بينما كانت تحدو بعض
المصريين آمال في انفراجة
اقتصادية، مع إقرار صندوق النقد الدولي قرضا لمصر بقيمة 8 مليارات دولار، صدمتهم التصريحات الأحدث لبعثة الصندوق من
القاهرة، والتي ربطت بين تمرير دفعات الشرائح المالية المقررة بالحفاظ على سعر صرف مرن للجنيه، مقابل العملات الصعبة.
ويعاني الاقتصاد المصري من أزمة تمويل وشح في العملات الأجنبية، بجانب تفاقم أزمات دين خارجي بلغ نحو 168 مليار دولار بنهاية العام الماضي، وحلول آجال الكثير من أقساطه وفوائده.
وفي ظل تلك الأزمة، وقعت مصر، وصندوق النقد الدولي في شباط/ فبراير الماضي، اتفاقا يقضي بزيادة تمويل الصندوق من 3 إلى 8 مليارات دولار، بزيادة 5 مليارات، في اتفاق أقره المجلس التنفيذي للصندوق الجمعة الماضية، ما رأى فيه البعض بداية لانفراجة لوضع مصر المتأزم.
لكن، رئيسة بعثة الصندوق للقاهرة إيفانا فلادكوفا هولار، والتي كانت تجري مراجعة لتعهدات مصر للصندوق حول برنامج الإصلاح الاقتصادي، قالت الاثنين، إن الصندوق سيربط المدفوعات لمصر بسماح القاهرة بتحديد سعر صرف الجنيه، وإتاحتها النقد الأجنبي للشركات والأفراد.
اظهار أخبار متعلقة
بعثة الصندوق التي أنهت مراجعتها الشهر الماضي، أعلنت عن مراجعات لاحقة لمدى التزام الحكومة المصرية بتعليمات الصندوق كل 6 أشهر، مشيرة لصرف 1.3 مليار دولار بشرط استيفاء شروط معينة، على أن تكون الدفعة الأخيرة في خريف 2026.
فلادكوفا هولار، التي تشير تصريحاتها بأن ما ينتظر المصريين قد يكون الأسوأ حين قالت إن "هذا إصلاح مهم يجب أن يستمر، إنه ليس إصلاحا لمرة واحدة"، وذلك مع تأكيدها على أن "مصر، بحاجة إلى استبدال دعم الوقود غير الموجه بإنفاق اجتماعي موجه".
ومع أن حكومة القاهرة استجابت لطلبات الصندوق لخفض الدعم، برفع أسعار البنزين والسولار والبوتاغاز الشهر الماضي، إلا أن فلادكوفا هولار، قالت إن "دعم الوقود سيواصل الانخفاض".
"ذكريات سلبية"
المثير أنه لدى 106 ملايين مصري ذكريات سلبية مع قرارات التعويم لعملتهم المحلية خلال عهد
السيسي، والتي انخفضت قيمتها في 11 عاما من نحو 7 جنيهات إلى نحو 47.15 جنيه رسميا مقابل الدولار، الثلاثاء.
ويعني "تحرير سعر الصرف"، أو "تعويم الجنيه"، عدم تدخل الحكومة أو البنك المركزي بتحديد سعر صرف الجنيه مقابل العملات الأجنبية، الذي يحدده سوق العرض والطلب، فيما يكون التعويم حرا أو موجها.
وكان أول قرار تعويم للعملة المصرية عام 1977، بعهد الرئيس أنور السادات (1970- 1981)، ليتخذ حسني مبارك قرار التعويم الثاني عام 2003، ليضرب عهد السيسي، الرقم القياسي في مرات التعويم ومعدلاتها.
وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2016، كان القرار الأول بالتعويم الذي رفع قيمة الدولار من 7 جنيهات إلى معدل 19 جنيها ثم إلى نحو 14.5 جنيه، ليأتي التعويم الثاني للسيسي، في 27 تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ليهوي بقيمة الجنيه بنحو 15 بالمئة إلى 24.4 جنيه للدولار الواحد، ليجري التعويم الثالث مطلع 2023، ليسجل الدولار رسميا نحو 30 جنيها.
كما أن المصريين لم يستفيقوا بعد من آثار وتبعات التعويم الرابع للجنيه بعهد السيسي، والذي جرى في 6 آذار/ مارس الماضي، وخفض قيمة العملة المحلية من 30 إلى 50 جنيها رسميا، وهو التعويم الذي رهن صندوق النقد الدولي إقراره للتمويل الجديد لمصر، بحدوثه.
ورغم أن خبراء توقعوا حدوث تعويمات متتابعة بأمر الصندوق، لكنه لم يتخيل البعض أن الحديث عن تحرير جديد لسعر الصرف سيأتي بهذه السرعة وبعد شهر واحد من التعويم الأخير، ملمحين إلى أنه وفقا لهذا التصريح فيتوجب على مصر عمل تخفيضات وتعويمات جديدة للجنيه.
"توفير الدولار"
المثير أيضا هنا أن تصريحات رئيس بعثة الصندوق إلى مصر، تطالب الحكومة المصرية بتوفير العملات الصعبة للشركات والأفراد، وهو الأمر الذي عجزت عنه منذ أزمة هروب أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق المصرية بالربع الأول من 2022.
ووسط شح الدولار المتصاعد منذ ذلك التاريخ عجزت حكومة السيسي، عن توفيره للمستوردين والتجار وأصحاب الأعمال والشركات، بل وتكدست الموانئ بملايين الأطنان من البضائع التي تحتاج إلى الدولار مقابل الإفراج الجمركي عنها، ما سبب اضطرابات كبيرة بالأسواق ولدى المصانع والمنتجين.
اظهار أخبار متعلقة
ووسط تفاقم أزمة الدين الخارجي وحلول آجال الكثير من الأقساط والفوائد، بجانب عودة الإنفاق الترفي لحكومة السيسي، بعقد المؤتمرات واللقاءات والتي كان آخرها حفل تنصيبه لولاية ثالثة في العاصمة الإدارية الجديدة الثلاثاء، يتوقع مراقبون أن تعود أزمة شح الدولار وعجز الحكومة عن توفيره للشركات والأفراد برغم حصول مصر على العديد من التمويلات وبيع بعض الأصول مثل أرض (رأس الحكمة) للإمارات في شباط/ فبراير الماضي.
تصريحات بعثة صندوق النقد دفعت مراقبين للتساؤل حول دلالاتها وخطورتها، وحول اعتبارها مؤشرا على انهيارات جديدة مؤكدة في قيمة الجنيه، وما سيحمله التعويم الخامس الجديد من تأثير سلبي على السوق المصرية، والمستثمرين وأصحاب الأعمال ومدخرات المصريين.
"تنبيه لافت"
وفي رؤيته، قال الخبير الاقتصادي عبد الحافظ الصاوي، إن "شرط الصندوق بضمان وجود سعر صرف مرن طوال فترة الالتزام ببرنامج التمويل أو التسهيلات الائتمانية؛ بمثابة تنبيه بألا يحدث الخطأ الذي استمرت عليه الحكومة المصرية فيما مضى".
الصاوي، في حديثه لـ"عربي21"، أوضح أنه "منذ عام 2019، والجميع ينبه بأن سعر الصرف غير حقيقي، والجنيه مقوم بأكبر من قيمته، ففي الوقت الذي كانت تصر الحكومة بأن يكون سعر الدولار 16.5 جنيه كانت تذهب التقديرات بأن السعر الحقيقي 19.25 جنيه".
ولفت إلى أن "الحكومة طوال هذه الفترة راحت تستنزف النقد الأجنبي في حماية سعر الصرف، باعتبار أن استقرار سعر الصرف وفق رؤيتها أحد إنجازاتها الاقتصادية".
وأكد الخبير والباحث الاقتصادي، أن "رؤية خبراء الصندوق يبدو أنها قائمة على أن تضمن عدم استنزاف القروض التي يتم الحصول عليها من الخارج أو الاستثمارات القادمة مثل (رأس الحكمة)، وغيرها من مشروعات الخصخصة أو قرض الصندوق بمسألة حماية سعر الصرف".
وأضاف: "وتقديم صورة وكأن الحكومة نجحت بأن تهبط بسعر صرف الدولار من 70 جنيها بالسوق السوداء قبل الإجراءات الاقتصادية الأخيرة 6 آذار/ مارس الماضي إلى 47 جنيه رسميا الآن، أو أنها تحسن من وضع الجنيه مقابل الدولار بالفترة القادمة".
وختم الصاوي بالقول: "فهي مخاوف قائمة على استمرار الأزمة، وعدم تكرارها؛ ولكن الحكومة باللجوء لتصرفات غير صحيحة، وغياب خطة تنموية، ستؤدي إلى أزمة بالمستقبل القريب، وهو ما أحسب أن خبراء الصندوق يتخوفونه".
"تغيير الأولويات"
وفي تقديره، قال السياسي المصري، سمير عليش، لـ"عربي21": "هناك أزمة مالية ناتجة عن الحاجة الماسة للدولار لسداد أقساط الديون، واستيراد الاحتياجات الأساسية من غذاء ودواء.. الخ".
وأشار إلى أن "هناك أزمة اقتصادية ناتجة عن عدم كفاية الإنتاج الصناعي والزراعي والخدماتي لتوفير الدولارات المطلوبة لتوفير احتياجات المجتمع المستوردة".
ويرى عليش، أن "القروض واشتراطاتها من الصندوق تهدف أساسا لحل الأزمة المالية الحالية والأزمة الاقتصادية على المدى المتوسط والطويل"، ملمحا إلى أنه "ببعض الأحوال تكون لاشتراطات الصندوق أهداف سياسية، لأن المتحكم الأساسي بالقروض هي أمريكا".
وأوضح أن "الصندوق بكل مرة سابقة يشترط الالتزام بسعر صرف مرن حتى لا تستنزف أرصدة الاحتياطي النقدي، وتتغاضى الحكومة عن الاهتمام بالإنتاج والخدمات المولدة للدولارات".
وقطع بأنه "إذا لم تغير الحكومة أولوياتها الاستثمارية بما يحقق زيادة الإنتاج والخدمات المولدة للاحتياجات الداخلية أو المولدة للدولارات اللازمة لاستيراد الضروريات؛ سيحدث تأثير سلبي على قيمة الجنيه".
وأوضح بنهاية حديثه أنه "إذا حاولت الحكومة التغطية على انخفاض الجنيه بضخ دولارات من الاحتياطات النقدية أو من القروض؛ ستحدث أزمة مماثلة لما حدث سابقا".
وختم بالقول: "لا شك أن أي تعويم جديد سيؤثر على الجميع، كما حدث سابقا، مع الفارق أن الغالبية تتحوط لذلك بوسائل مختلفة".
"وضع القرض وتفاصيله"
وفي قراءته، قال الخبير الاقتصادي الدكتور عبدالنبي عبدالمطلب: "كما هو معروف، مصر وقعت اتفاقا مع الصندوق بقرض بقيمة 3 مليارات دولار على مستوى الخبراء في تشرين الأول/ أكتوبر 2022، ثم أقر مجلس المديرين التنفيذيين للصندوق الاتفاق في كانون الأول/ ديسمبر 2022".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف أنه "تم صرف أول شريحة من القرض في كانون الثاني/ يناير 2023، وكان من المفترض أن يتم الإفراج عن شريحة جديدة كل 3 أشهر، لكن كان ذلك مرتبطا بإجراء مراجعات كل 3 أشهر، وعند اعتماد هذه المراجعات يفرج الصندوق عن شريحة جديدة".
وأشار إلى أن "ما حدث أنه تم تأجيل المراجعات الأولى التي كانت مقررة في آذار/ مارس 2023، ولم تتم باقي المراجعات بمواعيدها، حتى تمت الشهر الماضي".
وتابع: "ما حدث أنه في شباط/ فبراير الماضي، وقعت الحكومة مع الصندوق اتفاقا على مستوى الخبراء يقضي بإضافة 5 مليارات دولار للقرض السابق ليبلغ التمويل 8 مليار دولار، وفي 30 آذار/ مارس الماضي، وقبل 3 أيام، وافق مجلس المديرين التنفيذيين على اتفاق القرض الجديد".
وخلص عبدالمطلب من مقدمته إلى القول إن "إقرار هذا المجلس للقرض، يعني أن الصندوق على استعداد للإفراج عن الشريحة الأولى والثانية من القرض القديم بحدود 820 مليون دولار".
واستدرك: "لكن الإفراج عن الشرائح الجديدة من القرض الجديد مرتبطة بإجراء مراجعات كل 3 أشهر، والمفترض في تموز/ يوليو المقبل، أن تتم مراجعة ثالثة لبرنامج الإصلاح الاقتصادي، وإذا اعتمد الصندوق هذه المراجعة متوقع أن تحصل مصر على 1.3 مليار دولار".
"الاحتمال السيئ"
وراح عبدالمطلب، يكشف عن الاحتمال الآخر، بقوله: "لنفترض أن الحكومة لم تتمكن من تنفيذ تعهداتها للصندوق، فستكون سابقة، ووقتها ستعاد الكرة مرة أخرى، وربما لن يفرج الصندوق عن دفعات جديدة بقيمة 1.3 مليار دولار كل 3 أشهر".
ولفت الخبير المصري، إلى أن "مصر مدينة للصندوق، ومن المقرر أن تسدد له هذا العام 6.4 مليار دولار، أي أن ما سوف تأخذه مصر من الصندوق على مدار 3 أعوام سوف تسدد حوالي 75 بالمئة منه في شكل فوائد وأقساط هذا العام".
ويعتقد أن "المشكلة هنا أن أي نوع من المشاكل في تنفيذ مصر لتعليمات صندوق النقد الدولي سوف يعيد الكرة مرة أخرى، وتتوقف المساعدات من الشركاء الدوليين، ويتخوفون من إمداد مصر بقروض أو استثمارات أو حتى الاكتتاب في أدوات الدين، مع عدم تأكيد الصندوق أن مصر تنفذ خطوات الإصلاح".
اظهار أخبار متعلقة
وحول توقعاته لتوقيت التعويم الجديد، يعتقد عبدالمطلب، أنه حتى حزيران/ يونيو المقبل، سيكون هناك استقرار بسعر الصرف، حيث تحصل مصر على 10 مليارات دولار من صفقة (رأس الحكمة)، وربما تزيد هذه التدفقات الدولارية من 5 إلى 10 مليارات دولار طبقا للتوقعات".
وقال إن "وجود هذه التدفقات الدولارية النقدية تسمح باستقرار سعر الصرف؛ ولكن الأمر يحتاج لعمل حكومي ومؤسسي وتضافر جهود رجال الأعمال والصناعة والمستوردين، مع تلاقي يضمن عدم حدوث طلبات كبيرة على الدولار لا تتمكن الحكومة من تنفيذها، فتبدأ الشكاوى من عدم توافر العملات مجددا، فعندها قد يُحجم الصندوق عن تنفيذ برنامج القرض ويوقف الشرائح المقررة كل 3 أشهر".
وأوضح أن "مصر طلبت من الصندوق 5 مليارات دولار من القرض هذا العام بواقع 1.3 مليار دولار أو 1.5 مليار دولار كل 3 أشهر، بحيث يتراوح ما تحصل عليه بين 5 و6 مليارات دولار، ويتم صرف الباقي خلال 2025 و2026 بواقع مليار دولار كل عام، لكن حتى الآن لم توافق إدارة الصندوق على الطلب".
"آثار التعويم"
وأشار إلى تأثير أي قرار تعويم على المصريين والأسواق المحلية والمستثمرين وأصحاب الأعمال، وقال: "إذا مر الأمر بسلاسة وبدأت التدفقات الدولارية على البنك المركزي فإن لم يكن هناك تراجع بالأسعار فعلى الأقل سيكون هناك توازن أو استقرار بأسعار السلع الغذائية الأساسية".
ويرى أنه "لو مرت التدفقات المالية باستمرار، وقبل صندوق النقد الدولي تعهدات الحكومة، ونفذت هي التعهدات بشكل حقيقي، فهذا سيقضي نهائيا على السوق السوداء، وهي بالفعل الآن غير موجودة لأن الفرق بين الرسمي والموازي لا يذكر ".
وأضاف: "لكن المشكلة بأن البعض يحتاج للدولار، ولا يستطيع الحصول عليه من الجهاز المصرفي ولا من شركات الصرافة المرخص لها؛ ومن هنا إذا تمكن الجهاز المركزي من توفير الصرف لمن يطلبه ربما تهدأ الأمور، وتعود تدفقات المصريين العاملين في الخارج، وتبدأ حركة الاقتصاد بالدوران".
وتوقع في نهاية حديثه، أن "يقلل هذا من الضغوط على الجنيه، وربما يكون هناك استقرار بسعر الصرف من مستوى 40 أو 42 أو 45 جنيه لكل دولار على الأقل هذا العام".