لم يمثل طوفان الأقصى، زلزالا سياسيا فقط لجهة إسقاط مقولة الجيش
الذي لا يقهر لدولة الاحتلال، وإنما أيضا مثل سؤالا فكريا وثقافيا وفلسفيا لا يزال
يتردد منذ عصر النهضة العربية الأولى، عن سر النهضة والتقدم..
صحيح أن طوفان الأقصى وما تبعه من حرب إسرائيلية موغلة في الإبادة
والوحشية، هو في ظاهره معركة بين حركات تحرر وطني وشعب يتوق إلى الاستقلال
والسيادة، وبين قوة احتلال ترفض الانصياع للقانون الدولي، لكن ما تبعه من اصطفاف
دولي غير مسبوق ضد الشعب الفلسطيني هو ما أثار علامات استفهام كبرى، حول مفاهيم
الحرية والقانون والسيادة والمساواة والحقوق وغيرها من القيم التي عملت الإنسانية
على مدى تاريخها بإسهامات تراكمية في صياغتها..
الفيلسوف والمفكر التونسي الدكتور أبو يعرب المرزوقي يعمل في هذه
المقالات التي تنشرها "عربي21" في أيام شهر رمضان المبارك، على تقديم قراءة
فلسفية وفكرية وقيمية للقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف باعتبارهما المرجعية
الأساسية التي يبني عليها العرب والمسلمون إسهاماتهم الحضارية..
إعادة كتابة تاريخ الإسلام
قبل المرور إلى النوع الأخير من نقد القرآن أو النقد الأكبر الذي تعين
أخيرا في نقد الرسول الخاتم إما بالطعن في أخلاقه أن تم التسليم بوجوده أو بالطعن كان
لا بد من الوصول إلى التشكيك في كل التاريخ الإسلامي ورده إلى نقد استحالة أن يكون
القرآن وحيا وأن يكون يوجد من ألفه من خارج ذوي الحضارة في هذا التاريخ أي الفرس والمسيحيين
واليهود.
وقد بينت أن ذلك كله يقتضي إعادة كتابة تاريخ الإسلام والمسلمين لأن غاية
النقدة كانت مبنية على دهاء لا مثيل له لأنه يحقق الغرض لجمعه بين نوعي الاستراتيجية
في القضاء على المنافس لضمان النجاح بعد فشل الصدام المسلح طيلة ستة قرون: فشل التهديم
التام من الخارج الذي تتأسس عليه استراتيجية كلاوس فيتس، ومحاولة التخريب التام من
الداخل الذي تتأسس عليه استراتيجية سن تسو.
من هزمته حماس ليس إسرائيل وحدها بل ومعها إيران وبصورة أدق القوتين الوهميتين المتغولتين في الإقليم بسبب ما حصل من تخريب من الداخل وهو مضاعف أي حلف بين الباطنية والعلمانية وتهديم من الخارج وهو مضاعف كذلك حلف إسرائيل والأنظمة والنخب العربية التي تحكمها إسرائيل والتي تعادي الإسلام لكونه هو السر في قوة الأمة.
ولهذه العلة قدمت الخاتمة التي بينت فيها فشل النوع من الاستراتيجية بفضل
ما أثبته طوفان الأقصى لأن من جمع بين الاستراتيجيتين هما الصهيونية والباطنية وكلتاهما
هزمتهما مقاومة فلسطين التي بينت دلالة "كم من طائفة قليلة غلبت طائفة كبيرة".
فمن هزمته حماس ليس إسرائيل وحدها بل ومعها إيران وبصورة أدق القوتين
الوهميتين المتغولتين في الإقليم بسبب ما حصل من تخريب من الداخل وهو مضاعف أي حلف
بين الباطنية والعلمانية وتهديم من الخارج وهو مضاعف كذلك حلف إسرائيل والأنظمة والنخب
العربية التي تحكمها إسرائيل والتي تعادي الإسلام لكونه هو السر في قوة الأمة.
ولأمر الآن إلى النوع الأخير
من حمق نقد الإسلام. إنه أكبر علامات الحمق أي الأرخنة النافية لذاتها. فمحاولة
تحريف
سرديات المسلمين التي تحدد دلالات أحداث تاريخهم أعني تاريخ الإمبراطورية الإسلامية هي التي يفشلها الرد ليس بالدحض بل ببيان سرديات
تاريخ الأعداء الذين يوظفون هذا التحريف بالاعتماد على القوتين المتغولتين.
فتاريخ هاتين القوتين ومن يسندهما من الداخل ومن الخارج كاف وزيادة لدحض
ذلك كله بمنطق وشهد شاهد من أهلها. ولولا ذلك لما استعملت نص كوشل الذي أورد أقوال
متكلمي عصر النهضة الأوروبية وكيف كانوا يرون الإسلام عامة والقرآن خاصة.
تلك هي المرحلة الأخيرة في الكلام على الحمق الأخير الأكبر والأصغر لأمر
لاحقا إلى الحمق الكبير والصغير وما يجمع بينهما أي التنافس الظاهر بين الصهيونية والصفوية
والتحالف الباطن، أعني لعبة التخويفين والاحتماءين للنخب العربية حكاما ومحكومين: أي
إسرائيل وأمريكا وراء استتباع بعض العرب وإيران وروسيا وراء استتباع بقية العرب.
ولست أخص اتهامي باستعمال نظرية المؤامرة لأن من ينكر أن نخب العرب حكاما
ومحكومين انقسموا اليوم إلى مجموعتين أولاهما تابعة لإيران لحمايتها خوفا من إسرائيل
والغرب والثانية تابعة لإسرائيل والشرق لحمايتها خوفا من إيران لا يمكن أن يكون ذا
بصر فضلا عن البصيرة، ويكفي أن يسأل نفسه عن الفرق بين الهلال والخليج وما يصح عليهما
يصح على كل الانقسامات في المغرب الكبير كما هو بين من العلاقة بين المغرب الأقصى والجزائر
مثلا.
1 ـ الكذبة الأولى:
دور دعوة القرآن لليهود بقول
الحق بخصوص القرآن ظنها معتمدو الإسرائيليات دالة على حاجة الإسلام لشهادتهم في حين
أنها تدل على تهربهم بشاهدة الزور برفض قول الحقيقة. الإسرائيليات عند المفسرين دليل
سذاجة فكرية.
2 ـ الكذبة الثانية:
دور نصيحة سلمان في حرب الأحزاب. فحتى لو صح أن سلمان نصح العرب بحفر
الخندق فالنصر لم يأت به الخندق أولا والشورى التي كان الرسول مطالبا بها لا تعني أنه
يتبعها دون تفكير أو أنها هي علة النصر. فأما أخذها بتفكير فدليله حرصه على المساهمة
الشخصية في الحفر وأما أنها لم تكن كافية للنصر فإن خيانة اليهود الذين تحججوا بعورة
حصتهم من الخندق لم تمنع النصر.
وفي الحقيقة كانت ثورة الإسلام بحاجة إلى تحرير العالم من الآفات التالية:
الأولى تخليص الجزيرة العربية من السلطان الذي كان بيد اليهود وهي أولى
حروب الرسول التي خلصتها من مؤامراتهم بالاستفادة من خيانتهم للعقد الذي وضعه دستور
الرسول بالتحامي بين كل أهل المدينة.
الثانية هي جاهلية العرب وتفتتهم شعوبا وقبائل فكانت الحرب الأولى لتوحيد
الجزيرة العربية وهي حرب الردة وتثبيت أركان الرسالة الإسلامية ضد دين مسيلمة الكذاب
بعد تخليصها من سلطان اليهود والإسرائليات.
الثالثة الإطاحة بدولة الفرس وتحرير الإقليم من طغيانهم ومن الزرادشتية
التي كانت مسيطرة على فارس وما راءها إلى حدود الهند والصين.
الرابعة إخراج بيزنطة من كل مستعمراتها بالأقليم حتى وإن تأخر فتح القسطنطينية
إلى عهد الخلافة العثمانية.
والأخيرة هي فتح الكثير من بلاد الفرنجة مع الاستقرار في الأندلس لقرون
بفضل أحد الأمويين الذي تمكن من الإفلات من الإفناء الفارسي الذي كان وراء ثورة العباسيين
عليهم وإفنائهم بعد إسقاط خلافتهم بحيث تفتتت إمبراطورية الإسلام بعدهم وانتهى دور العرب
في تاريخ الإسلام إذا ما استثنينا الأندلس في نصف عمرها الأول.
3 ـ الكذبة الثالثة:
دور المأمون في النهضة العلمية الإسلامية. فكل المترجمين كانوا عربا إما
مسيحيين أو مسلمين وحركة الترجمة لم تبدأ مع عصر المأمون لأن كبارهم عاصروه ما يعني
أنهم تكونوا قبله وحتى قبل الدولة العباسية لأن المدة بين سقوط الخلافة وعصر المأمون
ليست كافية لتأسيس تقاليد الترجمة التي وصلتنا.
من ينكر أن نخب العرب حكاما ومحكومين انقسموا اليوم إلى مجموعتين أولاهما تابعة لإيران لحمايتها خوفا من إسرائيل والغرب والثانية تابعة لإسرائيل والشرق لحمايتها خوفا من إيران لا يمكن أن يكون ذا بصر فضلا عن البصيرة
وإذن فهذه الكذبة التي تريد تشويه العرب والمسلمين هي من أكبر الأكاذيب
التي تدعي أن النهضة العلمية فارسية في الدولة العباسية علما وأن العرب لم يكونوا أميين
في العلوم التي كانت مما يتميز به اليونان حتى في عصر انحطاطهم (العصر الهلنستي) وإلا
لما وجد الفراهيدي ولا ابن قرة وخاصة حفيده. وإذن فما كان ما تراكم في الدولة العباسية
يحصل لولا أمرين أولها ما جعل الترجمة حاجة
في دولة الإسلام أعني تعريب الإدارة والعملة وهزيمة فارس وإسقاط إمبراطوريتهما وإخراج
بيزنطة من كل مستعمراتها في الإقليم من الشام إلى الأندلس وبداية الترجمة في الطب والفلك
والكيمياء وفن الحرب وكان المترجمون كلهم عربا مسيحيين لأن الدولة الأموية أعطتهم منزلة
مرقومة في بناء شروط الدولة الحائزة على ما كان متوفرا في بيزنطة.
4 ـ الكذبة الرابعة:
تشويه دور الخلافة العثمانية. فلولاها لاستردت إسبانيا في عهد شارل الخامس
كل الضفة الغربية من الأبيض المتوسط ولاحتل البرتغال بحلف مع الصفوية مع البرتغال كل الجزيرة العربية والقرن الأفريقي. ولولا مسلمي أفريقيا والبربر لسقطت الأندلس بعد نصف عمرها الأول.
5 ـ الكذبة الأخيرة:
تعليل الانحطاط بالمعتقدات الإسلامية وليس بالمحرف من التأويل في علوم
الملة الناتج عن العمل بعكس ما يأمر به القرآن
وينهى عنه كما بينت في محاولة التفسير. فقلب النهي إلى أمر (آل عمران 7) والأمر إلى
نهي (فصلت 53) هي علة الانحطاط لأنهما جعلا المسلمين يؤسسون العلوم على النقيض مما
أوصى به القرآن أمرا ونهيا. فكان أن تم الفصل بين شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف
فيها: وذلك هو جوهر التحريف.
وما كنت أضطر لهذا التذكير لو لم يكن القصد تذكير الحمقى المشككين في
تاريخ الإسلام والزعم أنه سردية كاذبة وضعها العرب يسهل بتاريخ العلاقات الدولية في
ذلك العصر مساءلة سجلاتهم لتبين حقيقة هذه الأحداث التي لا تبقى أثرا للتشكيك في صحة
تاريخ الإسلام.
وإذن فدحض كل هذه الأكاذيب بالسياسة الدولية وتاريخ الفتح والعلوم ثلاثتها
كافية لبيان حمق المشككين. وبذلك يتبين أن الاستئناف آت لا ريب فيه. وهو سيتم الشروط
التي تجعل الأمة شاهدة على العالمين بتحريرهم من دين العجل المؤدي إلى الأبيسيوقراطيا
(سلطان دين العجل) التي هي علة الفساد في الأرض وسفك الدماء والتلويثين الطبيعي الإنساني.
فتحويل العملة من أداة للتبادل إلى سلطان على التبادلي ـ وهو ربا الأموال
الذي يحرمه الإسلام فيلغي الأداة الأولى لاستعباد الإنسان للإنسان بالسيطرة على رزقه
المادي وجعله رهينة لربا الأموال المباشر بتجارة العملة وغير المباشر بالتطفيف إما
في البضاعة أو القدرة الشرائية للعملة (التضخم).
وتحويل الكلمة من أداة للتواصل إلى سلطان على المتواصلين ـ وهو ربا الأقوال
الذي يحرمه الإسلام فيلغي الأداة الثانية لاستعباد الإنسان للإنسان بالسيطرة على رزقه
الروحي وجعله رهينة لربا الأقوال المباشر بالخداع وغير المباشر بالنفاق وشهادة الزور
التي يمثلها في عصرنا الإعلام المزيف لتشويه المسلمين والإسلام. وتلك هي مهمة هؤلاء
الحمقى المتعالمين.