لا مباغتة في الهجوم
الإيراني ردّا على قصف
إسرائيل للقسم القنصلي لسفارتها في دمشق. فقد كانت كلّ المؤشرات تؤكّد حدوثه.
فتوقعته الإدارة الأميركية. وأكدته إيران مرارا قبل ذلك. ثمّ أعلنته منذ إرسال
لمسيّراتها رغم أنها تستغرق ساعات قبل صولها. والأدهى أنّ مصادر إسرائيلية أكّدت
أنّ الإيرانيين قد أعلموها به قبل الشّروع في تنفيذه. ولذلك طُرح السؤال عميقا حول
مدى جدّيته ومدى سعي إيران إلى إيذاء الجانب الإسرائيلي وقد نُزع من هجومها عنصرا
السرعة والمباغتة المطلوبين في مثل هذه الحالات.
أمّا على المستوى العربي، فقد غذّى
هذا الحدث نشرات الأخبار وشكّلت "غضبة إيران للدّم الفلسطيني المراق"
موضوعا كسر روتين ونقاشات بلاتوهاتها التلفزيونية المضجرة. وجعل البعض يسعى جاهدا
لتحقيق نقاط في سوق المزايدات السياسية. وفاض أمل المتواصلين الاجتماعين ، وناب عن
شعورهم بالقهر وقلة الحيلة وبشّر بعضهم بحرب عالمية ثالثة.
بعيدا عن وصف الهجوم بالمسرحية كما ساد في
أفضية التّواصل لاحقا أو وصف إيران بالتّخاذل وذر الرّماد عن الأعين يبدو أنّ خللا
كبيرا قد طرأ على قراءة هذا الحدث، وأنّ الرّأي العام العربي السّني خاصّة، قد
حاول فكّ شفرته بجوارحه لا بعقله، وأنّ تصويبا لهذه القراءة يظلّ ضروريا، في
تقديرنا على الأقلّ.
1 ـ من "الوعد الحقّ".. "كفى
الله المؤمنين القتال"
ظّلت مواقع التواصل الاجتماعي العربية ترشح
حلما ونخوة في الليلة الفاصلة بين 13 و14 أفريل2024. فقد عاد الأمل إلى الشّعوب
العربية المغلوبة على أمرها، بتحرّك النّخوة عند طرف مّا لنصرة الفلسطينيين وسعيه
لإيقاف الإبادة التي تمارس في حقّهم. ولا لوم عليها. فما تأمله هو ما كان يجب أن
يحدث سواء كان هذا الطّرف دوليا أو إسلاميا أو عربيّا. وصوت إيران المتعاطف مع
الفلسطينيين كان عاليا ينذر بمثل هذا التحرّك.
"طوفان الأقصى" و"الوعد الحق" خطان متباعدان لا ينتميان إلى المخطط الهندسي نفسه. فالهجوم الأوّل مصيري راهن فيه الفلسطينيون بأجسادهم العارية ضد الموت دفاعا عن الأرض والمقدّسات أمّا الهجوم الثّاني فلا يزيد عن رسالة هادئة رصينة محسوبة العواقب.
والاسم الذي أطلق على هجومها [الوعد الحقّ]
يدفع إلى مثل هذا الاعتقاد. فمداره على استعارة تشبه وقعه بوقع قيام السّاعة
وهولها. فقد جاء في الآية 97 من سورة الأنبياء [وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ
فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا
فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ]. ولكن لم يتحقق شيء من الحلم
العربي ومن التّهديد الإيراني حقيقة أو مجازا. فلم تشخص أبصار الإسرائيليين ولم
يعلنوا أنهم كانوا في غفلة ولم يحدث دمار يذكر. ذلك أنّ كل المسيرات والصّواريخ قد
أسقطت خارج المجال الجوي الإسرائيلي. وسريعا ما أدلت بعثة إيران بالأمم المتحدة
برسائل طمأنة مؤكّدة أنّ "الردّ على استهداف القنصلية انتهى". ثم ظهر
القائد العام للحرس الثوري الإيراني حسين سلامي ليؤكّد أنّ إيران أرادت من الهجوم
عملية محدودة ناجحة، محذّرا إسرائيل من أنّ إيران ستردّ بعنف إذا هوجمت مصالحها.
فكشف التهديد الظّاهر توسلا مضمّنا لإيقاف الفعل وردّ الفعل عند هذا المستوى.
و"عفا الله عمّا سلف" و"كفى الله المؤمنين القتال".
ويبدو أنّ الولايات المتحدة قد التقطت هذه
الرسالة. فأعلن رئيسها أنّ ما حدث يعتبر انتصارا إسرائيليا داعيا بنيامين نتنياهو
إلى عدم تصعيد الموقف أكثر، مؤكدا أنّه سيعارض أي هجوم إسرائيلي على إيران. وأدان
الناتو بدوره "التصعيد الإيراني" داعيا إلى ضبط النفس حتّى لا يتّسع
التصعيد أكثر في الشرق وأعلنت المتحدثة باسمه فرح دخل الله في بيان ضرورة "
ألا يخرج النزاع في الشرق الأوسط عن السيطرة". وعلى منوالها فعلت كلّ من
فرنسا والمملكة المتّحدة.
2 ـ "الوعد الحق".. قراءة في حسابات طرفي
المواجهة
كان في المشهد أكثر من علامة تبرز أنّ
الهجوم الإيراني "المنتظر" محض مناورة بين طرفين يحسبان خطواتهما جيّدا.
فلا يريد كلاهما أن ينخرط في حرب لا يتوقّع أحد مآلاتها. وفي الآن نفسه يعملان على
إبقاء منسوب التوتّر والشدّ العصبي مرتفعا لحسابات سياسية داخلية وخارجية. ولعلّنا
أن نلمس هذه الرّغبة في مواقف حزب الله،
أحد أهم وكلاء إيران في المنطقة والمشارك في الهجوم بإطلاق العشرات من صواريخ
الكاتيوشا على مقر للدفاع الجوي في ثكنة إسرائيلية بالجولان. فمنذ بداية حرب إسرائيل
على غزّة بعد 7 أكتوبر بات الحزب الذي يستمدّ شرعيته من شعارات كنصرة الأمة
الإسلامية ومقاومة إسرائيل، مرتبكا محرجا. وظل يشاغل الإسرائيليين بالحدّ الأدنى.
فاكتفى بهجمات صاروخية أو بإرسال طائرات مسيّرة، دون أن يقوم بتصعيد يذكر مقارنة
بقدراته التي عرفناها في صداماته السّابقة معهم. وكانت عملياته تؤكّد لهم أنه
وإيران التي تقف خلفه، ملتزمان بقواعد الاشتباك في الردّ، أكثر ممّا تقنع
الفلسطينيين بالوقوف معهم في خندق واحد..
وكان سلوك إسرائيل بدوره يؤكّد أنها لن تذهب
بعيدا في مناوشاتها مع الحزب. فموقفها على المستوى الدولي محرج، خاصّة أنّ حليفها
الأميركي غير راض على مغامرات ناتنياهو. أما على المستوى الدّاخلي فمكبل بوضع
حكومتها المربك ووضع رئيسها السياسي والقضائي الهش ورفض سكان الشمال العودة إلى
مستوطناتهم ما لم تتوافر لديهم ضمانات. ومن ثمّ ظلّ انتشارها على الحدود الشمالية
دفاعيا صرفا.
تكشف هذه العوامل كلّها إذن أنّ المناكفات
بين إسرائيل وإيران تتصّل بالصّدام الإقليمي بينهما ومن وجوهها رهاناتهما في كل من
سوريا ولبنان ومعركة السلاح النووي وأن علاقتها بالحرب على غزّة واهية جدّا.
3 ـ التفاعل مع الهجوم غربا وشرقا
يكشف التّفاعل مع هذا الهجوم وجها آخر من
صلابة المواقف الغربية وثباتها بقدر ما يكشف هشاشة الموقف العربي. فقد ذكر المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي دانيال
هغاري في مؤتمر صحفي عُقد بعد الهجوم إن
إيران أطلقت أكثر من 300 صاروخ ومسيرة على إسرائيل وأنّ الدفاعات الجوية بمشاركة
"الحلفاء والشركاء"نجحت في التصدي إليها جميعا تقريبا. وبالفعل فقد
أعلنت فرنسا إسهامها في إسقاط هذه المسيرات قبل وصولها إلى المجال الجوي
الإسرائيلي. وفي الآن نفسه أكّدت وزارة الدفاع البريطانية أنّ "طائرات مقاتلة
وطائرة تزود بالوقود في الجو، شاركت مع نظيراتها الأميركية في التصدي للمسيرات
والصواريخ الإيرانية".
من المنظور الإيراني ليس الهجوم أكثر من رسالة للطرف الإسرائيلي مضمونها أنّ التطاول عليها لن يبقى دون عقاب، بعد تواتر الهجمات الإسرائيلية على قواتها في سوريا أو عمل مخابراتها على أراضيها ومحاصرتها لبرنامجها النّووي.
ولا نرمي من هذا العرض إلى تقديم المعلومة.
فهي متاحة في مختلف نشرات الأنباء. وإنما نحاول أن نبرز أنّ التحالف التقليدي بين
الصهيونية والغرب المسيحي يظل ثابتا في تواطؤه ضد الثقافة العربية الإسلامية. فلا
يكاد يتغيّر منذ أن توجّه نابليون بونابارت عام 1799 بعكا إلى يهود العالم بنداء
قال فيه "أيها الإسرائيليون انهضوا فهذه هي اللحظة المناسبة إن فرنسا تقدّم
لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل، سارعوا للمطالبة باستعادة مكانتكم بين شعوب
العالم" ومنذ أن انتزع البريطانيون فكرة "وطن اليهود القومي"من الفرنسيين
وعملوا على تحقيقها بعد موافقة مجلس الوزراء البريطاني عام 1917على إنشاء وطن لليهود وفق الرسالة التي
كتبها أرثر بولفور إلى اللورد الصهيوني ليونيل والتر روتشلد ومنذ أن انخرط
الأمريكيون في هذا المشروع. فالغرب لم يتحرّر من فكرة الصدام بين الشرق المسلم
والغرب اليهودي المسيحي وإن رفض "علمانيوه" الرّبط بين الدين والسياسة.
ومقابل وضوح البوصلة بالنسبة إلى الغرب ظلّ
الطرف العربي السني خاصّة، يتخبّط. فأغلب ساسته تحرّروا من عبء القضية الفلسطينية
"بفضل" اتفاق أوسلو الذي حوّلها من قضية أمّة إلى قضية فلسطينية محلية.
فغدا القرار الرّسمي معطلا تماما. وباتت أنظمته العالقة بين مطرقة الطموحات
الإيرانية الفاعلة ضمن امتدادها الشيعي في لبنان والبحرين واليمن والعراق وسنديان
إسرائيل، تبحث عن خلاصها الفردي. وليس أفضل من بيان مجلس الوزراء الأردني برهانا على هذا التّخبط وهو يعلن "ببراءة"
أنه قد "جرى التّعامل مع بعض الأجسام الطائرة التي دخلت إلى أجوائنا ليلة
أمس، والتصدي لها".
وعلى خلاف الموقف الرّسمي غلب على الرأي
العام السّني العاطفي الاندفاعُ والأملُ في أن تنوب إيران عنه في الدفاع عن مصالحه
وحقن دمائه. وهذا ما يبرّر الحماسة اللامتناهية لهجمات "الوعد الحق".
فقد ساد لديه اعتقاد بأنّ عملية تحرير فلسطين قد بدأت بعد. وغاب عن ذهنه المعطّل
كلّيا أنّ الصّراع الإيراني الإسرائيلي محكوم بمصالح الطّرفين الإقليمية
والاقتصادية وأنّ الخطاب الإيديولوجي الذي يغذّيه ليس إلاّ تعلّة لحشد الأنصار
وتجييشهم.
4 ـ ما بعد الهجوم.. حسابات الحقل والبيدر
بديهي أن يُطرح السؤال حول حصيلة هذا الهجوم
إحصاءً لمكاسب الإيرانيين والإسرائيليين والفلسطينيين وخسائرهم. فهل فشل الهجوم
الإيراني حقّا؟
لا يمكن تقييم حصيلة الوعد الحقّ دون ربطه
بالأهداف المراد تحقيقها منه. فمن المنظور الإيراني ليس الهجوم أكثر من رسالة
للطرف الإسرائيلي مضمونها أنّ التطاول عليها لن يبقى دون عقاب، بعد تواتر الهجمات
الإسرائيلية على قواتها في سوريا أو عمل مخابراتها على أراضيها ومحاصرتها
لبرنامجها النّووي. وفضلا عن ذلك فقد مثّل فرصة لاختبار ترسانة أسلحتها أو اختبار
فاعلية الدفاعات الإسرائيلية. ولكن لا شك أنّها أضحت اليوم أكثر انتباها إلى دور
الدّفاعات الغربية في إعاقة أي هجوم على إسرائيل وأنها ستأخذه في اعتبارها في
خططها العسكرية المستقبلية وستكون أكثر تمسّكا بالواجهتين اللبنانية والسورية
لقربهما من عدوّها وقدرتها على المناورة من خلالهما. ولكن لهجومها خسائره
أيضا، تلك التي تعتبر مكاسب من منظور
المحتلّ الإسرائيلي. فقد أتيحت لإسرائيل الفرصة لاختبار قدرتها على التّصدي لهجوم
إيراني محتمل والفرصة لاختبار مدى استعداد شركائها للدّفاع عنها. وحمل لها الهجوم
مفاجأة سعيدة بانخراط الأردن في الدفاع عنها، وهي تحمي أجواءها من" بعض
الأجسام الطائرة وتتصدى لها".
وقبل الهجوم كانت إسرائيل في عنق الزجاجة.
ورغم كلفة التضحيات الفلسطينية في غزة خاصّة بعد عملية طوفان الأقصى، يمكن أن
نعتبر الخسائر الإسرائيلية أفدح. فقد انهارت إستراتيجية الردع التي تمثّل ركيزة
مهمة لمفهوم أمنها. وحطّم الهجوم المفاجئ
الذي شنته حماس على مستوطنات "غلاف غزة" أسطورة الجيش الذي لا يقهر أو
المخابرات الخارقة. أما اقتصادها فقد لحقت به أضرار جسيمة طالت مختلف القطاعات
وتفاقم عجز موازنتها. فبلغت تكلفة حرب على القطاع منذ 7 أكتوبر الماضي حتى نهاية
مارس 73 مليار دولار، وهذا رقم ضخم جدّا. وقد يكون الهجوم الإيراني قد فاقم من
خسائرها الاقتصادية فقد قدّرت صحيفة يدعوت أحرنوت أنّ تكلفة الاعتراضات الجوية
ليلةَ 13-14 أفريل تراوحت بين1 مليار دولار و 1.5 مليار دوار، صرفت في التشويش على
نظام «GPS» والتأثير على
مسار الطائرات الإيرانية المسيرة وصواريخها الموجّهة وتشغيل «القبة الحديدية» .
ولكن حصيلة الهجوم الإيراني مثّلت لها جبرا للضرر وترميما المعنويات وتجميعا
لحلفائها من حولها.
أما الفلسطينيون فلا مكاسب تحقّقت لهم من
هذا الهجوم، ولا خسائر لحقتهم أيضا. وتفسير ذلك بسيط. فليس لهذا الصّدام
الإسرائيلي الإيراني، بصرف النّظر عن نتائجه أو قراءاتنا له أو مدى تعاطفنا مع
إيران، صلة بالإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة. و"طوفان
الأقصى" و"الوعد الحق" خطان متباعدان لا ينتميان إلى المخطط
الهندسي نفسه. فالهجوم الأوّل مصيري راهن فيه الفلسطينيون بأجسادهم العارية ضد
الموت دفاعا عن الأرض والمقدّسات أمّا الهجوم الثّاني فلا يزيد عن رسالة هادئة
رصينة محسوبة العواقب. ورغم ما فيه من مخاطرة ولعب بالنار في سياق عالمي شديد
التوتّر فقد أرادت إيران للتفجيرات التي خلّفها أن تكون أشبه بألعاب نارية في
احتفال جماهيري حتى تحدّ من وقع رسالتها.
ضمن هذا السياق يجب على الرأي العام العربي
أن ينزّل هجوم "الوعد الحقّ" حتى لا يسقط ضحية للوهم من جديد كما حدث له
في حرب 67 أو في حرب الخليج الثّانية.