مقالات مختارة

انهيار الأونروا بغطاء دولي… تدمير لحق العودة

عبد الحميد صيام
أرشيفية
أرشيفية
ما معنى تفكيك منظمة دولية إنسانية تعمل في الميدان منذ 75 سنة، بناء على رغبة دولة واحدة؟ كيف لممثل ذلك الكيان أن يقف بكل صلافة أمام جلسة للجمعية العامة بحضور ممثلين عن 193 دولة ودولتين مراقبتين، ويتهم الأمم المتحدة بكاملها بالتعاون "مع الإرهابيين بدل التعاون مع الديمقراطية الإسرائيلية"، ولا يحتج أحد. ويمضي جلعاد إردان، المستوطن برتبة سفير، ممثل الكيان في خطابه، قائلا: "الأمم المتحدة ليست متعاونة مع الإرهاب فحسب، بل إن الأمم المتحدة نفسها منظمة إرهابية في غزة". هذا ما تفوه به ممثل الكيان الذي تلطخت يداه بدماء الشعب الفلسطيني في الشهور الخمسة الماضية، وحوّل قطاع غزة إلى أرض بلقع عن آخرها تدفن في أحشائها عشرات الألوف من الضحايا الأبرياء، معظمهم نساء وأطفال. إضافة إلى تدمير المستشفيات والمدارس والجامعات والمساجد والكنائس ودور المسنين ورياض الأطفال وملاجئ الفارين من آلة الموت، ثم يقف هذا المستوطن ليحاضر حول الديمقراطية وحقوق المرأة وتعريف الإرهاب والطريقة السليمة لإنهاء حرب الإبادة عن طريق استسلام المقاومة.

وبدل أن يتم طرد ممثل الكيان من المنتظم الدولي، الذي تعرض لإهانة جماعية نادرة، كما طرد ممثل نظام الأبرتهايد في جنوب أفريقيا في سبعينيات القرن الماضي، تقوم 16 دولة بتبني الرواية الإسرائيلية فورا ودون انتظار نتائج التحقيق الذي أطلقه الأمين في التهم التي وردت من مصدر واحد فقط، وزارة الخارجية الإسرائيلية، ضد 12 موظفا بالضلوع في عملية "طوفان الأقصى". لكن أمام هذا المنبر وسّع المستوطن اتهاماته للأونروا مدعيا أن من بين 13 ألف موظف للوكالة في غزة هناك 12 في المئة أعضاء في حركة حماس، ومئات منهم "إرهابيون نشيطون". واسمعوا قوله: "لقد أثبتت الأونروا أنها جزء من آلة الإرهاب التابعة لحماس. أونروا جزء من المشكلة وليست جزءا من الحل". ووعد أن يمنع أي نشاط للأونروا في غزة والأراضي المحتلة وإسرائيل. أي أنه سيتم تفكيكها وطرد موظفيها وإلغاء مكاتبها.

وقد رد المتحدث الرسمي للأمين العام على تهمة انتماء هذا العدد الخيالي من موظفي الوكالة لحركة حماس، بأن جميع الموظفين الذين ينتمون للأونروا في مناطق عملها يتم عرض أسمائهم على الدول المضيفة، في إسرائيل والأردن ولبنان وسوريا، ويتم التمحيص في أسمائهم وهوياتهم وانتماءاتهم. فكيف تحولوا إلى إرهابيين؟ ولماذا تم اعتماد أسمائهم من قبل الكيان نفسه، ولو كان هناك من يشك في انتمائه لأي حركة مقاومة ما كان يمكن أن يتم توظيفه أصلاً. إذن هدف إسرائيل المعلن والواضح وهو تفكيك الوكالة. وقد بدأ هذا الهدف يأخذ خطوات عملية على الأرض، حيث منع وصول موظفي الأونروا في الضفة الغربية إلى مقرها في منطقة الشيخ جراح بالقدس الشرقية. كما تم إغلاق مركز التدريب المهني في مخيم قلندية. ويبدو أن هدف التفكيك مشترك مع الست عشرة دولة التي أوقفت دعم الوكالة بما يعادل 450 مليون دولار. فهل يمكن أن يكون هذا القرار صدفة؟ وهل صدفة أن هذه الدول التي أوقفت تمويل الأونروا هي نفسها التي دعمت الكيان بالمال والسلاح والحماية من المساءلة، ووقعت معه العديد من الاتفاقيات التجارية كشريك مميز ومفضل. لقد وضع الكيان الصهيوني الآن على رأس أولوياته، بالإضافة إلى تدمير مقومات الحياة في غزة، تفكيك أونروا، لما تمثله من شهادة دولية عنوانها "نكبة 1948" وقرار الأمم المتحدة الشهير 194 الذي أقر بحق العودة والتعويض للاجئين الفلسطينيين وذرياتهم. يبدو أن الكيان توصل إلى قناعة أن فرصة تدميرها قائمة الآن وإن ضاعت هذه الفرصة فلن تتكرر أبدا.

ولأن الوكالة قد لا تستمر بعد نهاية شهر مارس الحالي أو لغاية الشهر المقبل إن لم يتم حل الأزمة المالية، عقدت الجمعية العامة جلسة خاصة للاستماع إلى المفوض العام للوكالة فيليب لازاريني، يوم الإثنين الماضي، لتقديم تقرير شامل حول أزمة الوكالة. وقد ألقى المفوض العام كلمة مؤثرة وقوية حول التهم الباطلة غير المؤكدة للوكالة والحملة الظالمة لتشويها، محذرا من تفكيك الوكالة الذي أحس به عندما اصطفت الدول الـ16 خلف التهمة الإسرائيلية وتبنتها تماما قبل ظهور نتائج التحقيق. قال لازاريني، إن السلطات الإسرائيلية أخبرته قبل أسبوع من صدور حكم محكمة العدل الدولية أن 12 موظفاً من بين 30 ألف موظف في الأونروا، تدعي أنهم شاركوا في هجمات 7 أكتوبر، مؤكدا أنه لم يتلق أي معلومات أخرى بهذا الشأن منذ ذلك اليوم، ولكن خطورة الادعاءات تطلبت منه القيام بعمل عاجل، فأنهى عقود الموظفين المعنيين من أجل صالح الوكالة، وأطلق الأمين العام فورا عمليتين متوازيتين للتحقق في التهم: تحقيق مستقل يجريه مكتب الأمم المتحدة لخدمات الرقابة الداخلية، للكشف عن الحقائق بشأن هذه الادعاءات، وبشكل منفصل تجري مراجعة مستقلة لنهج الأونروا بشأن التعامل مع إدارة المخاطر والحياد. ومع هذه التدابير العاجلة والحاسمة، ورغم أن الادعاءات غير موثقة إلا أن 16 دولة علقت تمويلها للأونروا، دون انتظار نتائج التحقيق. الأونروا، كما أشار المفوض العام، غير قادرة على امتصاص الصدمات المالية، خاصة في ظل استمرار الحرب على غزة. فكيف لمن يتباكون على المأساة الإنسانية في غزة، وضرورة زيادة حجم المساعدات، وعدم عرقلة مسيرها وتوزيعها، يقومون بوقف تمويل الجهاز الذي يجلب هذه المساعدات ويوزعها على المحتاجين لأنه أدرى الناس بطبيعة غزة وسكانها.

أعلن لازاريني بكل صراحة ووضوح في كلمته أمام الجمعية وأمام الصحافة، أن محاولة القضاء على الأونروا "لا تتعلق بادعاءات انتهاكات الحياد من عدد من موظفيها، ولكن يوجد خلفها هدف سياسي يتمثل في القضاء على وضع "اللاجئين" وضمان أن تلك القضية لن تكون جزءا من التسوية السياسية النهائية". هذه هي الحقيقة.. المطلوب القضاء على فكرة حق العودة وتعلق الفلسطيني جداً وأباً وحفيداً بوطنه وأرضه وحقله وبيته في فلسطين التاريخية. وما أثار حنق الإسرائيليين أيضا أن الأونروا، أعدت تقريرا داخلياً عن ارتكاب انتهاكات في سجون إسرائيلية ضد غزيين اعتقلوا بعد 7 أكتوبر، وهو ما يساعد في كشف انتهاكات كبرى لحقوق الإنسان في السجون والمعتقلات الإسرائيلية. وقال لازاريني إن الوكالة جمعت هذا التقرير عبر تولي المسؤولية عن الأمور اللوجيستية عند معبر كرم أبو سالم، وإنها ترى المعتقلين العائدين، وبعضهم يعود بعد أسبوعين أو شهرين. وذكر أن معظمهم يعودون مصابين بصدمات بسبب المحنة التي مروا بها. وقد شاركت الوكالة هذا التقرير مع الجهات الحقوقية ذات الصلة التي تتعامل مع قضية الاحتجاز.

إن الهدف الواضح للكيان الصهيوني من حرب الإبادة على غزة هو تدمير القضية الفلسطينية مرة وإلى الأبد، وإفراغ غزة، الشوكة الدائمة في حلق الكيان، من سكانها، وجعل العيش فيها مستحيلا، كي يرحل الناس منها كرها أو طوعا، دفعة واحدة أو بالتقسيط. وبعد الانتهاء من غزة، أو هكذا يحلمون، سينثني جيش الإبادة للتعامل مع الضفة الغربية والقدس وتفريغ العدد الأكبر من السكان والاستيلاء على الأرض. لم تعد الطبقة الإسرائيلية الحاكمة والمتنفذة تنكر أنها لن تسمح بقيام دولة فلسطينية مستقلة تجمع غزة إلى الضفة الغربية بما فيها القدس، وإلغاء الأونروا سيكون الخطة المسبقة والضرورية لتصفية القضية الفلسطينية. لقد ظل لاجئو فلسطين منذ انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة عام 1965 حملة الشعلة ورأس الحربة في مواجهة الاستعمار الاستيطاني الإحلالي في فلسطين وخارج فلسطين. اللاجئ هو حامل الذاكرة والمفتاح والأمل. يربي سواعده وسواعد أبنائه وبناته في المخيمات صانعة البطولة والأبطال استعدادا للمنازلة الكبرى. إن تدمير الأونروا كمقدمة لإلغاء حق العودة سيكون وخيم العواقب، وليس أمام الشعب الفلسطيني والشعوب العربية والإسلامية والدول الصديقة والحليفة إلا أن يعملوا معا لإنقاذ الوكالة من أزمتها المالية كي تبقى الوكالة الشاهد على نكبة الشعب الفلسطيني المستمرة والمتواصلة والمتعاظمة منذ 75 عاما إلى أن يتم تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير المصير، وليس ذلك ببعيد على شعب البطولات والصمود والصبر.

القدس العربي
التعليقات (0)