هذه قصة الجندي الأمريكي
آرون بوشنيل..
بدأت
قصّتي مع فلسطين عندما زاملني شاب فلسطيني (عليّ) في سنتي الثالثة لدراستي
الجامعية، كنت كأعمى أو كمن تلتفّ على عينيه عصبة سوداء سميكة، تمنع أيّ بصيص نور من
أن يتسلّل إلى عقلي، أتبنّى الرواية الإسرائيليّة بكلّ تفاصيلها مذ كانوا يحلّون
ضيوفا علينا أيام مدرستي في صفوفها الأولى، فيشحنوننا حقدا وكراهية على العرب
وحبّا وعشقا لشعب
إسرائيل الكرام وواحة الديمقراطية الغربية في الشرق شديد الظلام،
أجمل وأرقى وأفضل تطبيق لقيم الغرب العظيمة لن تجدوه في العالم إلا في دولة إسرائيل.
نجح
عليّ في رفع العصبة عن عينيّ، فتحها على مصراعيها وجعلها ترى المشهد بكلّ دقّة
ووضوح، ويا لهول ما رأيت، عكس الصورة تماما، رأيت العنصرية البغيضة والتطرّف
المجنون، رأيت الجريمة بكلّ صورها البشعة، عصابة تحرّكهم الساديّة المفرطة
ويسمّونها دولة بل صوّروها لنا بأنّها الأرقى والأكثر تقدما ماديّا وإنسانيّا
وحضاريّا، ببساطة جعلني أكتشف أنّها احتلال، تحتل أرض شعب آخر وتسيطر عليه بقوّة
السلاح والنّار. وهل هذا اكتشاف يحتاج إلى جهود جبّارة أم هو كمن يكتشف العجلة؟
هذه وحدها كافية لينفضّ الناس عنها وليعرفوا حقيقتها المرّة، ولا داعي لتعداد
جرائمها وما نتج عن هذا الاحتلال من تهجير وتطهير عرقي وويلات لشعب سُرقت أرضه
ووطنه وجعلته على قارعة الطريق أو في مخيمات اللجوء والشتات.
تخرّجت
من الجامعة والتحقت بسلاح الطيران كمهندس تقنّي، ومنذ ذلك الحين اشتعلت معركة ضروس
ميدانها قلبي الصغير، المستقبل الواعد المزهر الذي يفتح لي ذراعيه كعضو فريق هندسة
الطيران في الولايات المتحدة الامريكية من ناحية، ومن ناحية أخرى أن هذا الطيران
لا يطير إلا فوق رؤوس المظلومين والمقهورين على وجه هذه الأرض ولا يجري على يديه
إلا الكوارث والدمار والهلاك، وأنا وجدت نفسي أنظر بعينين ثاقبتين.
ولأكن
صريحا أكثر، منذ أهدى إليّ صديقي الفلسطيني العزيز علي كتاب القضيّة الفلسطينية لإدوارد
سعيد وأنا أرى المعادلة من طرفيها، هم كانوا يروننا طرف المعادلة التي تظهر
مظلوميّة الشعب اليهودي على أيدي النازيّة الألمانية التي حرقتهم في أفرانها
وعذّبتهم عذابا شديدا، وكانوا بعرضهم الذكيّ والبارع يصلون إلى حصاد عظيم ولا يتيح
للإنسان الأمريكي والغربي رؤية الطرف الثاني ومظلوميّته.
عندما
قرأت هذا الكتاب الذي دفعني لقراءة أغلب كتب هذا المفكّر الكبير الذي جمع بين
فلسطينيّته وأمريكيّته في شخص واحد واستطاع أن يدحض الرواية الصهيونية بكلّ دقّة
ومهارة فكريّة عميقة لا ترقى لها أبدا الدعاية الصهيونيّة، تعرفت إلى طرف المعادلة
الثانية وتساءلت: ما علاقة الظلم النازي الذي وقع عليهم بظلمهم للفلسطينيين؟ سؤال
كبير وفي الصميم ولا يملكون الإجابة عليه أبدا، استدرارهم لدموعنا عليهم لا يبرّر
لهم أن يبكي الفلسطيني دما ممّا يفعلون به.
بعد
أن قرأت هذا الكتاب وبعد أن أيقظ في روحي كلّ القيم الإنسانيّة الجميلة وجعلني
أنفض ما تراكم على قلبي من غبار دعايتهم الملوّثة للمشاعر الإنسانيّة النبيلة،
أدمنت القراءة لإدوارد سعيد، قرأت له في السياسة: "
غزة أريحا: سلام أمريكي"،
وعجبت لهم كيف كانوا يرون فلسطين أرضا بلا شعب، وكأنها أرض في صحراء لا يملكها أحد..
معقول أرض ملتقى الحضارات ومهد الديانات هكذا كانت تنتظرهم فارغة لتلبّي أحلامهم
الشاذّة؟ وقرأت كتابيه "تغطية الإسلام" و"الثقافة الإمبريالية"،
وددت لو يقرأها كل الأمريكان، للأسف نحن شعب يساق بعاطفته وعلى وقع إمبراطوريّة
إعلامية قائمة على الكذب وتسيطر عليها الحركة الصهيونية بشكل كبير.
صارت
حياتي كلّها غارقة في نقاشات حامية الوطيس حول القضيّة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي،
وحالة القهر التي يعاني منها الفلسطينيون، لم أترك مجالا للنقاش إلا ودخلته بكلّ
قوّة، شاركت في المظاهرات والمسيرات التي اندلعت مع هذه الحرب ووقفت سدّا منيعا في
وجه الدعاية الصهيونية التي حاولت بكل جهدها شيطنة الفلسطينيين وبالذات المقاومة
الفلسطينية.
كنت
راضيا عن دوري في هذه الأنشطة العامّة، أفرّغ ما في صدري من غضب وأسهم في رفع
الصوت عاليا في وجه الدعم الأمريكي المطلق لهذه المذبحة في غزّة، مذبحة بأدوات
القتل الأمريكية والتغطية السياسيّة الكاملة، وعندما أقول أدوات قتل أمريكية أدرك
من خلال ما عندي من علم حجم هذه الأدوات، هناك صواريخ تزن طنين من المتفجّرات تلقى
على أحياء سكنيّة في غزّة، أدرك أنه بلغ ما ألقي من متفجّرات أمريكية ما يعادل خمس
قنابل نووية. أدرك أن ما يقال في الاعلام أقلّ بكثير من حقيقة هذه المذابح
المستمرّة منذ خمسة شهور على مدار الساعة بتواطؤ أمريكي كامل، لقد بلغت الجريمة
مبلغا يفوق تصوّر الشياطين وليس فقط تصوّر البشر.
الآن
لم أعد راضيا بعد بلوغ هذا الإجرام ما بلغ، لم تعد مشاركتي في الاحتجاجات كافية
أبدا، وكان مما عاظم من درجة استفزازي أنّهم رشّحوني مع فريق تدريب للذهاب هناك
وتدريب الطيّارين الإسرائيليين على تقنيات إف35 تختلف عن سابقاتها إف16.. يا للهول
يريدون منك أن تدرّب القتلة على المزيد من القتل، هذا أمر صاعق، فجّر كل المخزون
الذي كان بداخلي يتراكم منذ عدة سنوات خلت، مذ تعرّفت على عليّ ثم مرورا بتلمذتي
في مدرسة إدوارد سعيد إلى هذه الأيام منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر وأنا
أتابع أفلام الرعب التي يصنعها الصهاينة في "هولوكوست" غزّة، المشكلة
أنّي عرفت الحقيقة بكلّ أبعادها، هؤلاء ضحايا النازيّة يقومون بدور النازيّة في
ذبح الشعب الفلسطيني في غزّة.
أنا
أين موقعي من الإعراب؟ أشعر بأنّ إيماني في عدالة القضية الفلسطينية وما وقع عليها
من ظلم يتعاظم في صدري بشكل كبير، لم تعد فكرة من كتاب أو جاءت عبر نقاش عابر، بل
فكرة ترسّخت في أعماقي أنبتت إحساسا عميقا سيطر على كياني كلّه، فكرة استحوذت على
معنى وجودي في الحياة، أصبحت تشكل حاضري ومستقبلي، كيف أوصل للناس ما وصلت عليه
وبشكل سريع؟ كيف أكتب رسالة يقرأها أهل الأرض أجمعين؟
أصبحت
في هذا اليوم أمام مفترق طرق: إمّا أن أذهب لتدريب القتلة، أو أن أسلك طريقا آخر،
وأنا مطلع على القدرات التدميرية لهذه الطائرات ومدرك لحجم الجريمة بكل أبعادها،
لن أذهب بهذا الطريق أبدا هذا قرار لا رجعة عنه، أمّا الطريق الثاني فلا بدّ أن
يتناسب طرديّا مع حجم الجريمة، لا بدّ أن يكون إبداعيا واستثنائيا، موجعا للباطل
وأهله، منتصرا للدماء البريئة النازفة بلا توقّف.. لم تنجح الإنسانيّة بكلّ
أشكالها المتمظهرة بهيئة الأمم أو محكمة العدل العليا أو كل المؤسّسات والدول
والشعوب في وقف هذه الحرب المجنونة، ولم تلق هذه العصابة سمعها لأحد إلا لصوت
شهوتها في المزيد من القتل.
أمريكا
التي أنا مواطن من مواطنيها تقف بقضّها وقضيضها وبكلّ دعمها وحديدها مع العصابة
التي تسمّى دولة إسرائيل، وتصرّ إصرار عجيبا على هذا الدعم غير آبهة بمشاهد القتل
والدمار التي تحدثها آلتها على أيدي هذه العصابة. كيف وصلت إلى هذه الدرجة من المشاركة
الكاملة في هذه المذبحة المريعة؟ كيف يسمحون لهم وبفضل دعمهم بإعادة إنتاج
"الهولوكوست" من جديد؟
الدم
يغلي في دمي والأفكار تموج كالبراكين المتفجّرة، أصبحت أتابع الأخبار وكلما سمعت
عن مجزرة تزلزلت أركاني، نحل جسمي ولم أعد أطيق طعاما ولا شرابا، عندما يكاد
يقتلني الجوع وتضجّ أمعائي ضجيجا عاليا ألقم فمي شيئا ممّا تيسّر من الأكل دون أن
أجد له طعما.
فكّرت
بحمل كرتونة أطبع عليها الحرية لفلسطين، حملتها كثيرا وطفت فيها الشوارع من خلال
المسيرات المتضامنة مع غزّة، لا أبدا هذه لم تعد تجدي نفعا إلا قليلا أو في حالة البدايات
فتكون جيّدة لتحرّض وتملأ الصدور تعبئة غاضبة على هذا المحتلّ اللعين. اليوم بعد
عشرات المسيرات وبعد أن تعاظم الغضب في صدري ولم أعد أطيقه، أصبحت كبرميل بارود،
فقط يحتاج إلى شرارة تصيب فتيله فينفجر انفجارا هائلا.
لا
بدّ من رسالة مدوّية تصل كلّ الناس، وجاءت الفكرة، لا بدّ من التضحية وبأغلى ما
أملك، عندئذ تنتصر الفكرة وتصل الآفاق، سأحرق نفسي وعلى بوابة السفارة الإسرائيلية
اللعينة، بهذا يلعنهم الناس، يلعنهم كلّ من له إرادة حرّة أو يملك شيئا من المشاعر
الإنسانيّة النبيلة، ولا بدّ من عمل رسالة قصيرة ليعرف الناس لِمَ قمت بهذا الفعل..
تسجيل فيديو وأنا ذاهب هناك. وعلى الرغم من أنّ اشتعالي وحده أعظم رسالة وفيها
تبدو منظومة القيم الغربية الزائفة وهي تحترق أمام دعمها المطلق لمحرقة غزّة، إلا
أنه لا بدّ من رسالة لذوي جلدة الرأس السميكة:
"هناك
حرب إبادة جماعية يقوم بها جيش الاحتلال الإسرائيلي المجرم بحق الشعب الفلسطيني،
أنا في سلاح الجوّ الأمريكي لن أشارك في حرب الإبادة هذه، سأقوم بعمل مريع ولكنه
لا يساوي شيئا مما تقوم به إسرائيل، سأحرق نفسي احتجاجا على المحرقة التي تقوم بها
إسرائيل في غزّة"..
إلى
هنا انتهت قصة هذا الفدائيّ الأمريكي..
شاهد
العالم كلّه على شاشات التلفاز أو عبر شاشاتهم الصغيرة رجلا يتقدّم بخطى واثقة،
قال مقالته الأخيرة في القصة وكأنه يختم حياته بها، وصل السفارة الإسرائيلية وقف
أمامها في باحتها الخارجيّة، أكمل لباسه العسكريّ بلباس طاقيّة تعبّر عن هوية
السلاح الذي ينتمي له وهو سلاح الطيران، أفرغ قنينة كانت بيده لمادّة مشتعلة، أشعل
قداحته، أبت عليه في البداية وكأنها تشفق عليه، إلا أنّها استجابت بعد تردّد،
انتشرت النار بسرعة من أسفل إلى أعلى وجعل يهتف بصوت عال حاسم حادّ مزلزل: الحرية
لفلسطين، الحرية لفلسطين.
بقي
واقفا إلى أن تمكّنت منه النيران فخرّ صريعا، رأى الناس من أتى لنجدته وفتح إطفائية
عليه ليحاول إنقاذ ما تبقّى من جسده، وفي ذات الوقت التي كانت الشهامة تشتعل في
جسد هذا الإنسان الفدائي، كانت هناك نذالة تحاول الإحاطة به، رجل أمن السفارة الإسرائيلية
يشهر مسدّسه ويصوّبه على هذا الجسد الذي يحترق تماما كما تشهر دولته أسلحتها
الفتّاكة على صدر الشعب الفلسطيني العاري.