يشعر كثيرٌ من
المراقبين للساحة الإثيوبية بقلقٍ متزايدٍ حيال التطورات المتسارعة في الداخل الإثيوبي،
حيث تسارعت وتيرتها بالتعديلات الوزارية الأخيرة التي طالت أبرز وجوه الحكومة
وحلفاء رئيس الوزراء الإثيوبي، وأتت بقادمين جدد آخرين ليغلب عليهم الطابع الأمني
والعسكري بعد كثير من التباينات والآراء داخل حزب الازدهار الإثيوبي الحاكم الذي
يقوده رئيس الوزراء آبي أحمد، حيث عصفت الرياح الإثيوبية بنائب رئيس الوزراء ووزير
الخارجية المعتق دمقي مكونن بعد فتور العلاقة بينهما والتباين في وجهات النظر
وتباعد الخطى بينهما، مع تململ كبير في إقليم أمهرا وقوات فانو التي ينحدر أفرادها
من الأمهرا، ولم تهدأ بعد جبهة تيغراي.
وسمي تسمقن
طورونه نائبا لرئيس الوزراء وهو ينتمي إلى الأمهرا أيضا، وكان يشغل منصب رئيس جهاز
الأمن الوطني والمخابرات وقبلها حاكما لإقليم أمهرا، وهي هندسة جديدة لحصار حالة
اللاستقرار في الإقليم المضطرب والذي يشكل أيضا مهددا متحركا على الساحة الإثيوبية.
فالسيد طورونه يعتبر من الموثوق بهم بالنسبة لآبي أحمد، حيث تزاملا معا في مؤسسة
شبكة أمن المعلومات الإثيوبية (ENSA)، وهو توجه يعتبره الكثيرون أنه يهدف إلى إخضاع إقليم
أمهرا على غرار إقليم تيغراي الذي بدأ بالعنف وانتهى باتفاق بريتوريا الموقع في تشرين
الثاني/ نوفمبر 2022، وما يزال هشا لاستمراريته في ظل تحديات على الأرض لا سيما في
تواجد القوات الإريترية -العدو اللدود للتيغراي- وحالة الانتهاكات الجسيمة لحقوق
الإنسان، وهو ما دفع منظمات حقوق الإنسان والاتحاد الأوروبي إلى إدانة تلك الانتهاكات
المستمرة في الإقليم والتي قد تعجّل بانهيار الأوضاع هناك.
في ضوء ذلك، فإن
حالة إقليم أمهرا لا تبدو شاذة -مثله مثل حالات التململ في معظم أقاليم البلاد
المضطربة- إذ يغلي الإقليم بالاحتجاجات المتكررة والتمردات التي ما أن تخمد جذوتها
حتى تعاود الانبعاث من جديد حتى قبل مليشيات فانو في الوقت الراهن، والتي تحظي
بشعبية كبيرة في الإقليم، وهو أمر دفع آبي أحمد إلى تعزيز موقعه هناك بوزير خارجية
جديد من ذات القومية، وهو أتايي اتسكي سيلاسي.
تتزايد حالة الاضطراب في الداخل الإثيوبي الهش، فبعد أقاليم تيغراي وأوروميا وأمهرا التي شهدت وتشهد صراعات مسلحة، اتجهت الاضطرابات جنوبا إلى إقليم سيداما، حيث تتصاعد وتيرة الاحتجاجات والتوترات من نشطاء وسياسيين وأحزاب لتبرز إلى السطح في الآونة الأخيرة، لتضاف إلى قائمة طويلة من الأزمات تمر بها البلاد
وهو سفير سابق بالأمم المتحدة
ودبلوماسي ضليع يعرف كواليس السياسة الدولية، وهو ما يحتاجه نظام آبي أحمد في
المراحل المقبلة. لكن من الواضح أنه سيتنازل عن مهنيته وتاريخ شخصي طويل في دروب
الدبلوماسية المهنية لصالح شخصية رئيس الوزراء الذي همّش دور وزارة الخارجية
كمؤسسة طوال السنوات الخمس الأخيرة، حيث غدت تُدار من مكتب رئيس الوزراء.
وعطفا على ذلك،
مضى هذا التغيير وفق هندسة جديدة للداخل الإثيوبي تتيح مساحات كبيرة لمناورات
الخارجية التي يمتاز بها آبي أحمد.
وفي إطار توازنات
الداخلية ورهاناته الخارجية، اختار آبي أحمد كذلك كاتم أسراره وصندوقه الأسود،
السفير رضوان حسين، رئيسا لجهاز الأمن الوطني والمخابرات؛ فهو مؤخرا مهندس مذكرة
التفاهم مع جمهورية أرض الصومال، وأبرز مهندسي التواصل مع المعارضات في إريتريا
والسودان والصومال، حيث تبرز قدرات الرجل في شد الداخل الهش إلى مناورات الخارج.
وكان آبي أحمد قد
أطاح في نهاية العام الماضي بوزير السلام تايا دنديا وقام باعتقاله على خلفيه
اتهامه بالتعاون مع قوى مناهضة للسلام يُزعم أنها تحاول تدمير الدولة الإثيوبية،
في إشارة إلى جيش تحرير الأورومو. ووُصفت تلك الاتهامات ومن ثم لاحقا الاعتقال
بالبربرية؛ بهدف إقصائه من الحياة السياسية لانتقاده المتكرر للسياسات الأمنية
للنظام الإثيوبي.
وتجدر الإشارة
هنا إلى أن مفاوضات الحكومة الإثيوبية التي عُقدت في تنزانيا في تشرين الثاني/ نوفمبر
2023، مع جيش تحرير الأورومو الذي انشق عنها أوناق شاني، وتصنفه الحكومة الإثيوبية
كمنظمة إرهابية، قد فشلت في جولتين منها.
وتتزايد حالة
الاضطراب في الداخل الإثيوبي الهش، فبعد أقاليم تيغراي وأوروميا وأمهرا التي شهدت
وتشهد
صراعات مسلحة، اتجهت الاضطرابات جنوبا إلى إقليم سيداما، حيث تتصاعد وتيرة
الاحتجاجات والتوترات من نشطاء وسياسيين وأحزاب لتبرز إلى السطح في الآونة
الأخيرة، لتضاف إلى قائمة طويلة من
الأزمات تمر بها البلاد.
اقتصاد يتدهور مع
عجز يثقل كاهل الداخل
مع الأوضاع الداخلية
البالغة التعقيد، دفع الاقتصاد الإثيوبي النامي ثمن التمردات والاضطرابات الداخلية،
فتراجعت قدرة الحكومة على سداد الديون السيادية بعد إبلاغ وزارة المالية حاملي
السندات أنها في وضع لا يسمح لها بدفع الفوائد المترتبة عليها والتي حان
استحقاقها.
ويعاني الاقتصاد
الإثيوبي من انكماش واضح نتيجة الصرف الكبير على حرب التيغراي، وهو ما عزز من
مخاوف المستثمرين من أن بلدا تشتعل الحروب في كل أطرافه، بعضها تم قمعه والبعض الآخر
ينزع فتيل البارود مؤقتا، غير مغرٍ. ورغم المجهودات والدعم الدولي الضخم، فقد خفضت
المؤسسات الاقتصادية الدولية من قيمة العملة الإثيوبية مع فجوات كبيرة في التمويل
الخارجي وفوائد الديون التي تصل لمبلغ يتجاوز المليار دولار سنويا، مما خلق وضعا
اقتصاديا ضاغطا في الداخل المضطرب، وأدى بالتالي إلى المطالبات بتعليق الديون
وهيكلتها أو تجميدها لهذا العام وحتى ربما العام القادم.
وفي محاولة للحد
من التدهور الاقتصادي في البلاد، تسعى الحكومة لتقديم طلب رسمي للحصول على تمويل طارئ
من صندوق النقد الدولي، مع ملاحقات الدائنين في نادي باريس من أجل عقد اتفاق نهائي
لا يتجاوز نهاية آذار/ مارس القادم.
وطلبت كذلك من
الصين جدولة ديونها وهيكلتها مرة أخرى، مما يقلل فرص المناورة مع الصين التي تعمل
على تعزيز وجودها في
أفريقيا، وهو أمر يجد الامتعاض من الدول الغربية. وهذه الديون
كرت رابح تدرك بكين أهميته مع أديس أبابا في خضم تنافس جيوسياسي.
حروب الداخل وفشل
النموذج الوطني
بفشل نظام آبي
أحمد في إقرار مشروع وطني متماسك -بالرضا والتوافق- رغم الدعم الدولي الذي حظي به
وحالات الحماية التي يتمتع بمظلتها، فإنه يبدو غير آبه بالإدانات الدولية أو
انتقادات المنظمات الحقوقية، خاصة مع دعم المنظمات الإقليمية التي تسيطر عليها إثيوبيا
(كإيغاد) أو تلك التي تتخذ من أديس مقرا لها (كالاتحاد الأفريقي). وإضافة الدعم
الغربي والأمريكي والتركي، فمع الوجود الإماراتي المتعاظم في الساحة الإثيوبية للإبقاء
على تماسك النظام واستمراريته في خضم تحديات داخلية متعاظمة، تبقى الحالة الإثيوبية
في أعلى درجات التململ والتمرد الوشيك الانفجار في أكثر من إقليم، مع انسداد الأفق
السياسي ولجوء الحكومة إلى الحلول العسكرية والإخضاع بالقوة.
ونتيجة لذلك
اتسعت دائرة المواجهات، مع انتهاكات كبيرة في حقوق الانسان أثارت قلق المنظمات
الحقوقية الدولية التي ما فتئت توجه الإدانات التي لا يلقي لها النظام الإثيوبي
بالا.
مناورات الخارج
وشد الداخل
يجادل المراقبون
بأن الهدف من مناورات حكومة آبي أحمد الخارجية هو توحيد الداخل المتشظي؛ فالمناورة
مع جمهورية أرض الصومال -على سبيل المثال لا الحصر- عبر حصول إثيوبيا على منفذ
بحري مقابل اعتراف إثيوبيا بأرض الصومال كدولة مستقلة، مع تشجيع بعض الشركاء الإقليميين
لهذه الخطوة.
يجد النظام الإثيوبي نفسه في حالة حرب معلنة وخفية ضد جيرانه، مما قد يجر المنطقة مرة أخرى إلى اصطفافات مكلفة واحتمالات عودة حالة العنف والمواجهات، مع ديناميات جديدة تغذي الصراع الذي تشعله إثيوبيا وطموحاتها غير الواقعية في حقبة آبي أحمد
غير أن هذه
الخطوة قد تفتح أبواب لتجدد المرارات والثأرات بين الجيش الإثيوبي وحركة الشباب
الصومالية التي قامت باستعراض قوتها لتسديد ضربات ضد إثيوبيا، سواء باستهداف
قواتها في الصومال أو القوات الإقليمية. وهذه التوقعات لا تخلو من رسالة سياسية
موجهة لشركاء الحكومة الإثيوبية، مؤداها أن مناورة آبي أحمد مع جمهورية أرض
الصومال قد تقوّض كل ما بذلته الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الدوليون، فضلا
عن تضحيات وجهود بعثة الاتحاد الأفريقي الانتقالية في الصومال (أتميس أو أميصوم
سابقا) منذ 2007، والتي كان الجيش الإثيوبي أحد أهم مكوناتها.
على الصعيد الإقليمي
الأوسع أيضا، ينظر السودانيون كذلك إلى حالة التماهي الإثيوبي مع الدعم السريع في
حربه ضد المدنيين والجيش السودانيين بعين الريبة، بعد الإسناد الخفي في المنظمات
الإقليمية وتجييرها لصالح التمرد، لتتضح رغبة النظام الإثيوبي في سودان منهك وضعيف.
وإضافة الى ذلك،
هنالك حالة الشد والجذب مع إريتريا ودغدغة مشاعر الإثيوبيين بالسيطرة على أحد
موانئ إريتريا، بذلك يجد النظام الإثيوبي نفسه في حالة حرب معلنة وخفية ضد جيرانه،
مما قد يجر المنطقة مرة أخرى إلى اصطفافات مكلفة واحتمالات عودة حالة العنف
والمواجهات، مع ديناميات جديدة تغذي الصراع الذي تشعله إثيوبيا وطموحاتها غير الواقعية
في حقبة آبي أحمد.
في ضوء هذا
السلوك الإثيوبي، فإن عودة ظاهرة أمراء الحرب وتعبئة المجموعات العنيفة برعاية إقليمية
واضحة، كما حدث في الحالة السودانية، تهدد بانشطارات جديدة وواقع من حالات التمرد
والعصيان والانتهاكات الصارخ لكل حقوق الإنسان. ويبدو هنا أن إثيوبيا تمضي لتسكين
أزماتها الداخلية بإشعال بور التوتر مع جيرانها، وهي في الواقع تقود إلى انهيار
المنطقة واتساع دائرة العنف والانقسامات في إثيوبيا؛ والتي وصلت إلى عنف المجتمعات
الإثنية ضد بعضها البعض، وهي حالة شديدة الخطورة والتعقيد.