لم يكن تفاعل الشعوب العربية مع
العدوان
الصهيوني الوحشي ضد
غزة على درجة واحدة، فثمة دول عربية سمحت بهوامش محدودة
لحراكات ونشاطات شعبية للتعبير عن مناصرتها لأهل غزة، تمثل ذلك بتنظيم عشرات
المظاهرات والوقفات على مدار أيام العدوان، وثمة دول عربية أخرى ليس من الوارد في
أعرافها السياسية إقامة مثل تلك النشاطات والفعاليات.
وحتى تفاعل الشعوب العربية في بعض الدول
العربية التي تتسامح مع نشاطات وحراكات شعبية ضمن السقوف التي تحددها تلك الأنظمة،
لم يكن على مستوى الحدث وضخامته وتاريخيته، بل كان بمجموعه تفاعلا متواضعا، مع أنه
في بعض مظاهره وتجلياته كان تفاعلا قويا، لكنه لم يشكل بتراكماته ضغطا قويا على
الحكومات العربية يدفعها لتغيير مواقفها السياسية وفق مراقبين.
وفي هذا الإطار شهدت بعض الدول العربية،
كالأردن واليمن والمغرب ولبنان مظاهرات ووقفات شعبية متواصلة طوال فترة العدوان
على غزة، نددت بالجرائم والمذابح التي اقترفها جيش
الاحتلال بحق المدنيين من أهل
غزة، وطالب المتظاهرون بوقف فوري للعدوان، واستنكروا ما وصفوه بالصمت العربي
الرسمي والدولي، وطالبوا برفع الحصار والسماح بإدخال المساعدات إلى غزة.
وتبعا لاختلاف الظروف والأعراف السياسية
السائدة في العالم العربي، وحدود المسموح به والممنوع بشأن الفعاليات والنشاطات
الشعبية، تباينت الآراء حول تفاعل الشعوب العربية مع مجازر جيش الاحتلال ضد أهل
غزة، والتدمير الجنوني الشامل لعمرانها ومبانيها وأحيائها السكنية، بين من يعذر
تلك الشعوب ويرى أنها تحركت وفعلت ما أمكنها فعله، وبين من يصفها بمحدودية
المشاركة والفاعلية والتأثير، وكانت أقل من السقوف المسموح بها.
الأكاديمي والداعية السعودي، الدكتور سعيد
بن ناصر الغامدي رأى أن تعاطف الشعوب العربية مع ما يجري في غزة "له جانبان،
الأول يتعلق بالاعتقاد والوجدان، فهي مع الشعب
الفلسطيني وما يحدث للأهل في غزة،
وهذا أمر مهم جدا، لأن انعدامه يعني خروج المسلم من دائرة الالتزام الذي يوجبه
الدين الإسلامي على المسلم".
سعيد الغامدي.. أكاديمي وداعية سعودي
وأضاف: "أما الجانب الثاني فيظهر
بالخطوات العملية التي تطبق على الواقع، وفيه تقصير كبير، وقد تخلف فيه المسلمون
عن الواجب الذي يجب عليهم القيام به، اللهم ما حدث من بعضهم بتقديم التبرعات
والمساعدات، لكن الواجب أكبر من هذا بكثير".
وواصل حديثه لـ
"عربي21" بالقول:
"ولا يخفى أن المسلمين ابتلوا بالحكام الظلمة والفسقة والمرتدين، الذين
تحالفوا مع العدوان ووقفوا معه، ولهذا فالشعوب العربية تخاف، وبات خوفهم مسيطرا على
أعمالهم وتصرفاتهم، ولا يستطيعون للأسف الخروج من هذا المأزق الذي يعيشونه، والله
سبحانه قد عذر المستضعفين، فقال {إلا المستضعفين من الرجال والنساء لا يستطيعون
حيلة ولا يهتدون سبيلا}".
وتساءل الداعية الغامدي: "هل الأمة كلها
وصلت إلى درجة الاستضعاف؟ إن هذا من الهوان والوهن الذي أصاب الأمة، ونسأل الله أن
تشكل الأحداث منعطفا كبيرا لإيقاظ أحاسيسها ووجدانها وتحركها وعملها، وهذا له
مؤشرات كبيرة في الواقع، وهو الذي يخافه الأعداء في كل مكان".
من جانبه رأى أستاذ العلوم السياسية في
الجامعات الأردنية، الدكتور أحمد البرصان أن "الأنظمة السياسية العربية قامت
طوال السنوات السابقة بترويض الشعوب العربية، وقامت كذلك بتهميش الأحزاب السياسية،
والتضييق عليها، ما أوصل الشعوب العربية إلى الابتعاد عن المشاركة السياسية، أو
تحاشي الانخراط في العمل الحزبي والسياسي نتيجة تلك السياسات".
أحمد البرصان.. باحث أردني.
وأضاف: "وهذا ما يتبدى بوضوح في تجربة
الأحزاب السياسية في مصر، فقد كانت أحزابا قوية ولها حضور في الشارع، لكن النظام
قام بتهميشها، وكذلك الحال في تجربة إشراك الإسلاميين في المغرب، ثم تم تهميشهم
بعد ذلك، وفي التجربة التونسية تم إحباط الثورة والالتفاف عليها، والاصطدام
بالأحزاب وتهميشها، وهو ما انعكس على أداء الشعوب وتحجيم دورها كذلك".
وأوضح في حديثه لـ
"عربي21" أن
"ما تسمح به الأنظمة السياسية العربية في بعض الحالات يأتي ضمن الأطر والخطوط
التي تسمح بها الأنظمة، وهي تهدف من وراء ذلك إفساح المجال للشعوب كي تنفس عن
غضبها ونقمتها واحتجاجها عما تراه من مجازر وعدوان وحشي، وصمت عربي ودولي".
وتابع: "ومع ذلك فقد كان الفعل العربي
في دعم غزة ومؤازرتها قويا، وأثبت أن الشعوب العربية ما زالت تعتبر القضية
الفلسطينية قضيتها الأولى، ولكن بعض الحكومات العربية منعت المظاهرات الشعبية،
لأنها أنظمة ضعيفة، وتفتقر إلى الشرعية، وخافت أن تنقلب المظاهرات ضدها، ما حملها
على فرض قيود شديدة على مختلف أشكال الحراكات الشعبية".
وبدوره وصف الكاتب والصحفي المصري، يوسف
الداموكي "تفاعل الشعوب العربية مع المذبحة الدائرة في غزة" بأنه
"كان أدنى من المطلوب والمنتظر، ولم يكن على مستوى المذبحة في غزة، فتحول من
تأثير على الأرض، وفعالية في الميدان، وضغط على الحكومات والأنظمة لإجبارها ـ دفعا
للحرج ـ أن تتحرك إلى مجرد تفريغ للطاقات، واستنفاد للقدرات، بين تنفيس الغضب على
مواقع التواصل، وإتاحة التظاهر بعيدا عن الحدود المتاخمة للأراضي المحتلة، وفق ما
تسمح به السلطات ويتماشى مع هواها..".
يوسف الداموكي صحفي وكاتب مصري.
وأردف: "فجاءت التحركات وفق السقوف
التي تتيحها تلك السلطات، وليس كسرا أو تحديا لها.. فنجحت بعض الشعوب في التفاعل
ضمن الدائرة المرسومة لها، لا أكثر، وذلك الموقف المحبط ليس المتهم فيه الأنظمة
القمعية وحدها، وإنما الشعوب أيضا التي بشكل أو بآخر، يئست من الخروج على السلطة،
ومن صنع الحدث بنفسها".
وردا على سؤال
"عربي21" بشأن ما
ينقص الشعوب العربية كي تقوم بواجبها المطلوب في نصرة غزة والتضامن الحقيقي معها،
أشار الدموكي إلى أن "الشعوب العربية في غالبها تعيش حالة استسلام عامة
مخزية، قد تتبعها موجات حقيقية، لكن ليس الآن حسب معطيات الواقع، ومن المؤسف أن
الانفجار المنتظر لم يحدث في اللحظة التي انفجرت فيها الشعوب الغربية فاعلة ومؤثرة
وضاغطة، بأفضل آلاف المرات من شعوب المنطقة".
وختم كلامه بالتنبيه على أن "ما ينقص الشعوب العربية اليوم هو (الجرأة)، والثقة بأنها قادرة على التحرك، ويلزمها إحداث
ثورات جذرية في نفوسها أولا، ما يمكنها من العمل الجاد والمضني لتغيير كل العروش
المتخمة بالاطمئنان الزائد عن حده، بأنهم نجحوا في قص مخالب الشعوب، وسلب إرادتها
للأبد".
يُذكر أن انخراط غالب الشعوب العربية في
حملات مقاطعة شركات وبضائع ومطاعم الدول الداعمة للكيان الصهيوني كان فاعلا
ومؤثرا، وهو بحسب مراقبين سلاح الشعوب العربية في مواجهة العدوان الوحشي على غزة
وأهلها وعمرانها ومرافقها العامة، ومساكن أهلها، وقد أتى أكله في تراجع مبيعات تلك
الشركات والمطاعم والبضائع تراجعا كبيرا، وتكبدها خسائر مالية هائلة.