سلط تحقيق أجرته صحيفة "
نيويورك تايمز" الضوء على الإرهاب والعنف الصهيوني في دولة
الاحتلال الإسرائيلي، مشيرا إلى أن فشل "إسرائيل" في إنفاذ القانون ضد من يمارسون هذا التطرف يعد "الخطر الأكبر" على مستقبلها وأمنها واستقرارها.
ولفت التحقيق الذي حمل عنوان "الفالتون من العقاب"، إلى أن القوى الراديكالية في دولة الاحتلال الإسرائيلي انتقلت من الهوامش إلى الاتجاه العام وباتت تهدد ما وصفه بـ"ديمقراطية إسرائيل"، موضحا أن "الفصائل العنيفة داخل حركة
الاستيطان تحظى بدعم الحكومة الإسرائيلية، وتعمل أحياناً بتحريض منها".
وتاليا نص التقرير مترجما:
لم يزل معظم الإسرائيليين، وعلى مدى عقود، يعتبرون الإرهابيين
الفلسطينيين أكبر هاجس أمني يؤرق البلاد. ولكن ثمة تهديد آخر قد يكون أكثر خطورة على إسرائيل في المستقبل وعلى أمنها واستقرارها كبلد ديمقراطي: إنه الإرهاب والعنف اليهودي، والفشل في إنفاذ القانون ضد من يمارسونه.
يكشف تحقيقنا الذي استغرق إعداده عاماً كاملاً كيف أن الفصائل العنيفة داخل حركة الاستيطان الإسرائيلية، والتي تحظى بحماية الحكومة وتعمل أحياناً بتحريض منها، باتت تشكل تهديداً ليس فقط للفلسطينيين داخل المناطق المحتلة، بل وكذلك لإسرائيل ذاتها. من خلال تجميع وثائق وفيديوهات جديدة وما يزيد عن مائة مقابلة أجريت خصيصاً لأغراض هذا التحقيق، وجدنا أننا أمام حكومة تهتز تحت وطأة حرب داخلية – تقوم بدفن تقارير تم إعدادها أصلاً بتكليف منها، وبتحييد تحقيقات هي كم أمر بإجرائها، وتعمل على إخراس كل من تسول له نفسه التبليغ عن ذلك، رغم أن بعض هؤلاء هم من كبار المسـؤولين في الدولة.
اظهار أخبار متعلقة
إنه تقرير يقوم على الصراحة، تُروى تفاصيله في بعض الحالات للمرة الأولى على لسان مسؤولين إسرائيليين، يصفون كيف غدا الاحتلال مصدر تهديد لتماسك المنظومة الديمقراطية في البلاد.
بات المستوطنون الذين يسعون لإقامة دولة ثيوقراطية هم المشرعون.
أخبرنا المسؤولون أن مجموعات المستوطنين التي كانت ذات يوم هامشية، وأحياناً إجرامية، وتسعى بإلحاح لإقامة دولة ثيوقراطية، سُمح لها على مدى عقود بالعمل دون قيود تذكر. ومنذ أن وصلت الحكومة الائتلافية التي يرأسها بنيامين نتنياهو إلى السلطة في عام 2022، استولت عناصر من ذلك الفصيل على السلطة – وباتت تمسك بمقاليد الأمور في البلاد، بما في ذلك الحرب على غزة.
لقد أصبح الخارجون عن القانون هم القانون
خذ على سبيل المثال بيزاليل سموتريتش، وزير المالية والمسؤول في حكومة نتنياهو عن الإشراف على إدارة الأمور في
الضفة الغربية، والذي كان قد اعتقل في عام 2005 من قبل جهاز الأمن الداخلي الشين بيت لوضعه مخططاً لإقامة حواجز على الطرقات للحيلولة دون الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة. لكنه ما لبث أن أخلي سبيله دون أن توجه له أي تهم. أما إيتامار بن غفير، وزير الأمن الوطني في إسرائيل، فكان قد أدين مرات عديدة لدعمه منظمات إرهابية، وذات مرة لأنه هدد بأسلوب موارب في عام 1995، وأمام الكاميرات، باغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين، الذي ما لبث أن قتل بعد ذلك بأسابيع على يد طالب إسرائيلي.
لم يزل عنف المستوطنين يحظى بالحماية بل وبالتشجيع منذ عقود
من المفروض نظريا أن يخضع جميع المستوطنين في الضفة الغربية لنفس القانون العسكري الذي يطبق على السكان الفلسطينيين. ولكنهم من الناحية العملية يتم التعامل معهم بحسب القانون المدني لدولة إسرائيل، والذي لا ينطبق رسمياً سوى على المناطق الداخلة ضمن حدود إسرائيل. وهذا يعني أن الشين بيت قد يحقق في عملين إرهابيين متشابهين داخل الضفة الغربية – أحدهما ارتكبه مستوطنون يهود والآخر ارتكبه فلسطينيون – ثم يستخدم أدوات تحقيقية مختلفة تماماً للتعامل مع كل واحدة من الحالتين.
تقع مهمة التحقيق في الأعمال الإرهابية التي يمارسها اليهود على عاتق قسم داخل الشين بيت يعرف لدى العامة باسم الدائرة اليهودية، ولكنه لا يكاد يبين سواء من حيث الحجم أو المكانة أمام الدائرة العربية، ذلك القسم المكلف بمكافحة الإرهاب الفلسطيني.
لطالما حظي اليهود الذين تورطوا في هجمات إرهابية ضد العرب على مدى العقود الماضية بلين وتساهل كبير، اشتمل على تخفيض مدة الحبس، والاكتفاء بتحقيقات سطحية لا تسمن ولا تغني من جوع، وصدور أوامر بالعفو. تقع معظم حوادث العنف الذي يمارسه المستوطنون – مثل حرق المركبات، وقطع أشجار الزيتون – ضمن صلاحيات الشرطة، والتي عادة ما تغض الطرف عن هذه الاعتداءات وتتجاهلها. وعندما تحقق الدائرة اليهودية في التهديدات الإرهابية الأشد خطورة، فإن تحقيقاتها تتعرض منذ اللحظة الأولى للإعاقة، وحتى في الحالات التي يتم فيها إنجاز التحقيقات بنجاح فإنها كثيراً ما تتعرض للتقويض من قبل القضاة والسياسيين المتعاطفين مع حركة الاستيطان.
تفاقم في العام الماضي هذا الوضع القائم على وجود مسارين للقانون. ولقد تناولنا بالدراسة والتدقيق عينة من أكثر من ثلاثين حالة وقعت في الضفة الغربية منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول)، تبين مجتمعة، وبكل جلاء، مدى التردي الذي لحق بالنظام القانوني. ففي قضايا تتراوح ما بين سرقة الماشية، إلى الحرق، إلى الاعتداءات العنيفة، لم يحصل أن وجهت تهمة ارتكاب جريمة لأي مشتبه به. في إحدى هذه القضايا أطلق مستوطن النار على فلسطيني فأصابه في معدته على مرأى ومسمع جندي في الجيش الإسرائيلي. كل ما حدث هو أن الشرطة استجوبت المعتدي لمدة عشرين دقيقة، ولكنها لم تعامله بتاتاً كمتهم في جريمة.
اظهار أخبار متعلقة
قال لنا عامي أيالون، الذي كان يشغل منصب رئيس الشين بيت في أواخر تسعينيات القرن الماضي، إن قادة الحكومة "أشاروا إلى الشين بيت أنه إذا قُتل يهودي، فهذا أمر مريع، أما إذا قُتل عربي فهذا ليس أمراً جيداً، ولكنه لا يعني نهاية العالم."
ولكن اليهود أنفسهم وقع استهدافهم من قبل القوميين المتطرفين. فرئيس الوزراء إسحق رابين قُتل بعد أن أصدر الحاخامات ما يكاد يرقى إلى أن يكون حكماً بالإعدام بحقه بسبب تأييده لعملية أوسلو للسلام.
يتم إخراس الناقدين كما يتم دفن التحقيقات
في عام 1981، بعد أن عبرت مجموعة من أستاذة الجامعات في القدس عن قلقها إزاء التواطؤ المحتمل بين المستوطنين والسلطات وإزاء "النشاطات الشرطية الخاصة" غير القانونية التي تمارس ضد الفلسطينيين في المناطق المحتلة، طُلب من جوديث كارب، التي كانت حينها تشغل منصب نائب المدعي العام للمهام الخاصة، بأن تترأس لجنة تنظر في الأمر. وجد التقرير الذي قدمته اللجنة حالات متكررة من التعدي على الملكيات الخاصة، والابتزاز والتلصص، والاعتداء والقتل، وكل ذلك دون أن تفعل السلطات العسكرية أو الشرطة شيئاً على الإطلاق أو في أحسن الأحوال تكون قد أجرت تحقيقات ولكنها ظلت تراوح مكانها ولم تفض إلى شيء.
حينها رد وزير الداخلية على التقرير بتقريع شديد للجنة. وعن ذلك حدثتنا كارب قائلة: "فهمت من ذلك أنه أراد منا أن نغلق الملف."
وكان ذلك هو نفس المصير الذي انتظر تحقيقاً آخر أجري بعد ذلك بعقدين من الزمن. وذلك أن تاليا ساسون، التي كلفت بصياغة رأي قانوني حول "المواقع الاستيطانية غير المرخصة"، وجدت أنه وخلال مدة زمنية تزيد قليلاً عن ثلاث سنين، أصدرت وزارة الإنشاءات والإسكان عشرات العقود غير القانونية في الضفة الغربية. بل وفي بعض الحالات قامت الوزارة نفسها بدفع تكاليف إنشاء تلك المستوطنات.
وصفت ساسون وزملاؤها في وزارة العدل القوانين المنفصلة التي رأوا الضفة الغربية تدار بموجبها بالجنون المحض.
لم يكن للتقرير أثر كبير، بل لم يكن له حول ولا قوة في مواجهة الآلة التي صممت من أجل توسيع المستوطنات.
وها هم المسؤولون الأمنيون يتحدثون مذعورين
في الضفة الغربية، هناك جيل جديد من القوميين المتطرفين الذين يتبنون توجهاً راديكالياً ضد نفس فكرة الدولة الإسرائيلية الديمقراطية. إن الغاية التي يرنون إليها هي تمزيق المؤسسات الإسرائيلية تمهيداً لإقامة "الحكم اليهودي"، بما يعنيه ذلك من تنصيب ملك لليهود، وبناء الهيكل في نفس موقع مساجد القدس المقدسة عند كل المسلمين حول العالم، وفرض نظام ديني على جميع اليهود.
وكما أخبرنا ليور أكرمان، المسؤول السابق في الشين بيت، كان واضحاً باستمرار "أن تلك المجموعات الشرسة سوف تنتقل حتماً من التنمر على العرب إلى تدمير الممتلكات وقطع الأشجار، ثم أخيراً إلى قتل الناس."
في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وبحسب وثيقة سرية اطلعنا عليها، كتب الفريق يهودا فوكس، رئيس القيادة المركزية الإسرائيلية المسؤولة عن الضفة الغربية، خطاباً إلى مسؤوله في العمل، رئيس هيئة الأركان في الجيش الإسرائيلي، يقول له إن الطفرة التي تشهدها البلاد في الإرهاب والعنف اليهودي، الذي يمارس انتقاماً من هجمات السابع من أكتوبر "يمكن أن تشعل النيران بالضفة الغربية."
وصفت وثيقة أخرى لقاء عقد في شهر مارس (آذار)، عندما كتب فوكس يقول إنه منذ أن استلم سموتريتش منصبه تضاءلت الجهود التي تبذل لوقف بناء المستوطنات غير القانونية "حتى وصلت إلى نقطة تكاد عندها تتلاشى تماماً."
لقد أعادت غزة تركيز اهتمام العالم على انعدام القدرة لدى إسرائيل منذ زمن طويل على التعامل مع مسألة الاستقلال الفلسطيني. ولكن الآثار الأكثر ضرراً، التي يلحقها الاحتلال بالفلسطينيين وبسيادة القانون في إسرائيل، أكثر ما تتجلى في الضفة الغربية على أيدي مستوطنين بلغوا من التمكن حد الجرأة، بعد أن بات بعضهم الآن ممسكاً بزمام الأمور في سدة الحكم.
أعد التقرير رونين بيرغمان مراسل صحيفة "نيويورك تايمز" في دولة الاحتلال الإسرائيلي، ومارك مازيتي وهو مراسل لها يتخذ من واشنطن مقرا له، أجرى لأغراض هذا التحقيق مقابلات مع أكثر من مائة شخص، بما في ذلك مسؤولون حاليون وسابقون في الحكومة الإسرائيلية.