لعل أبرز الإيجابيات التي خلفتها عملية
"طوفان الأقصى"، التاريخية وغير المسبوقة، هي أنها كشفت بوضوح
لا غبار عليه، أنّ قوة إسرائيل، من قوة الولايات المتحدة الأمريكية، وأنّ هذه
الدولة "العظمى" في العالم، لا تدعم إسرائيل وتساندها فحسب، إنما هي
حديقتها الخلفية، وسبب وجودها واستمرارها أصلا..
لقد كشف الرئيس الأمريكي الديمقراطي، جو بايدن،
عن مستوى من الدعم والإسناد والحضانة "لإسرائيل"، لم يتوقعه أحد من
المراقبين، لا في الداخل الأمريكي، ولا في عواصم أوروبية، ولا حتى في العواصم
العربية، الحليفة أو الصديقة للولايات المتحدة، أو تلك المطبّعة مع الكيان
الصهيوني، إلى درجة أنّ بعض المعلقين السياسيين الأمريكان، وصفوا رئيس بلادهم،
بكونه "ناطقا رسميا باسم الحكومة الإسرائيلية" المتطرفة، بسبب مواقفه
وتصريحاته المنحازة كليا لتلّ أبيب، والتي قدمت خطابا أمريكيا منتجا للعنف ضدّ
الفلسطينيين، ومشرعا له، في الوقت الذي بدأت تخرج مظاهرات في الولايات المتحدة،
منددة بالموقف الأمريكي، ومطالبة بإنهاء
الحرب على غزّة.
وهكذا من منطق تبرير القصف الوحشي والبربري
لإسرائيل على قطاع
غزة، إلى إرسال وزيري الخارجية والدفاع إلى تل أبيب، بتلك
الصورة والتصريحات المهينة للغلاف السياسي والدبلوماسي لأكبر دولة في العالم،
وصولا عند تصريحات بايدن (الإثنين) لإحدى القنوات الأمريكية، بأنّ الهجوم البري "ضرورة لقطع
دابر السرطان في غزة"، في إشارة إلى حركة حماس، وفصائل المقاومة الفلسطينية
الباسلة.. بين هذا وذاك، كانت واشنطن، الدافع للعنف، والمحرض عليه، والحامي للكيان
الإسرائيلي المحتلّ.
كانت الولايات المتحدة، على مرّ السبعين
عاما الماضية أو تزيد، منذ "النكبة"، تراوح بين دعم إسرائيل
"المحسوب"، وقدر من "الحياد"، يمكّنها من فتحة في مستوى
الجدار الدبلوماسي، بحثا عن حلول ومخارج لتداعيات العنف الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين،
لكنها هذه المرة، أطلقت العنان للآلة الحربية الأمريكية، المهداة لإسرائيل، لكي
تفتك بغزة، شعبا ومباني ومؤسسات، في سياق "عقاب جماعي"، كما وصفته الصين
ومصر وإيران وتركيا..
المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست عملية خاضعة للصدفة..
بل الأدهى من ذلك، أنّ دبلوماسيتها (بلينكن
ووزير الدفاع)، كانت في مفارقة تامة مع خطاب بايدن.. ففي الوقت الذي كان الرجل
يدعو إلى القضاء على "حماس"، كان بلينكن يجري المفاوضات لإيجاد منفذ
للمساعدات الإنسانية لبضع ساعات، وهو ما رفضه نتنياهو، رئيس الحكومة الصهيونية،
لأنّ القناة الإسرائيلية الأساسية، هي البيت الأبيض تحديدا، أما البقية، فهم جزء
من الديكور الأمريكي الباهت، لا غير..
نعم، المقاومة لا تواجه إسرائيل بصورة
منفردة، إنما تواجه آلة عسكرية أمريكية، عتادا وعدّة وإمكانات لوجستية، وضباطا
مدربين على أشدّ وأعنف أنواع القتال على الصعيد الدولي.. إنّ المقاومة في حرب
(وليست مجرد هجمات، أو منطق الفعل وردّ الفعل، كما يحاول أن يصوّر لنا البعض)، مع
أعتى الجيوش في العالم، وأكثرها تدريبا وتمكنا وقدرات..
وهنا يجدر بنا التوقف عند جملة من الأمور
اللافتة، أهمها:
1 ـ إن، المقاومة الفلسطينية، أدخلت ضمن سردية الصراع مع
إسرائيل، فكرة "الصدمة"، التي باتت جزءا من التكتيك العسكري، وليست
عملية خاضعة للصدفة..
ليست الصدمة مجرد مباغتة ـ كما يحاول البعض
أن يفسّر ـ بقدر ما هي خيار تكتيكي عسكري، لم يفاجئ العدو فحسب، بقدر ما هزّ
كيانه، وكشف عن عوراته الأمنية المختلفة، التي سرعان ما سقطت مثل أوراق الخريف،
على غرار القبة الحديدية، وقوة الاستخبارات، والجيش الذي لا يقهر، والبلد الآمن
بفعل الأسوار والمستوطنات والأسيجة الإسمنتية والحديدية، والمراقبة العسكرية
والأمنية، برا وجوّا وبحرا..
لذلك، ردّت إسرائيل الفعل، كما لو كانت قد
طعنت في "شرفها العسكري"، ومصدر قوتها المزعومة، ومضمون وجودها..
2 ـ إنّ المقاومة، لم تراهن على حاضنة فعلية على المستوى
الإقليمي والدولي، إذا استثنينا إيران وجنوب لبنان وسوريا، وروسيا المتأرجحة بين
مصالحها وحساباتها وعلاقاتها وتحالفاتها.. لذلك عندما خططت المقاومة ونفّذت، لم
تجد مسندا حقيقيا، عدا التحركات الشعبية المتضامنة، والحراك الإيراني اللافت في
المنطقة، وبعض من الضمير العالمي، الإعلامي والحقوقي والسياسي، الذي ما يزال
خافتا، وربما شهد عنفوانه خلال الأيام والأسابيع القادمة.
صحيح أنّ المقاومة، كشفت وهن البيت
الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام
العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في
ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيض، حيث بات ـ كما كان سابقا ـ
جزءا من المنظومة الأمريكية، بل وأحد أدواتها الفاعلة، في منع نهوض الشعوب العربية
والإسلامية، وتحقيق تطلعاتها في الحرية والسيادة والديمقراطية، وفكّ الارتباط مع
الأجندات اللوبية الدولية، وامتداداتها في المنطقة.
3 ـ أن ثمّة ضعفا دوليا ملحوظا، ما يفسّر عجز القوى
الدولية (الصين ــ روسيا ــ ألمانيا ــ الهند ــ اليابان..)، عن جرّ الولايات
المتحدة، إلى مربع "التشاركية الدولية"، وإيقاف غطرستها، وانفرادها
بالقرار الدولي، بلا أي منازع..
إننا ـ وبرغم كل الخطابات الزائفة التي
تتحدث عن "بديل عالمي"، وعن قوة عالمية ناشئة لمنافسة أمريكا، وعن تشكل
تجمعات سياسية واقتصادية (البريكس..)، وعن نهاية العهد الأمريكي المتفرّد بالشأن،
الدولي ـ ما زلنا نعيش في إطار القطبية الواحدة، في ظل فراغ دولي كبير ورهيب، جعل
من واشنطن، الخصم والحكم في آن معا، سيما في ضوء ترهل المنظمة الأممية (منظمة
الأمم المتحدة)، التي تحولت إلى غرفة أمريكية خلفية، باعتبارها غير قادرة على أن
تكون قوة التوازن والعقلانية والهدوء المطلوب، زمن العواصف، وذلك بسبب ميثاقها
وقوانينها وتقاليدها و"الماكينة" التي تكبّلها، وهو ما توقف عنده أمينها
العام الأسبق، المصري، بطرس غالي، الذي حاول القيام بإصلاحات نوعية صلب المنظمة،
لكنّ "فيتو" الولايات المتحدة، منعه من ذلك..
هل تؤدي الحرب على غزة، إلى إعادة النظر في
المنظومة الدولية برمتها، وفي دور الولايات المتحدة الأمريكية، وفي مسألة التوازن
على الصعيد العالمي؟
المقاومة، كشفت وهن البيت الإسرائيلي "الأوهن من بيت العنكبوت"، ولكنّها كشفت كذلك، ضعف النظام العربي الرسمي، الذي استعاد "سيستام" ما قبل ثورات الربيع العربي، في ردّة باتجاه ردّ الفعل القديم الخانع للبيت الأبيض
وهل تنجح غزة المنكوبة والمدمّرة، بفعل
القصف والحرب والحصار، في أن تكون الدافع والمحرّك لتحالفات جديدة، ومراجعات
ضرورية للسياسات العالمية، أم ستكون البداية لغطرسة أمريكية طويلة المدى، بحسب
منطق الغالب، الذي حدثنا عنه ابن خلدون، والذي لا يفتأ يجعل المغلوب تحت إمرته
وسطوته بكل دم بارد ممكن؟
لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية
والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة،
أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال،
ولغة الغالب والمغلوب..
ولعلّ الحرب اليوم على غزّة، بما تكشفه من
إخلالات في العلاقات والتحالفات والسياسات والأفكار والحقوق والحريات، تحملنا إلى
أفق جديد، يفترض أن يشرع التفكير فيه بالعمق اللازم، من قبل جميع المكونات في
العالم، حتى لا يولد "نظام دولي جديد"، نسخة شبيهة بما نحن فيه الآن،
وهذا يحتاج إلى الكثير من الجهود والأفكار والمقاربات والتنازلات، خصوصا مع
"غول" تغيّر المناخ"، واستتباعاته الاقتصادية والديمغرافية والجيو
سياسية، التي لا يمكن مواجهتها، إلا بتضامن دولي، واستراتيجيات مشتركة..
فهل يرتفع المثقفون وصناع القرار في العالم
العربي والإسلامي أولا، وعلى الصعيد الدولي ثانيا، إلى مستوى هذه التحديات
الرئيسية، أم يتم إنهاء الحرب ـ ولو بعد حين ـ ويجري الحفاظ على ذات القوى
والتوازنات والعلاقات والتحالفات ؟؟
كل المؤشرات تفيد بأنّ الماء يتحرك في
الوادي، وإن بشكل بطيء..
ـ فالمقاومة، ليست مجرد آلية عسكرية نضالية، إنما هي فكرة
ومشروع تحرير، وديناميكية نضالية، من الصعب إنهاؤها، أو وأدها أو حتى تعطيلها..
ـ إنّ حديث إيران عن فتح الجبهات، سيدفع الآلة العسكرية
الأمريكية والإسرائيلية، إلى التردد ألف مرة، قبل المغامرة بالتوغل البرّي، بما
يجعل فرص الدبلوماسية، أنشط وأوسع، وتغيير بوصلة الصراع من السياق العسكري إلى
الجانب السياسي، أمرا ضروريا وعاجلا..
لقد استنفذت المنظومة العلائقية الدولية والإقليمية، الخارجة من أشلاء الحرب العالمية الثانية، ولاحقا من الحرب الباردة، أغراضها، وباتت اليوم تحتاج إلى رؤية جديدة، بعيدا عن منطق الاستعمار والاحتلال، ولغة الغالب والمغلوب..
ـ إنّ تصريحات الرئيس الأمريكي، بايدن، برفضه القطعي فكرة
احتلال غزة، يشير إلى خشيته من تأليب الخصوم الدوليين، على غرار الصين وروسيا،
وانتقاداتهما التي ستطال المواقف الأمريكية، من قضيتي "تايوان" وأوكرانيا، بما يجعل صورته
مهتزة في نظر الرأي العام العالمي، وهو الذي أقام سردية خطابه الانتخابي الذي جاء
به إلى البيت الأبيض، على قاعدة حقوق الإنسان، وحق الشعوب في تقرير مصيرها،
والمساواة بين الشعوب والدول..
ـ فكرة إنشاء "الدولة الفلسطينية"، التي نشط
الحديث عنها، كخيار ضروري لإنهاء العنف والحرب، وهو ما جاء على لسان القيادة
السعودية والتركية والقطرية، وما أعلنه الرئيس الأمريكي في مقابلته التلفزيونية
الاثنين المنقضي.. وهذا التخبط الأمريكي الرسمي، بين التحريض على دحر حماس، ومنع
التوغل البري، والحديث عن "الدولة الفلسطينية"، يشير إلى أنّ مخاض الوضع
الراهن، لن ينتهي وفقا للرغبات الإسرائيلية، حيث تتعالى في قلب تل أبيب، أصوات تقر
بفشل إسرائيل خلال السبعين عاما الماضية، وتطالب بوضع جديد، بل ثمّة من يتحدث عن نهاية
إسرائيل، في قلب هذه الحرب..
وعندما يدبّ اليأس في شعب ونخب، أقاما
وجودهم على مغالطات تاريخية، وادعاءات دينية فضفاضة، فذاك مؤشر على بداية النهاية
لوضع ومرحلة، لا يمكن أن يستمر أكثر مما هو عليه الآن..
*كاتب وإعلامي من تونس