الكتاب: "فلسفة الحرب، في ماهية الحرب ومسوغاتها عند الفلاسفة اليونان
والمسلمين"
الكاتب: رفقة رعد خليل
دار النشر: ابن النديم للنشر والتوزيع المحمدية- المملكة المغربية
ودار الروافد الثقافية ناشرون، بيروت، لبنان، 2015
عدد الصفحات: 165
ـ 1 ـ
ما الحرب، في كلّ عصورها وضمن كلّ أغراضها، غير تصيّد الأعداء
وتصفيتهم جسديّا؟ ولا يجابه القتل إلاّ بالقتل. وعليه لا يمكن أن تعدّ، في صورتها
الكليّة، غير عمل مناهض للحياة متحالف مع الموت. فمن تعريفاتها السّاخرة أنّها
خلاف بين قادة يُحسم بإرسال محاربين يقتلون رعايا بعضهم البعض. أما تعريفها الجادّ
فيرد في القاموس العملي للقانون الإنساني. ف"ـهي، وفقه، ظاهرة العنف الجماعي
المنظم التي تؤثر إما على العلاقات بين مجتمعين أو أكثر أو تؤثر على علاقات القوة
داخل المجتمع. وتخضع الحرب لقانون النزاع المسلح، الذي يدعى أيضًا القانون الدولي
الإنساني".
وللحدّ من هذا الوجه القبيح للحرب حاول القانون الدولي أن يسيّجها
بجملة من الضوابط الأخلاقية والقانونية كتجريم التعذيب واغتصاب النساء والتعدي على
الممتلكات الشخصية وكتجريم الاعتداء على جثث الموتى وإخضاع الأشخاص للمعاملات
المهينة أو اتخاذهم دروعا بشرية من قبل الجيوش أو توظيفهم قسرا للقيام بأعمال
تساعدهم في عملياتهم ضد أعدائهم أو كتجنيد الأطفال والتهجير القسري والإبادة
الجماعية.
ـ 2 ـ
ولعلّ وصف ميخائيل نعيمة الذي جربّها
لما جُنّد ضمن جيش الولايات المتحدة في 1918 أن يتضمّن أفضل تشخيص لها. يقول
"لو أن فظاعة الحرب توقفت عند تشويه الأجساد وإزهاق الأرواح وتخريب العامر من
الأرض وتهديم الآهل من المدن والقرى، لكانت بعض الفظاعة وبعض البشاعة، ولكنها
تشوِّه الروح في الجسد قبل أن تشوه الجسد. وتُزهق الحق في الروح قبل أن تُزهق
الروح. وتُخرب العامر من العقول قبل أن تُخرب العامر من الأرض. وتهدم الضمائر
الآهلة بالفضيلة قبل أن تهدم المدن والقرى الآهلة بالسكان. إنها الكره الصاخب وقد
أنزل المحبة الصامتة عن عرشها فلبس تاجها وحمل صولجانها" (طنسي زكّا: قراءة
سياسية لأدب أعلام المهجر، دار الفارابي ط1 بيروت 2015 ص 401).
كان الفيلسوف يجعل من التاريخ الإسلامي أصلا اعتباريا يوجّه فكره. فأصّل فكرة حتمية الحرب ضمن مفهوم الجهاد. وجعله آلية تحقّق المجتمع الفاضل الذي يتشكل من أمم مختلفة ويحكمه دستور عادل. ولكنه كان على بيّنة من أنّ العدل لا يتحقّق في الواقع دون وجود قائد مؤهل فطريا ونفسيا للجهاد والحرب.
الحرب إذن موطن للكلّ المفارقات. فرغم وجهها القبيح تكون ضرورية
أحيانا من أجل شيء من الجمال يُراد له أن ينتزع منّا قسرا. ورغم تحالفها مع الموت
الدّمار تكون ضرورية أحيانا من أجل الأمل في الحياة. ورغم كونها هزيمة للإنسانية
لا تنتصر قيم الخير أحيانا إلا بها. ولهذه التناقضات جميعا مثلت شاغلا مستمرا
للبشرية جمعاء. ومن البديهي أن تتحول إلى موضوع فلسفي يبحث في أصولها وأسبابها
العميقة. فطرحت أسئلة من قبل: هل أصيلة هي في النفس البشرية أم عارضة شأنها شأن
السلم؟ وخاض الفلاسفة في مأتى شرعيتها، إن كانت من فعل الحرب ذاته أم من مواقف
الفرق المتحاربة فيما بينها، أم لدواع منطقية أو دينية؟ فمثلت هذه الخلفيات جميعا
الحوافز التي حثت الباحثة رفقة رعد خليل على دراسة الحرب ضمن إطار العقل الفلسفي
العملي السياسي والتي غفل عنها الدرس الأكاديمي فيما تذكر. وخصّت بالبحث الفلسفتين
اليونانية والعربية الإسلامية.
ـ 3 ـ
حاولت الباحثة القيام بتأصيل فلسفي لمفهوم الحرب، فقدرت انطلاقا من
مرجعياتها المختلفة أنها نزاع مسلح بين طرفين أو أكثر يستهدف فيها الطرف المحارب
حماية حقوقه أو فرض مصالحه أو وفرض واقع جديد على الأرض عبر مواجهة الطرف الآخر
عسكريا. فتخوض غمارها الجيوش النظامية لحسم النزاعات التي تخفق في حلّها المساعي
الدبلوماسية أو إيجاد تسوية سلمية لها. ويمكن للحرب أن تتمثّل في قتال بين كيانات
سياسية. أما الإستراتيجيون فيحدّدونها بكونها استمرارا للسياسة بوسائل أخرى. وعليه
فهي أداة من أدوات السياسية وشكل من أشكال استمرارها وبكونها ممارسة فريدة يمكن من
خلالها تحقيق مقومات الإنسان الأخلاقية والفكرية . إنها "خفقان منتظم للعنف
تتفاوت سرعته في إرضاء توتراته ونزف قواه". ومن التدابير والإجراءات العسكرية
التهديد بالعنف والتدمير أولا ثم الانخراط فيها بمستويات مختلفة.
ثم تعرض الباحثة خوض الفلاسفة في طبيعتها وشرعيتها، عند بحثهم في أسبابها وتقديرهم لشروطها، فتبحث في بعدها
السياسي أو صلتها بالواجب الديني والمجتمعي والطبيعي وتصنيفها إلى حروب شرعية أو
غير شرعية، بحسب ما تطمح له الحرب من غابات وما تعتمد من الوسائل.
ـ 4 ـ
مثل منجز الفلاسفة اليونانيين مدخلها لمقاربة الحرب فلسفيا. وقسّمت
مباحثها إلى ما قبل سقراط وما بعده. فوجدت في فلسفة هيراقليطس بحثا في الحرب على
اعتبارها جوهرا سياسيا وميتافيزيقيا في الوقت نفسه. فقد مثلت عنده قانوناً إلهياً
إنسانياً مصدره العقل الكلي. وعليه كان العالم عنده يستمدّ عدالته من تحقّقها؛
لأنه قائم بذاته عليها. ولكن لا يمكن لها أن تخاض دون سبب يحكمها، ولا بدّ لها من
موانع تحول دون وجودها اللاشرعي. أما أنباذوقليس فكانت تحركه، وفق الباحثة، نزعة
صوفية تسلّم بأن الكون مسيّر من قبل نظام أزلي محكوم بالآلهة. وهذا ما أفضى به إلى
القول إن الشياطين هي المسبب الرئيسي لأي نزاع. ومن هذا المنطلق انتهى إلى أنّ
الحرب تستمدّ شرعيتها لديه وفق قانوني الاتفاق والضرورة، كونهما قانونيين إلهيين
أزليين.
وتختزل مرحلة ما بعد سقراط في فكر أفلاطون وأرسطو خاصّة. فالحرب
أصيلة متجوهرة متمثلة في الجزء الغضبي من النفس الإنسانية وفق أفلاطون. والقسوة
جزء من الطبيعة الإنسانية، يمكن لها أن تتحول إلى شجاعة أو خشونة أو جبن أو تهور،
بحسب الظروف الملائمة لكل صفة من هذه الصفات. وتظهر هذه الأصالة في نظام الجند
الذين يحرسون الدولة ويدافعون عنها، فضلاً عمّا يتمتع به رئيس المدينة الفاضلة من
نظام عسكري صارم بوصفه قائداً للدولة وفيلسوفاً في آن واحد. ومع ذلك عمل أفلاطون
على تسييجها بشروط. فربط قيامها أو فرض السلم بدلا من خوضها بطبيعة التربية
والإعداد للإنسان في الدولة المثالية التي يدعو إليها.
ويجد أرسطو أن الحرب تكون مشروعة عند اندلاعها لضرورة حماية الدولة
وحفظ أمنها الداخلي أو الخارجي، وهذا ما جعل وجود الأسلحة وكفايتها ضرورة لا يمكن
للدولة الاستغناء عنهما. ويؤكد حقيقتين رئيسيتين، تقول الأولى بجوهرية الحرب في
ثنايا النفس الإنسانية، ولاسيما في جزئها الغضبي الذي يتسم بالعدوانية أحيانا. أما
الثانية فهي على صلة بالبعد الجغرافي وموقع الإقليم والمناخ وأثرهما في سلوك البشر
من حيث اكتسابهما للشجاعة أو الخوف، أو حبهم للحرية أو قبولهم بالاستبداد والذل.
وهذا لا يعني أن تتجرد الحرب من عدالتها، فغايتها في النهاية هي السلام.
ـ 5 ـ
حمل المبحث الأخير من الكتاب عنوان
طبيعة الحرب وشرعيتها عند الفلاسفة المسلمين. فاختارت نماذج معينة من فلاسفة
المشرق العربي والمغرب الإسلامي، اعتماداً على ما برز لديهم وفي نصوصهم من طبيعة
الحرب وشرعيتها بشكل لافت. فعرض مؤلفها من فلاسفة المشارقة منجز الفارابي وابن
سينا خاصّة. فقد وجدت في الفارابي المنظر والفيلسوف والسياسي بامتياز ، ووجدت في
تيمة الحرب مبحثا ملازما لأغلب مؤلفاته السياسية والفلسفية.
شرع ابن سينا الحرب الهجومية في حالة الحاجة؛ لامتلاك العبيد واستعبادهم، ومنطلقه في ذلك وجود عبيد بالطبع أو بالفطرة، ضعيفي العقول، يسكنون الأقاليم غير الشريفة.
وعامّة كان الفيلسوف يجعل من التاريخ الإسلامي أصلا اعتباريا يوجّه
فكره. فأصّل فكرة حتمية الحرب ضمن مفهوم الجهاد. وجعله آلية تحقّق المجتمع الفاضل
الذي يتشكل من أمم مختلفة ويحكمه دستور
عادل. ولكنه كان على بيّنة من أنّ العدل لا يتحقّق في الواقع دون وجود قائد مؤهل
فطريا ونفسيا للجهاد والحرب. فقد لا تستجيب بعض المجتمعات لكلمته إلا بالإكراه
تماما مثل بعض الأفراد البوهيميين. وقد تكون مجتمعات أخرى ذات طبائع عدوانية بحكم
بيئتها الجغرافية والمناخية التي تؤثر في الطبيعة الإنسانية. وقسمها إلى عادلة
وأخرى جائرة. وحاول أن يحد من مخاطرها ويمنع الاندفاع إليها بطريقة عشوائية. ومن
الحروب العادلة تلك التي تخاض ضد ذوي الطبع البوهيمي من سكّان المدن المتوحّشة.
فيجب إخضاع هؤلاء بالقوة. فيستعبدون وينتفع منهم أو يقتلون.
وما يثير استغراب الباحثة مفارقة استعصت على فهمها في نسق تفكير
الرّجل. فهو يقول بصعوبة اجتماع الشرور كلّها في إنسان واحد حتّى يتحول إلى متوحش
يباح قتله. ويطلب في مواطن أخرى إخراج كل إنسان مُعد بالطبع نحو الشر من المدينة
دون قتله. وبالمقابل فهو يشرّع قتل سكان المدن المتوحشة ممن كانت لديهم نزعات
شريرة كما هو الحال عند بعض سكّان المدينة الفاضلة. وتتساءل: "لماذا لم يسع
إلى إصلاح التوحش الإنسي إذا كان الإنسان نفسه يمتلك استعداداً طبيعياً نحو
الخير"؟
ـ 6 ـ
أما ابن سينا، ففضلاً عن كونه
فيلسوفاً، فقد كان يمارس السلطة السياسية في المقام الأول وتولى رئاسة الوزراء.
فاجتمع في كتاباته التي تناولت الحرب النظريُّ مع العملي التطبيقي. وشغل موضوعها
مكانة خاصّة في فلسفته. فقد أدرك أهميتها وأهمية التنظيم العسكري ضمن مدينته
الفاضلة التي يتحدد الاجتماع فيها بدلالة الشريعة الإسلامية في كل ما يخص أنظمتها
التشريعية. ويعتمد على ضرورة نشر النظام الإلهي والشريعة السماوية التي غايتها
تحقيق نظام فاضل عادل وضرورة تطبيق هذا النظام على كل فئة بشرية سواء أكانت حاملة
للسيرة الجميلة أم من أهل الضلال حسب تعبيره، فإذا استوجبت الأمور بإهلاك أهل
الغلال تم ذلك، أو بالخروج على الخليفة حينما لا يستوفي الشروط اللازمة لتسلمه
زمام الحكم كخليفة للمسلمين، وهنا يأخذ فعل الثورة عدالته. ولم يخل فكره من تأثير
للفلسفة الإغريقية. فقد عد المؤثر المناخي والجغرافي من جهة والقوة الغضبية في
الإنسان من العناصر المولدة للعدوانية من
جهة أخرى من مولّداتها. ووسم بعض الأقاليم دون الأقاليم الأخرى بصفات الوحشية أو
الشجاعة والجلد.
شرع ابن سينا الحرب الهجومية في حالة الحاجة؛ لامتلاك العبيد واستعبادهم،
ومنطلقه في ذلك وجود عبيد بالطبع أو بالفطرة، ضعيفي العقول، يسكنون الأقاليم غير
الشريفة. وتجد رفقة رعد خليل عسرا في فهم نسق تفكير ابن سينا بدوره. فبحثه في
الفطرة ينتهي بها إلى التسليم بعدم وجود من هو عاقل بالطبع أو غير عاقل
بالطبع،" فيمكن للخُلق غير الشريف الفاسد أن يصبو إلى التمدن إذا ما عولج ضمن
الأقاليم الشريفة، أو ضمن مجتمع متمدن متحضّر، لذلك طرحنا سؤالنا حول الأسباب
السابقة في استعباد فئات معينة من البشر، فهل يكفي كونهم من سكان الأقاليم [غير]
الشريفة لاستعبادهم؟"
واختتمت أثرها بدراسة آراء فلاسفة المغرب الإسلامي. فاختارت نماذج
تناولت طبيعة الحرب شأن ابن رشد وابن خلدون. وانتهت دون إفاضة في الدّرس، إلى أنّ
الحرب كانت وسيلة، وليست بغاية، وأن الحالة السياسية الاعتيادية هي حالة السلم.
ومع ذلك عُدّت أداة ضرورية تخدم الدولة، في الوسط السياسي والمجتمعي لا يمكن
الاستغناء عنها.
ـ 7 ـ
مثلت مختلف المواقف من الحرب نسقا متوافقا مع المنظومات الفلسفية
لأصحابها بشكل عام. ومع ذلك فقد اشتركت في قواسم معينة، منها كونها وسيلة واستثناء
يقيّد بشروط، لأن الأصل هو السلم. ولكنها استثناء ضروري وقار تحتاجه الدولة لتضمن
استقرارها وتحفظ مصالحها. ورغم تأثر الفلسفة الإسلامية بخلفياتها الدينية فإنها لم
تخل من صدى للفلسفة الإغريقية، ما تعلّق منها بأثر العوامل الطبيعية في سلوك البشر
أو ما تعلّق بتصوّرهم للمدينة الفاضلة المناقضة للمدينة المتوحّشة، خاصّة.