يتعرض الشعب
الفلسطيني إلى عملية تصفية ممنهجة منذ بدء
الاحتلال الصهيوني للأرض عام 1948، بل وما سبق هذا العام من موجات هجرة اليهود إلى
فلسطين واقتطاعهم الأرض بالقوة أو بالحيلة، لكن ما جرى في الأشهر الخمسة الأخيرة
قد يوازي ما جرى للفلسطينيين على مدى تاريخهم المعاصر، إما من جهة عدد الشهداء والمصابين
في وقت قصير، أو من جهة أعداد المهجَّرين من منازلهم، ما يجعلنا نسأل أين ضغط
الشعوب العربية على أنظمتها؟
إن تتبع تاريخ الأنظمة العربية لا يعطي أي دلالة على
تفاعلها النزيه والحر مع القضية الفلسطينية، بل كانت فلسطين موضع تنافس على
الزعامة العربية، لرمزية المسجد الأقصى في وجدان المسلمين المُشَكِّلين لعموم
العرب، ولرمزيتها الدينية للمسيحيين، فضلا عن مكانتها لدى اليهود، ومن هنا كانت
فلسطين وقضيتها أداة من أدوات التنافس بين الحكام العرب لوراثة "جاه"
الخلافة أو الدولة العثمانية عقب سقوطها، لكنه جاه يُطلب من باب الغرب لا باب
الشرق، فالتنافس يجري بين الحكام في إطار ما سمح به نظام ما بعد الحربين
العالميتين، خاصة الثانية التي أُنشئ بعدها الكيان الغاصب.
ربما تكون أبرز مفارقات إنشاء هذا الكيان، الذي يُقال
عنه إنه يمثل قيم الغرب في المنطقة، أنه نشأ على فكرة مغايرة لأسس الدول الغربية، فالنظام
الدولي هو امتداد لما جرى في وستفاليا عام 1648، تطور التنظيم بأشكال كثيرة ووضعه
الحالي أحد تجليات هذه الاتفاقية،
على مدار سنوات القضية الفلسطينية كان للشعوب العربية دور بارز في النصرة؛ إما بالمال، أو الضغط الشعبي على الرأي العام الدولي أو الأنظمة المحلية التي تجد ظهيرا سياسيا داخليا يحركها أمام وقاحة الغرب وعُنْجَهِيَّة الصهاينة، وبالقدر الذي يقترب فيه النظام السياسي المحلي من الغرب والصهاينة فإنه يقمع المعارضة الداخلية لأي اعتداء صهيوني تجاه أرضنا وأهلنا في فلسطين
فهو يتغير في بعض الملامح لكنه يبقى نظاما ذا
مرجعية عامة وُضعت منتصف القرن السابع عشر. وأبرز خصائص هذا النظام القومية
والعلمانية، ثم قرر المهيمنون على القرار في النظام الدولي أن يُنشئوا دولة متعددة
العرقيات ودينية في الشرق، في حين أنهم لا يزالون يرفضون جنوح أبناء شعوب الشرق
إلى تجاوز العرقيات والابتعاد عن المرجعيات الدينية.
بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فصدر قرار التقسيم رقم 181
لعام 1947، لإنشاء دولتين؛ عربية ويهودية. نعم، هكذا بكل صلف وتبجح؛ دولة
"عربية" غير محددة الهوية القومية رغم أن اسم فلسطين لم يكن مجهولا، في
مقابل دولة "يهودية" تقوم على تجميع أبناء ديانة واحدة في مكان واحد،
وتنزع الحقوق عمن سواهم. وبالطبع معلومةٌ مكانةُ الفوارق الاجتماعية بين اليهود
الأوروبيين والشرقيين والسود.
إذا، قامت الأمم المتحدة بنفسها بإصدار قرار دولي حظي باستمرارية
فعلية حتى تاريخنا. واستند القرار إلى أساس عنصري (بحسب معايير الأمم المتحدة)،
ولم يأتِ وقت بدا فيه مجرد اعتراض على الأساس العنصري أو الاعتذار عنه طوال تاريخ
هذه المنظمة المرسِّخة للقهر الدولي بحسب إرادة القوى العظمى، فلم تكتفِ المنظمة بإصدار
قرار احتلال دولة، بل ذهبت أيضا إلى إنشاء كيان "محتل وعنصري".
كان العرب في قلب هذه المنظومة الدولية لا يخالفون
توجهات أصحاب القرار فيها، أما الشعوب فقد كانت متسابقة -بدافع عاطفتها- إلى أرضها
ومقدساتها؛ سبقت الشعوب حكامها فانخرطت في تنظيم مقاومة شعبية للعصابات اليهودية، وأثخنوا
في العصابات الصهيونية مدفوعين بإيمانهم أنهم أصحاب حق، لكن لما دخلت الجيوش إلى
المعركة انهزمت أمام قوات صهيونية تدرب بعضها في الحرب العالمية الثانية، وذات عدد
وعتاد أكبر من الجيوش العربية المجتمعة، وانتهى عام 1948 لا بتضييع الأراضي
الفلسطينية التي اقتصها القرار الدولي لليهود فقط، بل أضاع العرب قرابة نصف
الأراضي التي كانت مخصصة للفلسطينيين في هذا القرار، وبقيت 22 في المئة تقريبا من
أرض فلسطين للفلسطينيين، ثم ضاعت هذه الأراضي أيضا عام 1967، ولم تتحرر أي أرض فلسطينية
فعليا سوى غزة عام 2005، بنفس طريقة النضال الأول؛ المقاومة الشعبية، بخلاف سيناء المحررة
بأيدي الجيش المصري والدعم العربي الاستثنائي عام 1973.
على مدار سنوات القضية الفلسطينية كان للشعوب العربية دور
بارز في النصرة؛ إما بالمال، أو الضغط الشعبي على الرأي العام الدولي أو الأنظمة
المحلية التي تجد ظهيرا سياسيا داخليا يحركها أمام وقاحة الغرب وعُنْجَهِيَّة
الصهاينة، وبالقدر الذي يقترب فيه النظام السياسي المحلي من الغرب والصهاينة فإنه
يقمع المعارضة الداخلية لأي اعتداء صهيوني تجاه أرضنا وأهلنا في فلسطين، وهذا مؤشر
الوطنية الذي تربينا عليه من مفكرينا وكتابنا، ولا سيما الأستاذ فهمي هويدي، وبه
نقيس اليوم مقدار الوطنية لدى الأنظمة العربية في أعظم مقتلة تُرتكب في فلسطين.
إشكال تحرك الشعوب نابع من أمر واحد، وهو غياب التنظيمات
السياسية ذات الجذور الشعبية والمستعدة لمواجهة استبداد الحكام في الأمور
المصيرية، أما عصا القمع فليست مبررا أساسيا لغياب الشعوب، رغم أهمية دور القمع،
لكن تبقى حركة الشارع مرتبطة بالتنظيمات الشعبية، سواء كانت أحزابا أو حركات
أهلية، وهذا الوضع الذي نفتقده في عموم المنطقة، فسطوة أنظمة الحكم طغت على
التنظيم الأهلي المستند إلى فكرة تدفعه إلى انتزاع الحقوق الأساسية، أو مجابهة التنازلات
المصيرية.
درس المستقبل لأي تيار وطني: أن همَّ المنطقة واحد، والجميع يتأثر بالأخطاء الفادحة للتنظيمات الكبرى في الإقليم، والإصرار على صم الآذان عن النصائح مدمر لهذا التيار أولا، ولحاضنته الشعبية ثانيا، وللمنطقة بأكملها ثالثا، كما أن درس التيارات المنافسة للتنظيمات الشعبية، أن محاولات الإسقاط بالطرق القمعية ستؤدي إلى قمع عام لن يسلم منه الذين كانوا أدواتٍ لإسقاط التنظيم الأهلي أمام التنظيم العسكري
يستدعي هذا الحديث تذكر دور جمهور الإخوان المسلمين في
الجامعات والشوارع عند اشتعال الأوضاع في فلسطين، وأيًّا كان موقف القارئ أو
الكاتب من الحركة في مرحلة ما، إلا أن دورها الإغاثي والداعم للفلسطينيين وقت
الحرب كان مُهمًّا، ولم تكن العصا الأمنية سببا في تراجعهم عن الضغط على النظام
السياسي، على الأقل فيما عاصرتُه من اعتداءات إسرائيلية قبل ثورة يناير، فهناك
مرحلة كان التنظيم يدفع بعشرات الآلاف من أبنائه وقياداته إلى الجامعات أو الشوارع
للضغط على النظام المصري، سواء على المستوى الإغاثي أو على مستوى التحركات
السياسية لتهدئة الشارع الغاضب.
خسرت فلسطين كما خسرت الأمة باستبداد الأنظمة وانعدام
تداول السلطة، وخسرت فلسطين بغياب حركات أهلية مثل الإخوان المسلمين، ولم يملأ
السلفيون أو غيرهم من التيارات الدينية مكانهم، كما لم يملأه أي تيار سياسي آخر،
حتى وإن كان قادة التنظيم أحد الأسباب الرئيسية في وصول أبنائه إلى مرحلة الشتات
هذه.
ربما يكون درس المستقبل لأي تيار وطني: أن همَّ المنطقة
واحد، والجميع يتأثر بالأخطاء الفادحة للتنظيمات الكبرى في الإقليم، والإصرار على
صم الآذان عن النصائح مدمر لهذا التيار أولا، ولحاضنته الشعبية ثانيا، وللمنطقة بأكملها
ثالثا، كما أن درس التيارات المنافسة للتنظيمات الشعبية، أن محاولات الإسقاط
بالطرق القمعية ستؤدي إلى قمع عام لن يسلم منه الذين كانوا أدواتٍ لإسقاط التنظيم
الأهلي أمام التنظيم العسكري، وأن التدافع السلمي عبر الصندوق هو الأداة الوحيدة
للوصول إلى السلطة، وإلا فلن يحوزها سوى ممسك السلاح.