الكتاب: السلطة الأغلبية والمجتمع الأفريقي في القرن الثالث هـ /
التاسع م
(دراسة تاريخية اجتماعية)
الكاتب: أحمد الأسود
الناشر: مجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص
عدد الصفحات: 360 صفحة
ـ 1 ـ
لم تكن الإمارة الأغلبية، إلا استمرارا، للولاية العباسية فما أحدثته
لم يتجاوز الاختلافات الشكلية وفق الباحث أحمد الأسود. فقد حافظ المجتمع الأفريقي
الأغلبي طيلة هذه الفترة، على الملامح والبنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
التي كانت قائمة قبلها، ثم تواصلت سماته على النحو نفسه حتى الغزو الهلالي، تاريخ
تفكك تلك المنظومة الكلاسيكية. ولكن ما هذه السمات والملامح؟
ضمن هذا الأفق يحاول الباحث دراسة التاريخ
التونسي عبر دمج السياسي
بالاجتماعي وبالاقتصادي والديني والنظر إليه من زاوية أهملتها أغلب الدراسات
التاريخية في تونس، وفق تقديره. فلم تول اهتماما بعلاقة السلطة السياسية بالمجتمع.
ولم تسلط النظر على علاقة الأمير بمجتمعه
بصفة خاصة. ويقدّر أنّ من شأن المقاربة أن تقف على طبيعة السلطة الأغلبية، وعلى
مقومات نفوذها، وعلى علاقاتها بفئات المجتمع الإفريقي، ومدى تحكمها في مجالها
الجغرا ـ سياسي أن تفضي إلى استخلاصات، تتجاوز إلى حد ما، مجالات البحث التاريخي،
وتصب في موضوعات علم الاجتماع السياسي أو في فلسفة التاريخ. ومن هذا المنطلق
يتساءل عن مدى سيطرة الأغالبة على المجتمع الإفريقي، بمختلف فئاته ومكوناته ومدى
تحكمهم في مجالهم الجغرا - سياسي وإخضاعهم له. ويطرح بالمقابل السؤال حول ردة فعل
المجتمع الإفريقي، في مواجهته للتسلط الأغلبي وتبين مظاهر المواجهة ومنطقها
وأشكالها. فيجعل من إعادة النظر، في أسباب سقوط إمارة بني الأغلب هاجسه.
ـ 2 ـ
حتى يتبسّط في معالجة إشكالية مبحثه يدرس ضمن محور أول مبحث نشأة
السلطة الأغلبية ويبحث في مقوماتها وطبيعة سلطات أمرائها. فقد كانت إفريقية بحكم
موقعها البعيد عن المركز، في الجناح الغربي للإمبراطورية الإسلامية، محل أطماع
القوى المعارضة. ومنها الخارجي كالدولة العلوية بالمغرب الأقصى أو الدولة الأموية
بالأندلس ومنها الدّاخلي. فقد حوّلها وجودها في الأطراف إلى ملاذ للمارقين عن سلطة
الدولة والمناوئين لها.
ومقابل هذه التحديات الجسيمة اتسمت إدارة هذه الولاية بالارتباك،
لعدم قدرة ولاتها على تهدئة الأوضاع وفض
أسباب النزاع والحد من الصدامات بين الجند العباسي. فعامة عاشت إفريقية في أواخر
القرن الثاني للهجرة، أزمة اجتماعية وسياسية، مثلت مبعث انشغال للسلطة المركزية
لأنها تعلم أن فقدانها يمثل خطرا على كيانها هي.
لهذه الأسباب عالج الخليفة هارون الرشيد، المسألة من خلال تحويلها
إلى إمارة اصطناع. فمكن إبراهيم بن الأغلب التميمي والي الزاب من الاستقلال بها
لتكون إمارة تابعة لخلافته، فيتوارث أبناؤه سلطتها في 184هـ / 800م، بعد التأكد من
ولائه للدولة العباسية إثر دوره الحاسم في التصدي للأدارسة. وبذلك ظلت هذه الإمارة
جزءًا من الخلافة العباسية، وظلّ حكّامها يستمدون شرعيتهم من الخليفة العباسي وإن
حازت هامشا من الاستقلالية، خاصة في إدارة الشأن الإفريقي.
ويفصل الباحث القول في معنى إمارة الاصطناع: فيذكر "تقتضي
العلاقة بين السيد ومصطنعه، ما تقتضيه علاقة التبعية، من حماية متبادلة، فالمصطنع
كالمولى، يشدّ أزر مولاه عند الحاجة، ولا يعمل على مخالفة سيده وإيذائه، ولا
مناصرة أعدائه عليه.... وقد ظهر من العهد الذي كان بمقتضاه استقل إبراهيم بن
الأغلب، بإفريقية، أنه يلتزم بتقديم أربعين ألف دينار، سنويا إلى الخلافة،
والتنازل عن المعونة المصرية إلى الولاية. فكان الأغالبة إلى جانب الخليفة
العباسي، في أكثر المناسبات حرجا".
ـ 3 ـ
مرّ تركيز السلطة الأغلبية
بأطوار، أولها طبعا مرحلة البناء وتوطيد دعائم الدولة. فقد عوّض إبراهيم بن الأغلب
الجند بالعبيد حتى يضمن تحييد العساكر والحدّ من نفوذ قادتهم. وأمكن لابنه زيادة
الله بن إبراهيم بن الأغلب من بعده إخضاع هذه المؤسسة سنة 211 وإعادة ترتيب
الإدارة. فبدأت مرحلة استقرار وهدوء منذ سنة 223، رغم بعض الثورات الدّاخلية
لأسباب جبائية خاصّة.
وبعد أقل من نصف قرن، وإثر تولي إبراهيم بن أحمد بن محمد بن الأغلب
السلطة جمادى الأولى 261هـ ـ فيفري 875م بدأت مرحلة التدهور وتفاقمت مع حكم أبي
الغرانيق، الذي لم يرتفع إلى مستوى ما عهد إليه من سلطة ومسؤولية، فقد انغمس في
الملذات وأهمل ما كان تحت إمرته، من مملكة ومن بلاد.. وانتهت بسقوط الدولة وخروج
أبي مضر زيادة الله بن أبي العباس بن إبراهيم بن أحمد، من القيروان جمادى الآخرة
296هـ / فيفري 909م.
ـ 4 ـ
يمثّل المجال الدّيني المحور الثاني المهم في مقاربة الباحث. فيذكرنا
بتقهقر المسيحية وانقراض جزء كبير من مقوماتها الحضارية وتفككها بفعل الفتوحات
الإسلامية.. فلم يكد يحل منتصف القرن 11هـ حتى أصبحت القيروان مدينة شرقية إسلامية، تستقطب إليها كامل المجال المغربي
والإفريقي جنوب الصحراء ثقافيا بفضل نخبتها الدينية المتنوعة المشارب المذهبية بما
فيها من القضاة والأئمة المفتون ورجال العلم والدين.
لقد غلب على إفريقية المذهب الحنفي والمالكي. أما الأغالبة فلم يكونوا على مذهب محدّد وإن مالوا إلى مذهب الأحناف ولكن "كانت المسافة بين الحاكم وبين العامة، تقاس بالمسافة بينه وبين التيار السنّي - المالكي، الذي بات تيار العامة أو الرعية. سمحت النخبة المدينية ـ المالكية، للأغالبة وخاصتهم بالاستفراد بالمجال الحضري القيرواني وصقلية".
تمثّل مؤسسة القضاء أكثر قطاعات المجال الديني المتفاعلة مع السلطة
تأثرا وتأثيرا. فقد ترسّخ نفوذها منذ وصول الجيوش الفاتحة، لمّا كان يصاحبهم، قاض
ليشرف على قسمة المغانم والقضاء بين الجند. أما في عهد الدّولة الأغلبية فقد كانت
تولية القاضي تتم بالأمر المباشر من الأمير حينا أو باستشارة الفقهاء حينا آخر.
ويحدث أن تتدخل بعض مراكز النفوذ لتعيّن من يحفظ مصالحها. فللأمير الحقّ في عزله.
ولن يعجزه رصد الثغرات في أداء القضاة أو اصطناعها اصطناعا. ولهذه العوامل مجتمعة
أصبحت استقلالية القاضي محدودة، خاصة عند اصطدامه بمؤسسة الإمارة. وتمت استباحة
هذه المؤسسة في إمارة إبراهيم بن أحمد خاصّة، لمّا أخذت الدولة في الانهيار.
يعرض الباحث العلاقة بين إبراهيم بن الأغلب والقاضي عبد الله بن غانم
الرعيني المسنود من الخلافة نموذجا لهذه الاستباحة. فقد كانت نهاية هذا القاضي في
ربيع الآخر 190 هـ / جانفي 806م، في ظروف شبه غامضة، وبحسب رواية أشبه بالخرافة
يقتل أمير اسمه إبراهيم، قاضيا اسمه عبد الله. وانطلاقا منها يستنتج الباحث
"أن القاضي الذي لا يحظى بدعم من أحد مراكز القوة، لا يمكنه الإمساك
باستقلاليته، وإن كان قوي الإرادة".
ـ 5 ـ
على المستوى المذهبي كانت الحنفية تسود في بغداد عند نشأة الإمارة
الأغلبية. وكان لها امتداد في إفريقية وتطابق بين التحزب العباسي والانتماء إليها.
فكان قاضيها عبد الله بن غانم على تواصل مستمر مع قاضي الرشيد أبي يوسف يعقوب.
وكان بعض الأهالي الحنفيين، والدائرين في فلكهم، من المعتزلة والمرجئة يلقبون
بالأحناف "العراقيين" لتأثرهم بعلماء العراق ولأن أصولهم عراقية.
فأغلبهم وفد منها إلى إفريقية إثر الفتوحات، وخاصة في النصف الثاني من القرن
الثاني الهجري، فبسطوا سلطتهم على أسواق القيروان. فـ"كان هؤلاء العراقيون،
تجارا اختصوا في التجارات الرفيعة، كتجارة البر والقراء والمسك والعطور... وأسسوا أسواقا بالقيروان...
فكانوا لذلك من أغنياء القيروان، كما كانوا وكلاء لتجار كبار بالعراق، وكانوا
صيرفيين كذلك، على علاقة بتجارة الأسرة المالكة". واستمرّت هيمنة هذا المذهب
حتى بداية ولاية سحنون بن سعيد 849 م.
ولئن مثّلت الحنفية مذهب الخاصّة، فإنّ المالكية ستتحوّل شيئا فشيئا
إلى مذهب العامة. فقد ساد بين نخبتها التي ينتمي أغلبها إلى المجال الإفريقي
القديم، موقف مناهض لسلطة الأغالبة. يعتبر أنّ الأموال التي تجري في أيدي الولاة
غير نقية، وأنها استخلصت بغير وجه حق. وكان أبو محرز القاضي يرى أن زيادة الله لم
يظلم المسلمين فقط، وإنما ظلم اليهود والنصارى. وهذا الموقف نفسه كان وراء رفض
سحنون وعيسى بن مسكين وغيرهم، قبول هدايا السلطان. فاعتبروا "رقادة"
أرض، مغصوبة، وإفريقية، عامة أرضًا كالميتة لذلك فالأكل منها حرام إن هي لم تخمّس. ولذلك يتساءل القاضي عبد
الله بن غانم محتجا، لمّا رفض البهلول بن راشد تناول شيء من طعامه "هل أنا
سلطان، طعامي حرام؟". ويجد الباحث وفي هذا الموقف امتدادا للموقف الذي يتبناه
كثير من أهل المدينة والمالكية.
لقد غلب على إفريقية المذهب الحنفي والمالكي. أما الأغالبة فلم
يكونوا على مذهب محدّد وإن مالوا إلى مذهب الأحناف ولكن "كانت المسافة بين
الحاكم وبين العامة، تقاس بالمسافة بينه وبين التيار السنّي - المالكي، الذي بات
تيار العامة أو الرعية. سمحت النخبة المدينية ـ المالكية، للأغالبة وخاصتهم
بالاستفراد بالمجال الحضري القيرواني وصقلية".
ـ 6 ـ
تسري في هذا الأثر أطروحة غير معلنة يؤكد الباحث وفقها أنّ الأدارسة
في المغرب الأقصى أو الأمويين في الأندلس نجحوا في بناء الدولة المستقرة الثابتة
الأركان. ويقدّر بالمقابل أن الأغالبة ظلوا مجرّد وكلاء حكم عند العباسيين ولم
يعوا الوعي العميق بمقتضيات الحكم.
والأدهى أن الأمر كان سابقا لقيام الإمارة الأغلبية وتواصل بعد سقوطها.
فقد أعيد إنتاج هذه التجربة، أكثر من مرة، وإن اختلفت التفاصيل. ولكن
"الجوهر يظل نفسه، فقد استمرت الدولة الإفريقية تابعة، ضعيفة السيادة، عاجزة
عن التحكم في مجتمعها وفي مجالها، فهي دولة الطرف ضد آخر، ولم تكن أبدا ممثلة
لجميع مكونات مجتمعها، أي أن ترتفع فوق الانقسامات، والنزاعات. وقد عجز حتى
الفاطميون، الذين أسسوا دولة، على أساس، قبلي - دعوي، عن تأليف مكوّنات المجتمع
الإفريقي، أي تلك الثنائية الأبدية، بين نزعتين اجتماعيتين - مذهبيتين، بل زادوا
المجتمع الإفريقي انقساما، بين نخبة شيعية حاكمة، وعامة سنية محكومة، وقد كان ذلك
دافعا إضافيا، لتجذر المذهب السني - المالكي في صفوف الأفارقة".
ولذلك كان يلحّ على أن استنتاجاته تتجاوز إلى حد ما، مجالات البحث
التاريخي، وتصب في موضوعات علم الاجتماع السياسي أو في فلسفة التاريخ. ولكننا نجد
في القول بضعف رابط الانتماء في هذه الدّيار، عند حكّامها على الأقل، صدى بعيدا لقول بعض الباحثين في العلوم الاجتماعية بالهوية التونسية المرنة وتفسيرا ضمنيا
لها بتبعية حكمها لسلطة مركزية قائمة في روما أو دمشق أو بغداد أو القاهرة كما
أراد لها المعتز بدين الله الفاطمي أو الباب العالي لاحقا أو باريس.
فيشبهون البلاد بالجسر الذي يصل بين مختلف الحضارات والثقافات
ويعدّون أهلها نموذجا للانفتاح على الآخر والتسامح معه. فتُخرج هذه السّمات
الإخراج الإيجابي. أو يشيرون إلى الهوية المائعة التي تفتقر إلى المقومات الثابتة
الصلبة عند الرغبة في إخراجها مخرجا سلبيا، وعلى هذا الاتجاه الثاني كان مدار أثر
الباحث في علم الاجتماع منصف ونّاس
"الشخصية التونسية، محاولة في فهم الشخصية العربية" ومن المنظور نفسه
يقارب أحمد الأسود هذه الشخصية. ولكن تبقى هذه المقاربة مثارا للاحتراز.
ففي
تقديرنا تعود هذه المقومات إلى الموقع الاستراتيجي لتونس مما جعلها حاضنة لعديد
الحضارات والثقافات من فينيقيين ونورمان ورومان وبيزنطيين وأسبان وعرب مسلمين.
وهذه الأسباب نفسها أسهمت في تشكيل المجتمع اللبناني. ولعلّ ذلك مردّ تشابه
الشخصية القاعدية في البلدين أي الشخصية الاجتماعية الثقافية المشتركة بين جماعة
خاصة. وليس الانفتاح والقبول بالآخر أبدا علامة على وهن الانتماء إلى الوطن.