منذ تفجر قضية فساد وزارة الصحة
المصرية التي طالت أسرة الوزيرة هالة زايد، والتي كشفت عنها "هيئة الرقابة الإدارية" في تشرين الأول/ أكتوبر 2021، خفت نجم الهيئة الحكومية التي يعمل فيها مصطفى
السيسي، نجل رئيس النظام عبدالفتاح السيسي.
ولكن ومع نهاية العام الماضي، مع فوز السيسي، بفترة رئاسية ثالثة تمنحه حكم البلاد حتى 2030، تفجرت عدة قضايا فساد كشفت عنها الهيئة، وتمس قطاعات حيوية في وزارت المالية، والعدل، والتموين، والإسكان.
وهو الأمر الذي يثير التساؤلات بشأن ما قد يكون خلف الكشف عن تلك القضايا الآن من رسائل، بأن نظام السيسي في ولايته الجديدة سيقوم بمحاربة
الفساد، وذلك إلى جانب تلميع هيئة الرقابة الإدارية ودور نجل السيسي مرة أخرى، بحسب معارضين.
"3 قضايا مثيرة"
وبعد كشف الهيئة، لقضية فساد كبيرة، في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، أحالت النيابة العامة، الأربعاء الماضي، 37 مسؤولا بشركة "النيل للمجمعات الاستهلاكية" (حكومية)، وبمشروع "جمعيتي"، وعددا من أصحاب منافذه السلعية إلى المحاكمة الجنائية، متهمين بتربح 58 مليون جنيه من التلاعب في صرف السلع التموينية وبينها الزيت والسكر، واحتكارهما.
المثير أنه تمت إحالة المتهمين في قضية فساد وزارة التموين للمحاكمة خلال 15 يوما فقط، وهو ما وصفه محامي المحاسبين المتهمين أحمد النمس، بأنها من أسرع القضايا التي تمت إحالتها للمحاكمة.
وفي 4 كانون الثاني/ يناير الجاري، أحالت نيابة أمن الدولة العليا المصرية عددا من المسؤولين في قضية فساد متهم فيها مدير "إدارة الكسب غير المشروع" بوزارة العدل، ومدير عام "الإيداعات والشؤون الجمركية" بمصلحة الجمارك المصرية بوزارة المالية، و5 آخرون بينهم رجال أعمال.
وذلك في اتهامهم بتسريب معلومات من "جهاز الكسب غير المشروع" (حكومي)، وتهريب سلع للخارج بالمخالفة للقانون، واستغلال النفوذ، والتربح بعشرات الملايين من
الجنيهات، وتلقي رشاوى مالية بنحو مليوني جنيه مقابل ذلك، فيما رصدت التحقيقات تهريب نحو 50 حاوية للخارج دون فحصها تتجاوز قيمتها 80 مليون جنيه بالمخالفة للقانون.
وفي قضية ثالثة كشف موقع "القاهرة 24"، الجمعة، عن تفاصيل قضية فساد حكومي كبرى جديدة، متهم فيها رئيس مجلس إدارة شركة "مياه الشرب والصرف الصحي" بمدينة أسوان (جنوبا) وخمسة آخرون.
وفي التفاصيل طلب المتهم الحصول على رشاوى مالية قدرها 8 ملايين و50 ألف جنيه وسيارة ماركة "أودي"، في أيلول/ سبتمبر الماضي، لترسية مناقصات وأعمال بعشرات الملايين من الجنيهات، لصالح رجال أعمال، فيما طلب تسلم تلك الرشوة أمام محكمة القضاء العالي بالقاهرة لإبعاد الشبهات عنه.
الكشف عن قضايا الفساد تلك تأتي بالتزامن مع بيان رسمي للنيابة العامة المصرية، أعلنت فيه عن تصدي أجهزة الدولة لجرائم بيع السلع الاستراتيجية بالسوق السوداء، وضبط 590 طنا من السكر، و54 طنا من الزيت، 30 منها للزيت المصفى، و18 طنا من الأرز.
تلك القضايا التي تمس أجهزة ومسؤولين في 4 وزارات مصرية دفعت الصحفي المصري جمال سلطان، للإشارة عبر "فيسبوك"، إلى أن ملف الفساد مستشري في البلاد، ملمحا إلى جريمة النظام بعزل وسجن الرئيس الأسبق للجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة حينما تحدث عن فساد بنحو 600 مليار جنيه في أجهزة الدولة.
وإثر كشف الرقابة الإدارية عن تلك القضايا روج مؤيدو النظام لهاشتاغات بعناوين "#السيسى_بيقضى_على_الفساد"، و"#عام_٢٠٢٤_القضاء_علي_الفساد"، حيث أكد البعض أنه بعد الانتخابات الرئاسية وفوز السيسي بولاية ثالثة فإن المرحلة القادمة من حكمه ستكون لمحاربة الفساد.
اظهار أخبار متعلقة
"تقنين لهؤلاء وتضحية بأولئك"
وفي تقديره لما قد يكون خلف تفجير تلك القضايا الآن من رسائل يوجهها النظام للمصريين، قال رئيس المركز المصري لدراسات الإعلام والرأي العام "تكامل مصر" الباحث مصطفى خضري: "عندما يختلف اللصوص تظهر السرقة؛ حكمة قديمة متجددة، في ظل نظام نشأ وترعرع على الفساد".
وفي حديثه لـ"عربي21"، أضاف خضري: "فالرؤوس الكبيرة تقنن لها السرقات، حتى تظن الرؤوس الصغيرة أن الطريق مفتوح أمامهم، وأن الفساد المقنن للصف الأول من النظام مباح لهم، يسرقون وهم مطمئنون، فالجميع يسرق".
وتابع: "لكن الصف الثاني والثالث وما بعدهم يجهلون طبيعة الحكم ودهاليز السياسة، وأن السراق والفسدة من الصف الأَول للنظام؛ لا يحبون أن يزاحمهم أحد".
وواصل: "بل إن شيوع السرقات والفساد يضرهم، ويشوشر عليهم، فينتهزون الفرص المتاحة للقبض على الصغار، ليبيضوا به وجوههم، ويغطون به على فسادهم، ويذبحون الفاسدين الصغار ككباش فداء عنهم".
وحول ما إذا كان الهدف من الكشف عن جرائم الفساد الأخيرة هو تلميع هيئة الرقابة الإدارية ودور نجل السيسي مرة أخرى، أكد خضري، أن "الرقابة الإدارية الجهة المنوط بها التحقيق، وكشف الفساد في الجهات والهيئات والشركات الحكومية".
وقال إنه "لذلك من الطبيعي أن كل قضية فساد يتم تمريرها للقضاء؛ تكون عن طريق الرقابة الإدارية، وذلك بغض النظر عن وجود نجل السيسي بها من عدمه، فقبل التحاقه بها كانت تؤدي نفس الدور، ويتم ذكرها كلما تم صناعة قضية فساد بترتيب سياسي".
ويرى أن "هذا لا يمنع أن وضعه في هذا المنصب بتلك الجهة؛ كان له هدف منذ البداية مثل باقي إخوته الذين تم وضعهم في جهات سيادية أخرى".
وفي إجابته عن السؤال "هل الكشف عن تلك القضايا يؤكد أن الدولة تقوم بمحاربة الفساد، أم إن ما خفي كان أعظم؟"، أوضح الخبير في التحليل المعلوماتي وقياس الرأي العام، أنه "لا بد أن نفرق بين الدولة والنظام".
وأضاف: "الدولة هي الهيئات والوزارات والجهات الحكومية بكل دواليبها، أما نظام الحكم فهو من يدير هذه الدولة، والنظام الحالي نظاما فاسدا يعمل وفق ترتيب الأدوار، الصف الأول تقنن له السرقات والفساد، والصفوف الخلفية يتم التضحية بها عند اللزوم".
وعن حجم الفساد في مصر، وهل وصل إلى حد الجريمة المنظمة التي تتورط فيها أجهزة وشخصيات نافذة أم أنها عمليات فساد عشوائية، يعتقد الباحث المصري أن "الفساد وصل لحد رأس النظام الحاكم وأسرته وأعوانه، الذين يديرون الأجهزة والهيئات والوزارات والشركات الحكومية لصالحهم الشخصي".
وأشار إلى أن "ذلك يتم بشكل مقنن، تشارك به بعض الجهات القضائية والتنفيذية والتشريعية"، مبينا أن "الكل يدور في فلك رأس النظام، والكل مستفيد، ومن يحاول التكسب والفساد والسرقة بعيدا عن تلك المنظومة، أو بما يعارض مصالحها؛ هم فقط من يتم التضحية بهم على مذبح الرأي العام".
"موقع مخز"
وبينما سجلت مصر المركز الـ70 بمؤشر "مُدركات الفساد في تقرير منظمة الشفافية الدولية عام 2006، والمركز الـ98 عام 2009، نهاية عهد مبارك،إلا أنها تتراجع بشكل مطرد من عام إلى عام خلال عهد السيسي.
وحلت مصر بالمرتبة الـ88 من بين الـ168 دولة عام 2015، وفي العام 2017، احتلت المرتبة الـ108 بين 176، فيما وضعت المنظمة مصر بالمركز الـ117 من 180 دولة عام 2018، وهو المركز الذي حققته عام 2021.
وحلت في عام 2022، بالمرتبة الـ130 عالميا من 180 دولة مسجلة 30 درجة من 100 درجة، في فيما من المتوقع صدور تقرير الفساد عن 2023، نهاية كانون الثاني/ يناير الجاري.
اظهار أخبار متعلقة
"شهادات حية"
"عربي21"، حصلت على عدد من الشهادات من مصريين تؤكد انتشار الفساد وتوغله في أجهزة الدولة السيادية منها والحكومية، والتي طالت مقاعد مجلسي "النواب" و"الشيوخ"، وعمليات ترسية العقود والمناقصات الحكومية، وكذلك بيع الشركات والأصول العامة.
وأكد أحد المصادر لـ"عربي21"، أن "أحد رجال الأعمال المصريين العائدين من دولة إيطاليا بعد نحو 30 عاما للعمل في مصر، دفع مبالغ مالية طائلة لحصول شركته على عقد تشغيل خدمات في مطار القاهرة الدولي قبل سنوات".
وأوضح، أنه "مؤخرا دفع مبالغ مالية أكبر بكثير للحصول على عقد مماثل في العاصمة الإدارية الجديدة ولتقديم ذات الخدمة في مطار العاصمة الدولي، وباقي منشآتها الكبرى".
وكانت الحكومة المصرية قد أقرت تعديلات ببعض أحكام اللائحة التنفيذية لقانون تنظيم مشاركة القطاع الخاص بمشروعات البنية الأساسية والخدمات والمرافق العامة، نشرتها الجريدة الرسمية في أيلول/ سبتمبر 2022، ما اعتبره مراقبون تخليا من جهات الدولة الإدارية عن نظام المناقصات الحكومية وتقنينا لعمليات إسناد الأعمال الحكومية بالأمر المباشر.
وفي سياق شهادات توثيق عمليات الفساد الحكومي، أكد مقربون من بعض أعضاء حزبي "مستقبل وطن" و"حماة وطن"، أهم الأذرع السياسية والبرلمانية لنظام السيسي، أنهم "دفعوا رشى بلغت أكثر من 20 مليون جنيه مصري لشخصيات نافذة في الدولة، لوضع أسمائهم في القوائم الحزبية لخوض الانتخابات التشريعية القادمة بمجلسي النواب والشيوخ".
وأوضحت المصادر لـ"عربي21"، أن "هناك سباقا بين أنصار النظام وخاصة رجال الأعمال منهم حول الحصول على مقعد برلماني بأي ثمن"، مشيرا إلى وجود "مزايدات في الأسعار"، وموضحا أن "من يقدم عرضا أفضل سيفوز بلقب نائب البرلمان".
وأوضح أنه "يجري السباق الآن لحجز مقاعد في المجالس المحلية والشعبية البالغ عددها نحو 52 ألف مقعدا ولم تعقد منذ العام 2008، وذلك برغم أن النظام لم يعلن عن عقد الانتخابات المحلية، ولم يعقدها طوال فترة حكمه الممتدة منذ 2013، لكن جرى الحديث عنها خلال الحوار الوطني الذي جرى العام الماضي".
بل إن المصدر ذهب للحديث عن واقعة مثيرة حدثت بالانتخابات البرلمانية السابقة مع أحد المرشحين وكان قيادة أمنية كبيرة في وزارة الداخلية ومرشحا عن حزب "مستقبل وطن "لمجلس النواب 2022.
وقال: "أكدت المؤشرات في اليوم الأول من الاقتراع فوزه بمقعد بمجلس النواب، ولكن في اليوم التالي فقد موقعه المتقدم ونزل بقوة لصالح مرشح آخر"، مشيرا إلى أن "المرشح المنافس بالدائرة دفع في رئاسة الجمهورية مبالغ طائلة، بينما القيادة الأمنية اعتمدت على وعود المسؤولين ولم يقدم أية مبالغ للحزب أو لصندوق تحيا مصر".
اظهار أخبار متعلقة
"فساد لا ينتهي"
وفي السياق، تعددت التقارير الصحفية الدولية التي تكشف عن عمليات فساد حكومي وفرض ضباط مصريين إتاوات على الفلسطينيين الراغبين في مغادرة قطاع غزة إلى الأراضي المصرية عبر معبر رفح البري، وذلك منذ حرب الإبادة الدموية التي ترتكبها الآلة العسكرية الإسرائيلية بحق 2.3 مليون فلسطيني بالقطاع، منذ 7 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي.
آخر تلك التقارير، صدر في 8 كانون الثاني/ يناير الجاري، لصحيفة "الغارديان" التي كشفت تفاصيل عمليات الابتزاز الواسعة، قائلة: "يدفع الفلسطينيون اليائسون لمغادرة غزة رشاوى لسماسرة تصل إلى 10 آلاف دولار لمساعدتهم على الخروج من القطاع عبر مصر".
وكشفت فلسطينية غاضبة عبر مقطع مصور، عمليات الفساد تلك والابتزاز.
وفي سياق انتشار الفساد في كل أرجاء البلاد وفي 9 كانون الثاني/ يناير الجاري، تم ضبط البرلمانية المصرية نشوى رائف، متلبسة بالغش خلال امتحانها بكلية الحقوق بجامعة جنوب الوادي وهي الطالبة المنتسبة بالفرقة الثالثة، ثم إحالتها للتحقيق لتعديها على أعضاء هيئة التدريس بالضرب.
ولفت الناشط المصري المقيم في الولايات المتحدة سام يوسف، إلى ما اعتبره "معلومة هامة وكاشفة عن حجم الفساد الحكومي في مصر تحت نظام السيسي العسكري"، مبينا أن "حجم التمثيل الدبلوماسي للحكومة المصرية بالخارج هو الأعلى بالعالم ويبلغ 196 سفارة وقنصلية مقابل 117 لأمريكا".
وأوضح السبب بقوله: "لأن الموظفين والمحاسيب وأولاد اللواءات والموظفين الأشباح الموجودين فقط على الأوراق... ".
وقبل أيام وعبر مقطع فيديو مصور وجهته للسيسي، من مدينة الإنتاج الإعلامي، طالبت المحامية المصرية شيرين مؤمن، إياه بإرسال الأجهزة الرقابية لضبط الفساد الذي قدرته بملايين الجنيهات في مدينة الإنتاج الإعلامي، مؤكدة أنها كمحامية لديها الكثير من المستندات الدالة.
"برعاية النظام"
وتحدث مراقبون، عن عدم التزام مصر بتنفيذ بعض مواد اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، مؤكدين أن انعدام رقابة البرلمان، وتراجع استقلالية الأجهزة الرقابية، وعدم إصدار قانون حرية المعلومات؛ بل ورعاية النظام للفاسدين أهم أسباب الفساد.
ففي الوقت الذي تم فيه حبس رئيس الجهاز المركزي للمحاسبات هشام جنينة لكشفه قضايا فساد مليارية، جرى تبرئة كبار رجال نظام حسني مبارك وبينهم وزير داخليته حبيب العادلي، من قضايا فساد تربو على الملياري جنيه، ورفع اسمه واسم زكريا عزمي أحد أعمدة نظام مبارك من قوائم الممنوعين من السفر على خلفية قضايا فساد.
وفي أيار/ مايو 2019، تفجرت قضية فساد كبيرة تم التكتم عليها إعلاميا، أبطالها وزيرة الاستثمار السابقة ورئيسة مجلس إدارة شركة "إيجل كابيتال" التابعة لجهات سيادية داليا خورشيد، وزوجها محافظ البنك المركزي طارق عامر، بممارسة ضغوط على إحدى البنوك لمنع الحجز على شركة تابعة لعائلة رجل الأعمال محمد فريد خميس المديونة بـ(450 مليون جنيه).
حينها منعت السلطات طباعة صحيفة "الأهالي" التي نشرت بالأرقام فساد كبار رجال الدولة.
وصودرت صحيفة "الوطن"، في آذار/ مارس 2015، لنشرها معلومات عن "تهرب ضريبي لـ13 جهة سيادية بما يقارب الـ8 مليارات جنيه".
ووجهت اتهامات إلى العضو المنتدب للبنك العربي الأفريقي الدولي السابق، ورئيس البنك المركزي الحالي، حسن عبدالله، بإهدار 9.2 مليار جنيه وتحويلها إلى الخارج، والاستيلاء على 24 مليون دولار و112 مليون جنيه مكافآت بعام واحد.
ورغم أن البرلماني المصري محمد فؤاد، وجه تساؤلا لرئيسي البرلمان والحكومة، وقدم مذكرة للرقابة الإدارية، عن الواقعتين إلا أنه لم يتم التحقيق فيهما.