رغم
مرور أكثر من سبعين يوما، لا تزال "طوفان الأقصى" في مَدٍّ وارتفاع.. جرف
خلالها الطوفان الكثير، وطفا على سطحه الكثير.. ولا تزال سفينة
المقاومة تمخر عباب
طوفانها، حتى تبلغ ما قدَّر الله لها أن تبلغه.
خلال
الأيام القليلة الماضية استوقفني عدد من التدوينات والمقالات.. منها ما كُتب نصرة
للمقاومة وفيه دخن، ومنها ما عجز صاحبه عن إخفاء تربصه بالمقاومة، ومنها ما تفوح
منه العداوة والبغضاء للمقاومة، ومنها ما له علاقة بطوفان من نوع آخر يجتاح بلاد
الحرمين، منذ بضع سنين، ومنها ما يفضح تذاكي كاتبه ومكنونات قلبه الذي يتميز غيظا
من إنجازات المقاومة غير المتوقعة، بالنظر لتاريخ ما يُسمى الصراع العربي
الإسرائيلي؛ فالصراع كان ولا يزال صهيونيا فلسطينيا بامتياز، وما كان دخول العرب
على خط هذا الصراع إلا لمآرب أخرى لا علاقة لها بلب الصراع..
لو
كان..
كتب
إعلامي مخضرم محترم تدوينة حزينة، على منصة "إكس"، تأسف فيها للحصار
المضروب على
غزة منذ سبعة عشر عاما، وتصور ما كان يمكن أن تحققه المقاومة من
انتصارات وإنجازات لو لم يكن هذا الحصار، فاستهل تدوينته بدعوة للتخيل فقال:
"لنا
أن نتخيل أن هذه المقاومة لو كان لديها منفذ حدودي واحد وغير محاصرة، ولو أنها
حظيت بدعم عسكري خارجي. ماذا كانت فعلت بهذا الجيش المهزوم نفسيا؟! بلا شك، كنا
سنشاهد معركة التحرير".
وأقول:
ربما كانت هُزمت المقاومة!
لقد
شاء الله أن يكون ما هو كائن، وأن تكون هذه المعركة على هذا النحو غير المتكافئ؛ لتكون
آية وحجة، فيزداد المؤمنون إيمانا بأن النصر من عند الله وحده، مهما كانت
إمكاناتهم بسيطة مقارنة بإمكانات العدو الفتاكة، ومهما كان عددهم ضئيلا مقارنة
بحشود العدو الهائلة، ولينذر الله المستهينين (جهلا) بقدره
وقدرته وعظمته، بأن لهم ربا هو القادر (وحده) على كل شيء، وما الأسباب التي
يعبدونها من دونه إلا وسائل، وعليهم أن يكونوا له عبادا؛ ليحظوا بمعيته، ويكون لهم
مُعينا ونصيرا، وليقيم (سبحانه) الحجة على المترددين والمتقاعسين عن مقارعة
الظالمين بأعذار واهية، وما هي عند الله بأعذار..
فإذا
توفرت أسباب النصر المادية، ظن كثير من الناس أنها سبب النصر، ولولاها ما تحقق
النصر.. لا سيما في هذا العصر الذي ضعف فيه إيمان السواد الأعظم من الناس، وبات
كثير منهم يعبد الأسباب من دون الله خالق الأسباب..
لك أن
تتخيل لو أن هذا المقاومة نفسها (ما غيرها) لم تسجل بالصورة ما استطاعت تصويره من
عمليات ضد الكيان الصهيوني في أرض المعركة.. كم من هؤلاء الذين يصفقون للمقاومة
اليوم، ويتغنون بإنجازاتها، كانوا سيصدقون روايتها بأنها تلحق بالعدو الصهيوني
هزيمة نكراء في الميدان، وتكبده خسائر فادحة، لم يتكبدها منذ نشأته وحتى السابع من
أكتوبر 2023؟ في تقديري أن هذا النسبة لم تكن لتتجاوز واحدا في المئة، وربما نصف في
المئة، ويعود تدني هذه النسبة إلى عدة أسباب نذكر منها اثنين:
- الصورة الذهنية الراسخة في أذهان عامة الناس عن
العدو الصهيوني بأنه جيش جبار، قادر على الحسم وتحقيق النصر، في أقصر زمن، وليس
أدل على ذلك من "انتصاره" في عام 1967 على ثلاثة جيوش عربية، واحتلال ما
يوازي ثلاثة أضعاف مساحة فلسطين، في ستة أيام فقط!
- المفهوم
الخاطئ الشائع عن صورة النصر، أو كيفية النصر، في معركة غير متناظرة، بين جيش مدجج
بأحدث الأسلحة، فضلا عن تنوعها، ومقاومة تعتمد على ما تصنعه بأيديها من أسلحة
محدودة الفاعلية إلا بشروط قاسية يجب أن يستوفيها المقاوم، وأولها الجسارة، وإلا فإن
تأثيرها سيبقى محدودا..
فالنصر
في الحرب غير المتناظرة بين جيش نظامي معادٍ ومقاومة وطنية مسلحة يتمثل في إهانة
الجيش المعادي، وإسقاط هيبته، ومنعه من تحقيق أهدافه المعلنة من الحرب، وإرغامه
على قبول ما لم يمكن ممكنا أن يقبل به من قبل، وقدرة المقاومة على التفاوض واستخلاص
ما يمكن استخلاصه من حقوقها المشروعة من بين أنياب العدو ومخالبه، ثم قدرتها على
بناء نفسها وقدراتها بعد ذلك، مهما كان عدد الضحايا في صفوفها، وحاضنتها الشعبية.
خطأ
المقاومة الاستراتيجي!
على
منصة "إكس" أيضا، كتب حقوقي فلسطيني مهاجر مناوئ لحماس تدوينة قال فيها:
"ذهبت
للقاء زميل وصديق على عجل، وكان للصدفة يجلس مع مجموعة من "النخب
العربية".. جلست قليلا وبدأ حديثهم وتحليلهم عن طوفان الأقصى، والأخطاء التي
وقعت فيها المقاومة. ما أن انتهى أحدهم حتى التفت لي قائلا: ما رأيك؟ قلت له: إني أعتقد
أن هناك خطأ استراتيجيا واحدا وقعت فيه المقاومة، وهو أنها اعتقدت أن وراءها أمة
حية تعرف معاني النخوة والشرف، وراهنت على أذرع عمل خارج فلسطين ليست سوى وهم
وسراب".
وأقول:
كلام يبدو
منطقيا، يدغدغ المشاعر، لكنه (في الحقيقية) ينطبق عليه وصف "المغالطة
المنطقية"!
فالملاحظ
أن المقاومة لم تعوِّل على أحد، وكانت تنتظر هذا الخذلان (الرسمي) لأنها خبرته
طوال عقود، ولم تتفاجأ به.. وأما الخذلان الشعبي، فالمقاومة تعرف أن جُل الشعوب
العربية والإسلامية تعيش في ظل أنظمة عميلة، لن تسمح لها بفعل مؤثر.. أما الذي فاق
توقعات المقاومة فهو كثير، ومن ذلك:
- إنجاز المقاومة مهمتها يوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، في وقت أقل من
المتوقع..
- انبهار ذوي الضمائر الحية حول العالم (من غير
المسلمين) بأداء المقاومة وصمود حاضنتها الشعبية، فجعلوا من أنفسهم ناطقين باسم
القضية الفلسطينية ومدافعين عنها..
- نجاح المقاومة الساحق إعلاميا على إعلام العدو
ومؤسسات الإعلام الصهيونية الكبرى في العالم، على نحو غير مسبوق..
- تفوق السردية الفلسطينية على السردية
الصهيونية، لأول مرة، وبفارق مذهل..
- تفاعل الشباب الأوروبي والأمريكي مع سردية المقاومة
الفلسطينية وتبنيها، واستنكارهم لمواقف حكوماتهم التي بدأت تتململ (تحت ضغطهم) من
الإجرام الصهيوني في مشهد لم نألفه ولم نره على مدى الصراع الصهيوني الفلسطيني..
- أما حزب الله في الشمال، فيكفيه مشاركته في المعركة
بتعطيل قسم من الجيش الصهيوني، واستنزافه يوميا، ومن يطالب الحزب بأكثر من ذلك،
فهو لا يفهم تعقيدات الوضع اللبناني (هذا واقع يجب الاعتراف، رغم إدانتنا الكاملة
لمشاركة الحزب بشار الكيماوي في حربه على الشعب السوري الشقيق)..
- الحوثيون أصابوا حركة الملاحة المتجهة إلى ميناء أم
الرشراش (إيلات) بالشلل التام، ولا أظن أن المقاومة كانت تنتظر فعلا كبيرا مؤثرا
كهذا، مما اضطر أمريكا إلى الضغط على العدو؛ لإدخال المعونات، من معبر كرم أبو
سالم، حتى لو كانت غير كافية.. (بغض النظر عن كون الحوثيين مليشيا مسلحة اختطفت
اليمن)..
قد
يغضب كثيرون من كلامي عن دور حزب الله والحوثيين؛ لأسباب معروفة ومفهومة، غير أن
المسلم الحق مأمور بأن ينصف خصمه أو عدوه إذا كان يستحق الإنصاف..
"يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ
وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ
أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا
تَعْمَلُونَ" (المائدة: 8).
ما
يستحق التعليق كثير، ولكن المجال لا يتسع..
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com