توقْع الصحفي أوليفر إيغلتون، أن كير ستارمر، وهو زعيم حزب العمال، سوف يكون
رئيس الوزراء القادم في البلاد، مستفسرا: "كيف يتوقع له أن يحكم؟".
وأوضح إيغلتون، في مقال له، نشر على موقع "
نيويورك تايمز" الأمريكي، أن "الحظ لطالما ابتسم لستارمر"، مردفا: "أشادت الحكومة بأدائه في أثناء تقلده منصب المدعى العام. كما أثنت وسائل الإعلام على ما فعله لإعادة صياغة حزب العمال. والآن، بفضل ما يتعرض له حزب المحافظين من انهيار من الداخل، يتوقع له أن يرث الحكم في البلاد".
وفي ما يأتي النص الكامل للمقال:
تبدو النتيجة محسومة. فإن حزب المحافظين، الذي يحتضر بعد 14 عاماً، في السلطة باذلاً قصارى جهده للدفاع عن سجلّه المشوب بالفساد الروتيني وسوء إدارة الاقتصاد، يتوجه نحو الانتخابات العامة، الخميس، وهو لا يحظى بدعم أكثر من 20 بالمائة من الناخبين.
أما حزب العمال المعارض، الذي يدير حملة انتخابية لا لون لها ولا طعم، غايتها الرئيسية هي استثمار حالة الإحباط لدى الجمهور من الحكومة الحالية، فيتوقع أن يفوز بأغلبية برلمانية ضخمة. وذلك يعني أن زعيم حزب العمال، كير ستارمر، سوف يكون رئيس الوزراء القادم في البلاد.
كيف يتوقع له أن يحكم؟ فإن السيد ستارمر، وهو المحامي السابق، الذي يتّصف بنمط بلاغي لا طعم له، ولديه نزوع نحو تعديل سياساته، متهم من قبل نقاده في اليسار واليمين على حد سواء بأنه بلا يقين. واشتهر عنه أنه الرجل اللغز، وذلك لأنه لا يمثل شيئاً، ولا توجد لديه خطط، ولا يلتزم بمبادئ.
وصفت صحيفة "التلغراف" برنامجه الانتخابي بأنه "الأكثر بعثاً على الملل على الإطلاق، مما يؤكد فيما يبدو الإحساس بأنه فارغ، وأن سمة إدارته تتحدى التوقعات".
إلا أن نظرة ثاقبة على خلفية ستارمر تتناقض مع هذا التوصيف. فإن سياساته، في الواقع، مترابطة وثابتة. وأهم خصائصها على الإطلاق هو الولاء للدولة البريطانية. يعني ذلك عملياً الصرامة في التعامل مع أولئك الذين يشكلون تهديداً لها.
طوال عمله في مجالي القانون والسياسة، كان ستارمر يصدر عن طبع سلطوي شديد، ولا يفتأ يتصرف دفاعاً عن مصالح الأقوياء. وها هو الآن يستعد لنقل هذه النزعة إلى داخل الحكومة. وبناء عليه سوف تكون التداعيات على
بريطانيا، البلد الذي هو في أمس الحاجة إلى التجديد وليس إعادة التمترس، بالغة الخطورة.
يندر أن يتطرق ستارمر لتفاصيل عمله في السلك القضائي، وبالطبع لا يعلم أحد ما هي دوافعه الشخصية. ولكن يبدو واضحاً، بناء على سجلّه التاريخي، أن رؤية ستارمر بدأت تتشكل مع مطلع الألفية. فحينها بدأ يُعرف عنه أنه محام تقدمي يعمل بدون مقابل خدمة للنقابيين ونشطاء البيئة.
اظهار أخبار متعلقة
ولكنه في عام 1999 فاجأ الكثيرين من زملائه عندما وافق على الدفاع عن جندي بريطاني أطلق النار في بلفاست، على فتى كاثوليكي وأرداه قتيلاً. وبعد أربعة أعوام استأجره مستشار لمجلس شرطة شمال إيرلندا لشؤون حقوق الإنسان، وتمثّل دوره كما قيل في مساعدة ضباط الشرطة على تبرير استخدام الأسلحة وخراطيم المياه والرصاص المطاطي.
وباحتفاء المؤسسة القضائية به، كُلّف ستارمر بإدارة مكتب الادعاء العام في إنجلترا وويلز. قربه نجاحه في أداء المهمة التي كلف بها أكثر فأكثر من الدولة التي سعى لتحصينها من المساءلة، فلم يوجّه تهماً ضد ضباط الشرطة الذين قتلوا جان تشارلز دي مينيزيس، المهاجر البرازيلي الذي اشتبه بأنه "إرهابي"، فأطلقت عليه النيران عدة مرات في الرأس.
كذلك، لم يحاكم ستارمر عناصر المخابرات من جهازي إم آي 5 وإم آي 6، الذين وجهت لهم اتهامات على درجة من المصداقية، بأنهم تواطئوا في ممارسة التعذيب. كما لم يضع قيد المساءلة والمحاسبة جواسيس الشرطة، وهم ضباط متخفون اخترقوا مجموعات النشطاء اليساريين وتلاعبوا ببعض أعضائها من خلال إقامة علاقات جنسية طويلة المدى.
ولكنه سلك سبيلاً مختلفاً مع أولئك الذين رأى فيهم تهديداً للقانون والنظام. فبعد التظاهرات الطلابية التي انطلقت في عام 2010 احتجاجاً على رفع رسوم الدراسة الجامعية، قام بصياغة إرشادات قانونية لتيسير محاكمة المحتجين السلميين.
وفي العام التالي عندما اندلعت الاحتجاجات رداً على قتل الشرطة لمارك دوغان، أمر ستارمر بعقد جلسات محاكمة استمرت طوال الليل وعمل على تشديد الأحكام الصادرة بحق الناس الذي اتهموا بالمشاركة.
وفي عهده، حارب مدعو الدولة من أجل تسلم غاري ماكينون، وهو خبير تكنولوجيا المعلومات المصاب بالتوحد، والذي أحرج الجيش الأمريكي بتمكّنه من اختراق بياناته. كما بذلوا كل ما في وسعهم من أجل إطالة أمد القضية ضد محرر موقع ويكيليكس جوليان أسانج.
تم تكريم ستارمر مقابل خدماته ومنح لقب سير في عام 2014. ثم في العام التالي دخل البرلمان. وبعد تحيّنه للفرصة المناسبة هناك، قام بدور مركزي في عرقلة موقف حزبه بشأن الاتحاد الأوروبي، فناور من أجل ضمان دعم حزب العمال لإجراء استفتاء ثان بدلاً من القبول بالتصويت الذي قضى بترك الكتلة.
أسخط هذا الموقف كثيراً من الذين صوتوا لصالح بريكزيت، وساعد على ضمان هزيمة حزبه في انتخابات عام 2019. ثم تولّى ستارمر مهمة إعادة الاستيلاء على حزب العمال من اليساريين أنصار جريمي كوربين، وطهّر الحزب من الراديكاليين، مستخدماً نفس الإجراءات القمعية التي طورها أثناء عمله رئيساً لمكتب الادعاء العام.
اظهار أخبار متعلقة
لقد أوفى ستارمر بما تعهد به وقام بما كلف به وزيادة. فمنذ أن أصبح زعيماً للحزب، شن حملة قمع لا هوادة فيها ضد كل أشكال المعارضة الداخلية، مهما كانت خفيفة. فطرد سلفه، وحال دون ترشح الأعضاء لليساريين للبرلمان، وحظر مختلف المجموعات الاشتراكية، ومنع السياسيين من الانضمام إلى اعتصامات المضربين عن العمل تضامناً معهم، وأدخل أحكاماً غير ديمقراطية على إجراءات انتخاب القيادة.
كما طالب بمستوى خانق من التوافق والانسجام الأيديولوجي، حتى بات أعضاء البرلمان الذين ينتقدون حلف شمال الأطلسي عرضة للطرد في الحال من عضوية الحزب، والأعضاء الذين يعارضون ما تقوم به إسرائيل توجه إليهم تهمة معاداة السامية.
حوّل هذا التطهير حزب العمال إلى صورة طبق الأصل من حزب المحافظين: فهو خانع أمام الشركات الكبرى، ومدافع عن سياسة التقشف في الداخل والعسكرة في الخارج. كان ذلك بمثابة النذير لما سوف يكون عليه أداء ستارمر عندما يترأس الحكومة.
فلقد قال إنه ينوي الإبقاء على قانون النظام العام، والذي يفرض قيوداً غير مسبوقة على الاحتجاجات وييسر على السلطات توقيف النشطاء وحبسهم. كما وصف نشطاء البيئة بأنهم جديرون بالازدراء ومثيرون للشفقة، وتعهّد بأن يفرض عقوبات قاسية عليهم. بل ووصل به الأمر إلى أن يدعم مقترحاً بمعاقبة المحتجين الذين يعبثون بالنصب التذكارية بأحكام سجن تصل إلى عشر سنين.
يقول البعض إن مثل هذه الصقورية تنم عن حكمة، وتجدهم يلتمسون العذر لها باعتبارها ثمناً ضرورياً للمصداقية. إلاّ أن السلوك القمعي يكشف عن حقيقة أساسية لستارمر، ألا وهي أنه يسعى عند كل منعطف لحماية النظام القائم من التعطيل.
يمكن اعتبار العرض الذي يتقدم به حزب العمال، والذي يعد بتغيير الأمور بشكل طفيف جداً، لدرجة أن كبار التجار ورجال الأعمال يؤيدون ذلك بحماسة شديدة، تمديداً لذلك المبدأ بحيث يشمل البلاد بأسرها. وما الالتماس الغامض من قبل ستارمر للنمو والتغيير، بدون سبيل واضح لضمان أي منهما، إلا سمة، وليس علّة. لا يرتجى من حزب العمال في عهد ستارمر أن يفعل الكثير للإخلال بالوضع القائم.
لطالما ابتسم الحظ لستارمر. حيث أشادت الحكومة بأدائه أثناء تقلده منصب المدعى العام. كما أثنت وسائل الإعلام على ما فعله لإعادة صياغة حزب العمال. والآن، بفضل ما يتعرض له حزب المحافظين من انهيار من الداخل، يتوقع له أن يرث الحكم في البلاد.
اظهار أخبار متعلقة
إلا أن بريطانيا المعاصرة ليست في حالة جيدة. فهي مصابة بركود في النمو، وتعاني من تهلهل الخدمات العامة، وقوتها العاملة في حالة من الانكماش، وسجونها الحاشدة تكاد تفيض بالمحكومين، وأكثر من خمس السكان يعيشون في فقر.
يتطلب حل مثل هذه المشاكل أكثر من مجرد توقير المؤسسات القائمة والقيام ببعض المحاولات غير الحكيمة لإسكات النقاد. ولكن يبدو أن ذلك بالضبط هو ما سوف يقدمه رئيس الوزراء القادم.