ليس من المعهود أن يحتل كتاب في البحوث الاقتصادية أو
السياسية قائمة أعلى المبيعات، أو أن يحتفي به النقد الإعلامي في كبريات الصحف، ويخصص له عديد التحليلات والتعليقات المشفوعة بالحوارات المعمقة مع الباحث. بل إن
المعتاد، منذ أن أصبح للجرائد الجادة ملحقات أسبوعية مختصة في متابعة أحدث
الإصدارات، أن يكون الرواج الجماهيري والاهتمام النقدي من نصيب القصص والروايات؛ فقد بدأت النيويورك تايمز، على سبيل المثال، في نشر ملحق للكتب عام 1896، وكان
احتفالها بالذكرى الـ125 لهذا الحدث الصحفي ـ الثقافي في صيف 2021 مناسبة لاطلاع
الجمهور على أرشيف يختزن كنوزا من العناوين والعروض والنقود في مختلف مجالات
النشر، ولكن كان بارزا بقوة أن الأدب الروائي هو الملك المتوّج أسبوعا بعد أسبوع،
لا ينازعه التاج أحيانا إلا أدب الرحلات أو الروايات البوليسية.
والحق، أن رواج الروايات والقصص ونصوص التخييل عموما، هو
الأمر الثقافي الواقع في جميع الحضارات المعاصرة. ولكن يحدث في بعض الحالات أن
يروج الكتاب غير الروائي رواجا شعبيا كبيرا، فقد كان هذا شأن كتب مثل أصل الأنواع
لداروين، وبيان الحزب الشيوعي لماركس وإنجلز، والديمقراطية في أمريكا لتوكفيل،
والأخلاقية البروتستانتية وروح الرأسمالية لماكس فيبر، وتأويل الأحلام لفرويد،
والوجودية مذهب إنساني لسارتر، والجنس الثاني لسيمون ديبوفوار، ومدارات حزينة
لكلود لفي ـ ستروس (ولو أن هذا كتاب يستعصي على التصنيف، ويفسر بعض النقاد رواجه
بأن معظم القراء يظنونه، خطأ، من أدب الرحلات)، والمعذبون في الأرض لفرانز فانون،
وأيخمان في القدس لحنا آرندت، والمراقبة والعقاب لفوكو، إلخ. أما في البلاد
العربية، فلعل العناوين التي تصدرت قائمة أكثر الكتب غير الروائية رواجا هي عبقريات
العقاد (من عبقرية محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين حتى عبقرية خالد بن
الوليد)، وبعض مؤلفات سيد قطب مثل معالم في الطريق، ومعركة الإسلام والرأسمالية،
وبعض مؤلفات مالك بن نبي مثل الظاهرة القرآنية، ومشكلات الحضارة. هذا في الماضي
البعيد نسبيا.
أما في الماضي القريب، فإن الكتاب البحثي الذي راج أشد
الرواج، عام 1993، هو كتاب "بؤس العالم"، الذي أعده مجموعة من الباحثين بإشراف عالم
الاجتماع الراحل بيار بورديو. ولا مراء أن أبرز الكتب البحثية رواجا في السنوات
الأخيرة هو "رأس المال في القرن الحادي والعشرين"، الذي أصدره باحث الاقتصاد
الفرنسي توما بيكتي عام 2013، ودرس فيه آليات توزيع الدخل والثروة في البلدان
الغربية منذ القرن الثامن عشر. وقد ترجم الكتاب، البالغ نحو ألف صفحة، إلى حوالي
أربعين لغة، وبيع منه في السنوات الأربع الأولى ما لا يقل عن مليونين ونصف مليون
نسخة.
وها هو بيكتي قد طلع هذا الشهر، مع زميلته باحثة
الاقتصاد جوليا كاجي، بكتاب بحثي بعنوان "تاريخ الصراع السياسي"، حظي هو الآخر
باهتمام نقدي واسع، ويتوقع له أن ينال رواجا جماهيريا، رغم أن طوله 850 صفحة. وما
يدرسه الباحثان في الكتاب هو أنماط الاقتراع الشعبي في جميع الانتخابات التي
شهدتها
فرنسا طيلة أكثر من قرنين، من عام 1793 حتى 2022، في جميع القرى والبلدات
الفرنسية التي يبلغ عددها 36 ألفا. وما يهمنا من هذه الدراسة، هو أنها تتصدى
للإشكالية التي تطرقنا لها في الأسبوعين الماضيين: صعود اليمين المتطرف مقابل
استفحال أزمة اليسار وهزائمه الانتخابية. ويتوصل الباحثان إلى خمس نتائج مهمة:
أولا، رغم كثرة التحولات الموهمة بالعكس، فإن الصراع السياسي ظل، ولا يزال، يدور
حول اللا ـ مساواة الاجتماعية واتساع هوة التفاوت الطبقي، أي حول المسألة
الاجتماعية، وليس مسائل
الهوية أو الثقافة أو الهجرة. ثانيا، الشرائح الشعبية
مشتتة بين أحزاب اليسار والخضر، وأحزاب اليمين المتطرف (التي تستقطب معظم سكان
الأرياف). ثالثا، مقولة أن الطبقة العاملة هجرت اليسار نهائيا، هي من اختراعات
وسائل الإعلام اليمينية، والدليل أن البحث أثبت أن الدوائر الانتخابية الفقيرة في
فرنسا بقيت تصوت لأحزاب اليسار على مدى قرنين، ولاتزال. رابعا، نقطة ضعف اليسار
حتى الآن، هي عدم التجذر الانتخابي في أوساط سكان الأرياف والمناطق الزراعية.
أخيرا، صعود اليمين المتطرف في الاستطلاعات والانتخابات (في إيطاليا، والمجر،
وفنلندا، واليونان…) ليس قضاء مبرما، بل يمكن لليسار أن يعود إلى الحكم في الأعوام
القادمة، بشرط أن ينجح في اجتذاب ناخبي الأرياف.
القدس العربي