تحدث الكثيرون سابقا عن عالم ما بعد الحداثة، لنجد
آخرين اليوم قد بدأوا بالحديث عن عالم ما بعد
الإعلام، عززته الحرب الأوكرانية،
والحرب الصهيونية على
غزة، ووقوع الإعلام وأدواته كضحية من ضحايا هذه الحروب.
فتضحية الإعلام الغربي بمصداقية بناها عبر عقود دفعت الكثير من المشاهدين
والمتابعين لهذه الوسائل للانفضاض عنها والتخلي عنها، في حين برزت وسائل التواصل
الاجتماعي كبديل عن التقليدي، إلّا أنها لم تحظَ بتلك المصداقية التي كان يحظى بها
الإعلام التقليدي سابقا، والذي خسرها اليوم بشكل كبير في ظل ما جرى ويجري وتداعيات
المجريات عليه وعلى الواقع المعاش بشكل عام. فقد أظهرت استطلاعات الرأي في أمريكا
لمعهد جالوب أن 37 في المائة من المستطلعة أراؤهم لا يثقون بالإعلام بعد الحرب على
غزة، بينما قالت 7 في المائة فقط إنهم يثقون بوسائل الإعلام، وتوزعت النسبة
الباقية على مستويات متعددة ومختلفة في الثقة بالإعلام من عدمها.
إن تراجع المهنية والاحترافية لدى وسائل الإعلام
الغربية خلال فترة الحرب على غزة، والتي تجاهلت حق
الفلسطينيين، حيث لم تعاملهم
كبشر وفقا لرسالة صحافيي بي بي سي، وحتى وصل الأمر إلى مضايقة الصحافيين العاملين حتى
في وسائل الإعلام الغربية لمجرد تعبيرهم عن مواقفهم إزاء ما يجري على منصات
تواصلهم الاجتماعي، عبر انتقاد البلطجة الصهيونية، فكانت النتيجة طرد البعض منهم..
كل ذلك يشكل انتحارا أو نحرا لوسائل الإعلام التقليدية الغربية، التي بدأت تفقد
الكثير من شعبيتها ومصداقيتها أمام المتابعين والمشاهدين.
السردية والرواية التي كان ينبغي أن تنتشر وتصل إلى
القارئ والمتابع حوربت بكل قوة ووحشية، بل ووصل ذلك إلى عمليات تصفية جسدية، حيث
دفع الإعلام ربما أكبر فاتورة له في فترة زمنية قصيرة ومحدودة، حين قتل العدوان
الصهيوني أكثر من خمسين صحافيا، 45 من بينهم فلسطينيون، وخمسة فقط من غير
الفلسطينيين، لتقتل
إسرائيل بذلك وخلال أيام أكثر مما قُتل في العالم كله خلال عام
2021، فضلا عن ممارستها القوة في منع بث أخبار تدينها، حيث قطعت الإنترنت عن
الصحافيين وهددت عائلاتهم، فقتلت مثلا عائلة الزميل وائل الدحدوح؛ مراسل الجزيرة
في غزة.
لقد كانت الاستراتيجية الصهيونية إزاء الإعلام واضحة،
بل وحظيت بدعم وتواطؤ غربي وأمريكي تحديدا وبشكل كبير وفج، حين سعت تل أبيب إلى
سياسة التعتيم والكتم، ومنع وصول الصورة والخبر الدقيق للرأي العام، وفرضت قيودا
على صحافيين يعملون لوسائل إعلام أجنبية كالأسوشييتد برس، بحجة أنهم علموا بموعد
عملية طوفان الأقصى كما تزعم تل أبيب، ولم يُبلغوا الحكومة الإسرائيلية، بمعنى أن
الصحافي ينبغي أن يعمل جاسوسا لها.
إن المرحلة الإعلامية الجديدة بحاجة إلى خريطة
إعلامية جديدة، وعلى الإعلاميين أن يتنادوا بعيدا عن سطوة الحكومات وعاديات المال
والسلطة من أجل أن يختطوا خريطة طريق لأنفسهم في ظل هذه التداعيات الضخمة والهائلة
التي ستلقي بظلالها على مستقبل الإعلام بشكل عام، وستلقي بظلالها على العلاقة التي
ستنشأ بعد هذه الحروب بين المرسل والمستقبل.
وعلى الرغم من الدور الكبير الذي لعبته وسائل الإعلام
من الحشد والمناصرة وتعبئة الرأي العام العربي والغربي إزاء الحرب في غزة، إلاّ أن
تداعيات المصداقية والثقة ستظل تدفع الثمن، وبالتالي على الإعلاميين ووسائل
الإعلام الجادة البحث في أسباب وتداعيات ذلك كله، وسبل حله ومواجهته، وإلّا فإن
المهنة في خطر، وعملية بحث المشاهد والمتابع عن بديل لهذا الإعلام ستتواصل.. وقد
يجدها، وقد وجدها بالفعل؛ إن كان من خلال منصات وسائل الإعلام الجديدة على الرغم
من سلبياتها عليه وعلى المشاهد والمستخدم، بالإضافة إلى اقتحام الذكاء الاصطناعي
الساحة، مما سيؤثر كله على مستقبل المهنة، ومستقبل العلاقة بين المرسل والمستقبل،
فتتأثر عملية صناعة الرأي العام برمتها.
لقد تحدث كثير من الخبراء بأن الرأي العام في حرب غزة
لعب دورا كبيرا في وقف هذه الحرب، وهذا الرأي العام جاء نتيجة عملية تراكمية
لوسائل الإعلام والنخب، وهو أمر ينبغي تعظيمه وعدم تجاهله أو تحاشيه والتقليل منه،
فتجاهله يعني تجاهل أدواته، وخسارة الأدوات ستلقي بتداعيات كبيرة اجتماعية
واقتصادية وسياسية على المرسل بشكل عام، وهو أمر معني به بشكل أساسي وفعلي
واستراتيجي؛ الإعلامي والمؤسسات الإعلامية الجادة التي كانت على الدوام أمينة
وحارسة لهذه المهنة المهمة في صناعة الرأي العام، وتشكيل وصياغة القناعات
والتوجهات.