكمة الجنائية الدولية كفيلة بتقويضها فقد انتشرت تقارير عن فضيحة تحرش جنسي تورط فيها السيد كريم خان مع موظفة في مكتبه، الأمر الذي نفاه كريم خان جملة وتفصيلاً. كما أعلنت المحكمة استبدال القاضية الرومانية جوليا موتوك، التي ترأس الغرفة التمهيدية وتنظر في مذكرات اعتقال نتنياهو وجالانت، بالقاضية السلوفانية السيدة بيتي هولر لأسباب طبية لم يُكشف عنها.

نشر الفضيحة الجنسية التي تم تداولها في وقت حرج بغض النظر عن صدقيتها ليس بريئا على الإطلاق؛ فمصادر في المحكمة الجنائية تحدثت عن أن نشرها في هذا التوقيت هو عقاب للمدعي العام الذي تجرأ على تقديم طلب للغرفة التمهيدية في 20 مايو 2024 لإصدار مذكرات قبض بحق نتنياهو وغالانت.
نشر الفضيحة الجنسية التي تم تداولها في وقت حرج بغض النظر عن صدقيتها ليس بريئا على الإطلاق؛ فمصادر في المحكمة الجنائية تحدثت عن أن نشرها في هذا التوقيت هو عقاب للمدعي العام الذي تجرأ على تقديم طلب للغرفة التمهيدية في 20 مايو 2024 لإصدار مذكرات قبض بحق نتنياهو وغالانت.

وكانت تقارير إعلامية قد تحدثت عن أن جهاز الموساد الإسرائيلي تجسس على المدعي العام وموظفين وقضاة على صلة بالملف الفلسطيني ووجّه لهم تهديدات. وكشفت هذه التقارير أن المدعية السابقة فاتو بن سودا تعرضت لتهديد مباشر من رئيس الموساد السابق يوسي كوهن خلال لقاء جمعهما، كما تم تسريب تسجيلات شخصية لزوج فاتو تسببت في إحراج لها في الدوائر الدبلوماسية.

الفضيحة التي انفجرت اليوم، فيما سماه كثيرون “ما قبل اللحظات الأخيرة” من إصدار مذكرات القبض، لن تؤثر على قضاة المحكمة، وإن كان نشر الفضيحة يحمل رسالة غير مباشرة لهؤلاء القضاة بأنكم وأُسركم الهدف التالي إن صادقتم على طلب المدعي العام.

وهذا ما يجعلنا نتساءل: هل نجحت هذه الحملة الشرسة على قضاة المحكمة في دفع القاضية الرومانية للاستقالة؟ وهل التأخر في إصدار القرار لأكثر من خمسة أشهر مردّه هذه الضغوط؟ حتى الآن لا يوجد ما ينفي أو يؤكد ذلك، فما أعلنته المحكمة بشكل مفاجئ أن سبب الاستبدال هو أسباب صحية، وقابل الأيام سيكشف ما هي هذه الأسباب الصحية وهل هي حقيقة أم ذريعة؟ وهل بعد التشكيل الجديد للغرفة التمهيدية سيكون إصدار المذكرات وشيكاً؟

نعتقد أن الأسباب الصحية لاستقالة القاضية موتوك غير مقنعة وهي ذريعة غير مسبوقة في كل القضايا التي عُرضت على الغرفة التمهيدية؛ فقد عملت موتوك لفترة طويلة في الغرفة التمهيدية ولم تعانِ من أي شيء، وبرزت معاناتها فجأة في هذا الملف، مما يشير إلى أن هناك ضغوطاً شاركت فيها دولتها رومانيا لإحباط تشكيل أغلبية محتملة تصادق على مذكرات الاعتقال.

وما يعزز ذلك أن القاضية الجديدة هولر نشرت في فبراير/شباط 2015 قبل انضمامها إلى المحكمة مقالاً بعنوان “انضمام فلسطين إلى المحكمة الجنائية الدولية: تحليل مختصر”، وفيه تشكك في أن فلسطين دولة وتجادل بأنها لا تملك حدوداً معروفة، وبموجب اتفاق أوسلو لا تملك فلسطين ولاية جنائية على الإسرائيليين وبالتالي لا تستطيع إحالة الجرائم المرتكبة إلى المحكمة، وأن إسرائيل تملك جهازاً قضائياً مستقلاً وفعالاً وبالتالي له الأولوية في التحقيق في الجرائم وفق مبدأ التكامل.

مقال هولر فيه كثير من السياسة وقليل من الفهم القانوني والواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في ظل الاحتلال؛ فمسألة أن فلسطين ليست دولة وليس لها حدود قد حُسمت في قرار سابق للمحكمة في فبراير 2021، مفاده أن لا سلطة للمحكمة للنظر في هذه المسألة، فهي محسومة ومحددة في قرارات الأمم المتحدة. فلسطين دولة ضمن حدود الرابع من حزيران، وتأكد ذلك في الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية الأخير، الذي اعتبر أن الاحتلال بحد ذاته أصبح جريمة يجب أن ينتهي، وهو الأمر الذي صادقت عليه الجمعية العامة في قرارها الأخير.

أما فيما يتعلق باتفاقيات أوسلو وأن فلسطين لا تملك إحالة الجرائم إلى المحكمة، فقد ردت عليه المحكمة جزئياً في قرارها السابق، معتبرة أن ذلك يخالف قواعد القانون الدولي الإنساني، وقاعدة آمرة في القانون الدولي تنص على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير.

أما أن إسرائيل تمتلك جهازاً قضائياً فاعلاً يمكن أن يحقق في الجرائم التي تُرتكب ويجب إعطاؤه فرصة وفقاً لمبدأ التكامل، فهذا انفصال عن الواقع؛ فحتى تاريخ كتابة هولر لمقالها، شنت إسرائيل على غزة ثلاث حروب راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، ودُمرت مناطق كاملة، وهُجر الآلاف، ولم نسمع عن أي تحقيق جاد. بل طوال عقود من الاحتلال كانت ولا زالت السلطة القضائية أداة في يد الاحتلال لشرعنة الاستيطان والقتل والتعذيب والتهجير.

اليوم، بعد تسع سنوات على مقال هولر، مسألة التكامل وفيما إذا كانت فلسطين تملك إحالة الجرائم إلى المحكمة مطروحة على الغرفة التمهيدية التي شُكلت مؤخراً وجعلت فيها هولر عضواً؛ فهل ستتشبث هولر برأيها بعد كل هذه المذابح وما يجري من إبادة جماعية في قطاع غزة دون أن يرمش لأحد جفن في إسرائيل؟ أم أنها ازدادت وعياً وخبرة بعد سنوات طويلة عملت فيها داخل المحكمة، مما يجعلها تفهم أن القانون والأدلة المتوافرة يؤكدان أن لا مكان لمبدأ التكامل، باعتبار أن إسرائيل بكليتها دولة مارقة، مما يوجب العمل بوتيرة أسرع لإصدار مذكرات قبض ليس بحق نتنياهو وجالانت فقط، إنما بحق الآلاف من المسؤولين والضباط والجنود.

القلق على مصير مذكرات القبض مشروع بعد كل هذه الفوضى، فلا نعلم كيف ستتشكل الأغلبية في المحكمة مع أو ضد. فرئيس الغرفة التمهيدية الفرنسي نيكولاس غيلو لا نعرف له رأياً سابقاً في القضية المطروحة؛ فهل سيتبع سيرته التي تقول إنه “ذو خبرة واسعة، عمل قبل انتخابه قاضياً في المحكمة الجنائية الخاصة لكوسوفو لمدة أربع سنوات كما عمل في المحكمة الخاصة في لبنان” أم أنه سيتبع سيرة بلاده الداعمة لإسرائيل؟!

شنت إسرائيل على غزة ثلاث حروب راح ضحيتها الآلاف من المدنيين، ودُمرت مناطق كاملة، وهُجر الآلاف، ولم نسمع عن أي تحقيق جاد. بل طوال عقود من الاحتلال كانت ولا زالت السلطة القضائية أداة في يد الاحتلال لشرعنة الاستيطان والقتل والتعذيب والتهجير.
أما القاضية رين ألابيني ـ غانسو التي تحمل جنسية الدولة الإفريقية بنين، فقد كانت من بين القضاة الذين قرروا في فبراير 2021 أن المحكمة ليس لها سلطة النظر في قرار جمعية الدول الأطراف في انضمام فلسطين لاتفاقية روما، وبالتالي فإن فلسطين دولة، والاختصاص الإقليمي للمحكمة يشمل كافة الأراضي الفلسطينية المعروفة في الأمم المتحدة.

لا شك أن أي قرار بتعطيل إصدار مذكرات القبض سيوجه ضربة قاصمة للمحكمة وسيؤكد ما قاله المسؤول الغربي بأن المحكمة صُممت لإفريقيا وملاحقة بعض “البلطجية”. وهذا قد يؤدي إلى انسحاب جماعي من قبل الدول الأطراف، وخاصة الإفريقية منها، مما يهدد بانهيار المحكمة.

في الوقت الحالي، هناك دعم واسع لعمل المسؤولين في المحكمة الجنائية الدولية من دول ومنظمات ورجال قانون، فهم ليسوا وحدهم يواجهون العربدة الإسرائيلية. حتى ضحايا الجرائم الإسرائيلية تقدموا لحماية أعضاء المحكمة؛ فبتاريخ 08/10/2024 نشرت صحيفة “الجارديان” خبراً مفاده أن المدعين العامين في هولندا يدرسون شكوى تقدم بها ضحايا فلسطينيون ونشطاء أمريكيون ضد رئيس الموساد وسياسيين أمريكيين هددوا المدعي العام وموظفين فيها.

كان من الواجب ألا تنتظر السلطات القضائية في هولندا ضحايا يهمهم سير العدالة وعدم تعطيلها لتقديم شكوى ضد من يهددون موظفي المحكمة، فالمدعون العامون في هولندا ملزمون بتحريك تحقيقات جدية بناءً على اتفاقية الاستضافة المبرمة بين الحكومة الهولندية والمحكمة، والتي تنص المادة 43 منها على التزام السلطات الهولندية بحماية الموظفين والمقر ضد أي تهديد.

أضف إلى ذلك أن اتفاق روما أصبح جزءاً من القانون الوطني الهولندي، وهو يلزم المدعين العامين بتحريك الدعوى العامة بموجب المادة 70 ضد كل من يحاول تعطيل سير العدالة أمام المحكمة. وهذا ينطبق على كافة الدول الأطراف، وخاصة الأوروبية منها، التي جعلت من اتفاق روما جزءاً من قانونها الجنائي الوطني.

أخيراً، في ظل الحملة المسعورة، كان من واجب مكتب الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية تفعيل المادة 70 من اتفاقية روما لملاحقة كل الأشخاص مهما كانت جنسياتهم الذين تجسسوا وهددوا موظفي المحكمة، ومنهم المدعي العام نفسه. لكن تراخي مكتب الادعاء العام وعدم التحرك الفعال أدى إلى الأحداث الخطيرة التي تعصف بالمحكمة اليوم.
التعليقات (0)