الحقيقة أن النظام العربي الرسمي لم يخذل
المقاومة الفلسطينية فقط،
بل ذهب إلى أبعد من هذا بكثير، وبغض النظر عن كثير مما خفي من مداولات لرموز هذا
النظام في غرفهم السرية، ومناجاتهم الثنائية والثلاثية، فثمة شواهد وفيرة تقول إن
هذا النظام اتخذ قرارا صارما بالنأي بنفسه عن المقاومة، ومحاولة إجهاضها وقتلها،
بوصفها حركة ثورية من جنس ثورات الربيع العربي، أو حلقة جديدة منه يتعين حصارها
وحرمانها من النصر أولا، وإن تعذر الأمر حرمانها من قطف ثماره، وهذه سياسة ثابتة
دأب النظام العربي على انتهاجها في كل المعارك التي خاضتها المقاومة في
غزة
تحديدا، حيث اجتهد كل أو جل الرموز الرسمية العربية في إبقاء المقاومة بعيدة عن
قطف ثمار نصرها، وهو نصر تحقق فعليا في كل المواجهات السابقة مع العدو الصهيوني
بلا استثناء، إلا أنها لم تتمكن من توظيف النصر على النحو المتناظر مع حجم
تضحياتها وبطولاتها هي والحاضنة الشعبية الملتفة حولها!
أول الأسباب التي تدفع النظام العربي الرسمي لهذا الموقف
"المبدئي" هو شعوره بأن انتصار المقاومة هو بمثابة إدانة مباشرة له، حيث
فشل على مدار نحو ثمانين عاما في إلحاق هزيمة بالعدو الصهيوني بحجم الهزيمة التي
ألحقتها به المقاومة يوم العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول، وباستثناء ما تحقق في معركة
الكرامة وحرب تشرين / رمضان، فقد كانت كل مواجهات هذا النظام مع العدو تنتهي
بالفشل الذريع، الذي يترتب عليه
احتلال العدو لمزيد من الأرض العربية، ناهيك عن أن
كل المواجهات العسكرية التي خاضها هذا النظام كانت قصيرة وأقرب ما تكون للخاطفة،
ووفق شروط وتخطيط العدو، إذ لم يصمد جيش العرب أمام توحش الصهاينة وغزوهم، إلا
أياما معدودات، في حين سجلت المقاومة في غزة أرقاما قياسية في الصمود والمناجزة
وإيلام العدو، والانتصار عليه فعلا.
وهذا انتصار محرج للنظام العربي وليس في محله، ويضعه في خانة
المساءلة والتشكيك أمام الشعوب العربية، ويطرح عديدا من الأسئلة الكبرى عن سر فشل
النظام العربي الرسمي وانتصار جماعة "دولاتية" محاصرة لا تكاد تملك نقطة
من بحر الموارد والإمكانات التي يملكها النظام العربي، وهذا الموقف يفت في شرعية
النظام العربي الرسمي الذي ما فتىء يتغنى بالشعارات الرنانة الكبرى، التي تدور حول
ما يسميه "مركزية قضية فلسطين" باعتبارها القضية العربية الأولى.
وتحت هذا العنوان استنزفت موارد البلاد، واضطهد العباد، وحرموا من
أبسط مقدرات الحياة الكريمة الحرة، وكل هذا كرمى لعين فلسطين، وضرورة "تسخير
كل الموارد ليوم التحرير" الذي لم يأت، حتى إذا بدا أن هذا اليوم اقترب أو
لاحت بشائره، جن جنون هذا النظام، لأن التنظيم "الدولاتي" إياه هو من
حقق هذه النتيجة، وتلك خطيئة يتعين على المقاومة أن تعتذر عنه، نعم عليها أن تعتذر
عن النصر، وتتسق في سلوكها مع سلسلة الهزائم التي "أحرزها" النظام
العربي الرسمي، ليس في مضمار "تحرير فلسطين" فحسب، بل في كل المجالات
والحقول والصعد، سياسية واقتصادية واجتماعية، حتى ارتبط اسم "العربي"
على يد هذا النظام بالتخلف والفشل، حتى غدا أضحوكة بين أمم الأرض قاطبة، فكيف
والحالة هذه تفلح المقاومة في تنحية كل "إنجازات" النظام العربي الرسمي،
وتنفض الغبار عن صورة العربي (والفلسطيني على وجه الخصوص) وتحوله من شخص مهزوم
بائس إلى بطل منتصر، تتغنى ببطولاته وصموده جل شعوب الأرض؟
سجلت المقاومة في غزة أرقاما قياسية في الصمود والمناجزة وإيلام العدو، والانتصار عليه فعلا.
أما ثاني الأسباب التي أشعلت جنون النظام العربي والرسمي، وبدأ يتحسس
رقبته، فهو أشد وأمضى من السبب الأول، وهو متعلق بإعادة الاعتبار لمفهوم اجتهد
النظام وأعوانه ورعاته وأسياده في مسحه من الذاكرة الجمعية للشعوب العربية، وهو
مفهوم المقاومة، وهذا المفهوم تحديدا تعرض لمحاولة إبادة شعواء عبر سلسلة من
العمليات الجراحية الكبرى، بدأت بربطه بما يسمونه "الإرهاب" وبالتالي
تجريم من يحلم به، ناهيك عمن يفكر في ممارسته، وانتهت بمسح كل ما يتعلق به من آيات
وأحاديث شريفة وقصص تاريخية من مناهج الطلبة، مرورا بسلسة طويلة من القرارات
والإجراءات السرية والعلنية الهادفة في النهاية لهدم هذا الركن من أركان الإسلام،
لتأتي المقاومة وتبعث هذا المفهوم من جديد في نفوس الملايين من أبناء الأمة، عبر
تقديم صورة مشرقة للمقاوم الساعي، لطلب الحياة الحرة الكريمة، بعيدا عن الذل الذي
ألبسه النظام العربي الرسمي لبوس "حب الوطن" و"الحفاظ على
أمنه" فغدا الركون إلى العدو والسعي لتطبيع العلاقة معه، "اجتهادا"
محمودا لتحقيق "مصلحة الوطن!" وتلك واحدة من أكثر الخدع فداحة في مسيرة
هذا النظام!
وبين السببين، آنفي الذكر أعلاه، رزمة أخرى من الأسباب، كلها تدور
على حول "التهديد" الذي يشكله انتصار خيار المقاومة، لا التسليم
والاستسلام، على أمن واستقرار النظام العربي الرسمي، حتى غدا انتصار المقاومة
إشارة "سوداء" على قرب تفكيك هذا النظام، بعد أن بدا عاريا من كل
الألاعيب والأكاذيب التي حاول تسويقها وبيعها للناس باعتبارها "ضرورات
وطنية" و"مصالح عليا" للوطن والأمة!
وربما يكون لهذا الحديث صلة.. إن شاء الله.