كلما جاء شهر ربيع الأول هبت نسمات
ذكرى
ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، وبعيدا عن الخلاف الذي يطول ويدور في هذه
المناسبة، حول الاحتفال بهذه الذكرى بين مجيز ومانع، نخرج من هذا الخلاف، إلى
رحابة الفكر، والسيرة النبوية، للحديث عن
الكتابات التي تناولتها.
وقد تعددت الكتابة عن سيرة النبي صلى الله
عليه وسلم. فقد اتخذت طريقة الكتابة القديمة في سيرته الحديث المتسلسل، حسب
الأحداث، بداية من قبيل ميلاده الشريف، وحتى لحوقه بالرفيق الأعلى، لكن كتابا
جديدا ترجم للعربية، من الكتب المهمة في السيرة النبوية التي كتبت في عصرنا
الحديث، وهو كتاب: (نبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.. سيرته وآثاره)، للدكتور محمد
حميد الله.
وقد اتخذ حميد الله منهجا لتناول السيرة
بعيدا عن السرد التاريخي المتواصل، بل من حيث المحاور والموضوعات، وقد ظل الكتاب
لسنوات طوال بغير اللغة العربية، ورغم وفاة المؤلف منذ سنوات، لكن منتدى العلاقات
العربية والدولية بالدوحة، قام بترجمته وطباعته، ترجمه الأستاذ عبد الواحد العلمي،
ترجمة دقيقة ومهمة، وطبع الكتاب طباعة فاخرة، بثمن مناسب للقارئ، وهو ما يشكر عليه
من قاموا بطبعه.
ولأن حميد الله عاش معظم سنوات عمره في
الغرب، فقد كان مراعيا لعقلية القارئ الغربي، أو المسلم الذي درس في الغرب، من حيث
الاهتمام بالتوثيق التاريخي، والتوثيق العلمي، لأحداث السيرة النبوية، متبعا
المنهج العلمي الدقيق، فقد استطاع محمد حميد الله أن يبرهن على وثائقية رسائل
النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والزعماء في زمانه، ويجلب كل الرسائل بنسخ أصلية
مصورة عن أصلها، ويتتبع مسار هذه الرسائل، ومتى تم توثيقها والتأكد من صحة نسبتها
للنبي صلى الله عليه وسلم؟
الناس مع المعجزات ثلاثة أصناف: صنف ليسوا بحاجة لمعجزات حتى يزداد إيمانهم بالله، فهم مؤمنون بهذه الرسالة، لما تحويه من مبادئ وتشريعات. وصنف بحاجة إليها ليؤمنوا. وصنف ثالث، لن يقتنعوا بهذا الدين مهما أتتهم من معجزات.
وتأتي أهمية ما يقوم به حميد الله، بأن هذه
الرسائل مهمة، والوصول لها عمل جليل ومهم، وتأتي أهميته في إثبات صحة هذه الرسائل
من ناحية. ولكن الناحية الأهم، أن هذه الرسائل هناك وسائل أخرى لإثبات صحتها بما
يعرف عند المسلمين بعلم الحديث، من حيث دراسة السند والحكم على سند الرواية بالصحة
أو الضعف، لكن الزاوية الأهم هنا، هي: أن هذه الرسائل مهمة، لكنها ليست بأهمية
نصوص القرآن الكريم، والذي اهتم المسلمون عند جمعه بجمع كل الرقاع والجلود والعظام
التي كتبت عليها نصوصه، فإذا كانت رسائل لغير المسلمين، تم الاهتمام بها بهذه الدرجة،
فما بالنا بنصوص القرآن الكريم، وهو كتابهم، وأصل تشريعهم وحياتهم آخرتهم؟!
وقد كان لحميد الله من قبل اهتمام بجمع
الوثائق، فقد أصدر منذ عقود كتابه الأشهر: (مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي
والخلافة الراشدة)، ولكن كتابه عن السيرة النبوية، جمع فيه كل ما يتعلق بالسيرة
النبوية من وثائق، بداية من رسالة النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي، والمقوقس،
وكسرى، وملك الغساسنة، وهرقل، وغيرهم من الملوك والساسة، وكل ما عثر عليه من رسائل
نبوية، وذكر عند كل وثيقة، مصدرها، وكيف عثر عليها، وكيف تناولها الغربيون ليؤكدوا
صحة نسبتها لمحمد صلى الله عليه وسلم؟
لو كان جهد حميد الله في كتابه توثيق
الأحداث النبوية والوثائق فقط لكفاه، لكن الرجل جمع إلى ذلك التناول الموضوعي
للسيرة النبوية، في خطوطها الرئيسية، وفي عرض للرسالة المحمدية عرضا علميا مشوقا،
دون الإخلال بشروط البحث العلمي لعالم مسلم يعتز بدينه، ويسير على خطى منهج
الأسلاف المعتمد في دراسة سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وتلك معادلة صعبة استطاع
القيام بها حميد الله بجدارة، وتوازن شديد.
عند حديثه عن معجزات النبي صلى الله عليه
وسلم، وبخاصة الحسية منها، نبه حميد الله إلى أن الناس مع المعجزات ثلاثة أصناف:
صنف ليسوا بحاجة لمعجزات حتى يزداد إيمانهم بالله، فهم مؤمنون بهذه الرسالة، لما
تحويه من مبادئ وتشريعات. وصنف بحاجة إليها ليؤمنوا. وصنف ثالث، لن يقتنعوا بهذا
الدين مهما أتتهم من معجزات. ولذا خلص لهذه النتيجة قائلا: (إنه ينبغي الإيمان
بالله لأن وجوده ضرورة، والإيمان برسله ورسالاته لأن صدقها بين، إن المعجزات
تلزمنا أن نقبل شيئا ما على مضض، إن المعجزة نوع من الإكراه، والخضوع تحت الإكراه
لا قيمة له: فالقرآن دقيق جدا في هذه المسألة)، وهي خلاصة مهمة لعالم كبير، مؤمن
بالله أشد الإيمان، ومن أكبر الدعاة لدينه في عصرنا الحديث.
وليس معنى كلامه نفي أهمية المعجزات الإلهية
الحسية، بل يذهب في توجيهها، ويناقش من ينكرونها، وبخاصة ما ثبت في القرآن الكريم،
فعند حديثه عن: (الطير الأبابيل)، في قصة أبرهة، ومحاولته هدم الكعبة، وخاصة أن
هناك من أنكرها في عصرنا الحديث من الغربيين ومن تأثروا بمنهجهم، بل راح بعض
المعاصرين من المفسرين كالشيخ محمد عبده رحمه الله، يوجه ذلك بأن الله عاقب جيش
أبرهة بمرض الجدري.
يقول حميد الله: (من الاستسهال القول بأن
الطير الأبابيل مجرد خرافة، غير أنه لا ينبغي أن ننسى بأن هذه الآيات نزلت بعد
أربعين سنة فقط من هذا الحدث، حيث شهود عيان من بين معسكر خصوم النبي صلى الله
عليه وسلم كانوا ما زالوا على قيد الحياة. فكان من السهل عليهم أن يسخروا من هذا
التفسير إن كان اختراعا من النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر رواة السيرة
انتقادات كثيرة كان يوجهها أعداء الإسلام للنبي صلى الله عليه وسلم ليس من بينها
على القطع قصة الطير الأبابيل).
ينبغي الإيمان بالله لأن وجوده ضرورة، والإيمان برسله ورسالاته لأن صدقها بين، إن المعجزات تلزمنا أن نقبل شيئا ما على مضض، إن المعجزة نوع من الإكراه، والخضوع تحت الإكراه لا قيمة له: فالقرآن دقيق جدا في هذه المسألة
بل بحث ودقق حميد الله في كتب التاريخ،
ليجلب نصا مهما في المسألة، فقال: (يذكر الطبري أنه في هذا العام انتشر مرض الحصبة
والجدري وأمراض معدية أخرى في هذه المنطقة لأول مرة في التاريخ. هل كانت هذه
الأمراض نتيجة تعفن الجثث أم أنها كانت بسبب الخسائر الفظيعة التي تلقاها جيش
الغزاة؟).
بهذا المنهج المتوازن، والمتئد، يسير
العلامة محمد حميد الله في كتابه: (نبي الإسلام.. سيرته وآثاره)، جامعا بين
التوثيق العلمي الذي يقدره ويحترمه العقل الغربي والعربي، وبين الدفاع عن الثوابت،
وعدم الانسحاق أمام ما يثيره الغربيون والمستشرقون حول بعض الأحداث، ولا يمكن
لمقال محدود، أن يلم بكل ميزات وإبداعات الرجل في كتابه الضخم الحجم، الجم
الفوائد، الذي لا تخلو منه صفحة من فوائد علمية، خدمة لسيرة النبي صلى الله عليه
وسلم، ليوضع الكتاب في مصاف الكتب المعاصرة المهمة التي تحدثت عن نبي الإسلام
وسيرته وآثاره.
[email protected]