يُعتبر
جيمس لونجلي واحدا من أهم المثقفين
الذي أثروا المجال المعرفي بصفة عامة في ما يخص تيار "ما بعد المنقذ الأبيض Post White Saviorism"، وهو التيار
المضاد لسلسلة من الأفلام والكتب التي كتبت من أجل تلميع صورة الجندي الأمريكي والسياسة
الأمريكية في حروبها العديدة وراء المحيط كأنهم حمامات السلام الذين يمدون يد العون
لغيرهم من الشعوب المقهورة، لذلك، كان لونجلي المخرج السينمائي الأمريكي واحدًا من
الذين سئموا تلك الصورة عن بلادهم وملوها وقرروا أن يقدموا سردية "الآخر"
وهل رأى من الأبيض أي إنقاذ؟
حينما تتفقد منتجه السينمائي الذي قدمه
على مدار العشرين سنة الماضية وترشح عنه لجائزة الأوسكار مرتين، ستجد أربعة أفلام تدور
عن ثلاثة مواضيع: "غزة، وأفغانستان، والعراق" فقد كان هذا المخرج ملتزمًا
ومهمومًا في
سينماه ببحث أثر الغزو الأمريكي المباشر وغير المباشر لتلك البلاد وتمزيق
تلك الشعوب.
كان أول فيلم شاهدته للونجلي هو فيلم
"العراق في شظايا Iraq
in Fragments"
والذي عُرض عام 2006 بعد غزو العراق بثلاثة سنوات، وما لفت نظري تلك الصورة العبقرية
التي قرر بها المُخرج أن يقدم صورة العراق المتشظية فقسم الفيلم إلى ثلاثة أجزاء، كل
جُزء يُروى من عين طفل ولذلك سبب أيضًا.
أطفال وسيدات
في أفلامه ينطلق السرد من عين الأطفال والنساء،
يرى "لونجلي" أن تلك الطريقة هي الأفضل في إخبار أمريكي بعيدًا عن موقع الدمار
الذي تتسبب فيه بلاده أن هناك في تلك البلاد أشخاصًا مثلنا، ليس فقط رجال يحملون السلاح
ويحاولون قتل الجندي الأمريكي دفاعًا عن بلادهم، ولكن هناك أيضًا أطفال ونساء مثلنا،
بنفس العجز ونفس البراءة.
بينما كانت المشاعر في أعقاب الحادي عشر
من سبتمبر 2001 تتجه نحو إدانة العرب والمسلمين قاطبة في غياب تام للتعقل والهدوء،
كان لونجلي مؤمنًا بمبدئه أن "معارضة الدولة هي عمل وطني" لذلك كان مستمرًا
في التحرك داخل قطاع غزة ليصور فيلمه الأول الذي يحمل اسم القطاع، وحين توجه لونجلي
إلى القطاع كان بسبب شعوره بأن هناك شيئًا ما خطأ بينما كان يشاهد تغطية انتفاضة الأقصى
2000 فكيف كل تلك الصور لجثث الأطفال ولازال الشعب الأمريكي يتعاطف مع وجهة النظر الصهيونية؟
لذلك قرر لونجلي أن يحمل كاميرته ويذهب بذاته ليستقصي الحقيقة.
في فيلم "قطاع غزة Gaza Strip" يواجه لونجلي التغطية الإعلامية بتغطية إعلامية
مماثلة، قرر أن يُغيب فيها صوت الراوي على الأحداث مستخدمًا تقنيات السينما الواقعية،
لذلك كان غياب التعليق الصوتي والمقابلات الحوارية عاملًا أساسيًا في منح صورة الحياة
اليومية تحت الإكراه والقمع في القطاع من خلال تتبع "محمد حجازي" الطفل بائع
الصحف ذو الـ 13 ربيعًا الذي ترك الدراسة بعد الصف الثاني ويتسلى في وقت فراغه بإلقاء
الحجارة على الجنود الإسرائيليين، وهو الذي فقد أباه وأفضل أصدقائه برصاص إسرائيلي.
وترصد كاميرا لونجلي من خلال عيون
"محمد" الحياة اليومية لفلسطيني في القطاع يرى بعينه جرافات الاحتلال وهي
تهدم البيوت والنخيل، ويرى المرضى المتكدسين في غرفة الطوارئ، ويعطي لونجلي المساحة
لمحمد للكلام عن شعوره بالوطن وبالحلم وبالله.
ولم يكن "محمد" هو بطل لونجلي
الوحيد من الأطفال، فحتى آخر فيلم له "خُلقت الملائكة من نور Angels Are Made Of Light " عن أطفال
أفغانستان، دائمًا ما يرصد لونجلي الحياة تحت القصف وويلات الحروب من خلال الأطفال،
وأحيانًا النساء كما في فيلم "أم ساري Sari's Mother" الذي يرصد معاناة أم عراقية بعد الحرب في
محاولة توفير رعاية صحية لابنها البالغ عشرة سنوات.
في فيلم "العراق في شظايا" يتنازع
البطولة ثلاثة أطفال، أولهما طفل تسحقه مدينة بغداد المُحتلة والتي تحاوطها الدبابات
الأمريكية من كل جهة، لا يعرف أن يواكب بين حاجته للتفوق الدراسي وبين العمل في أحد
ورش السيارات ليكسب قوت يومه ويساعد أسرته، وكيف يرى الطفل حوله هذا العالم الذي تبدل
في ليلة ولا يستطيع أن يفهمه، ثم ينتقل بعدسته إلى طفل آخر في الجنوب الشيعي حيث يرصد
من خلال عينيه سيطرة "مقتدى الصدر" وجيش مهديه على المنطقة وكيف يعيش الناس
تحت ذلك الحكم الديني المتشدد، وفي النهاية يذهب لونجلي بالكاميرا بعيدًا نحو إقليم
"كردستان" الذي يوشك على تحديد مصيره من خلال عملية انتخابية فاسدة، ونرى
كيف أن بلدًا واحدًا بثلاثة أنظمة وثلاثة شعوب برعاية "المنقذ الأبيض" الأمريكي،
ويترك لونجلي لأبطاله بالتعليق حيث يقول أحد الآباء الأكراد في المشهد الختامي للفيلم:
"ستكون الانتخابات القادمة أفضل من 100 رصاصة و200 قنبلة، ولكن ستُمزق البلد أشلاء،
لن يعيش الكرد والشيعة والسنة معًا مرة أخرى، لن نعيش عراقيين مرة أخرى!".
وفي فيلمه الأخير "خُلقت الملائكة
من نور" يُركز لونجلي على الأطفال أيضًا في أفغانستان في العام 2018، في حالة
السلام الهش والزائف التي صنعته الولايات المتحدة في البلاد بتسليمها إلى ساسة فاسدين،
ورغم ذلك، يهتم لونجلي برصد "أطفال" لا زالت قادرة على الحلم والأمل من خلال
التعليم، وأهالي لازالت تستمر في الحياة لأنهم إذا فقدوا الأمل فيها ماتوا، وذلك يقتلهم
أكثر من الرصاص، ويظهر في أحد المشاهد الطفل سهراب قائلًا: "أريد أن أكتب قصيدة
عن "ما هي الحياة في تلك البلاد؟" تلك القبائل الممزقة يجب أن تتوحد، أريد
حتمًا أن أكتب كتابًا عن هذا يومًا ما".
اظهار أخبار متعلقة
ماذا ينتفع الإنسان لو كسب العالم؟
لقد تماهى لونجلي مع عشقه للحقيقة ونصرته
لضحايا الغزو الأمريكي في كل مكان، ففي أثناء تصويره فيلم "العراق في شظايا"
رفضت الكثير من شركات الإنتاج إعطاءه التمويل اللازم لاستكمال الفيلم بعدما علمت أن
الفيلم لا يركز ولو على قصة جندي أمريكي واحد، لذلك قرر أن يستكمل إنتاج الفيلم من
جيبه الخاص.
تلك هي المشكلة التي يواجهها بصفة عامة
والتي جعلت من إنتاجه شحيحًا إلى هذا الحد، فعملية تكميم الأفواه وثقافة الإلغاء التي
تمارسها جماعات الضغط اليمينية واللوبي الصهيوني فيما يخص شيوع السردية الصهيونية عن
القضية الفلسطينية في الرأي العام الأمريكي، تنجح دائمًا في إفشال كل مسعى للرجل للحصول
على منتج يقوم بعمل أفلامه، حتى أنها لا تعرض في صالات عرض كبيرة، وتتهرب قنوات العرض
الكبرى مثل "HBO" و"PBS" من عرضها.
لكن لونجلي كان يمر بأفلامه من جامعة إلى
أخرى في الولايات المتحدة مقيمًا عروضًا خاصة من أجل عرضها على الطلاب وطرح نقاش معهم
حول القضية الفلسطينية ومشروعية الحرب في أفغانستان والعراق، وقد نجح بالفعل في تغيير
وجهات نظر الكثيرين قبل أن يرحل عن الولايات المتحدة ومناخها الخانق والقاتل للحقيقة،
واختار أن يعيش في أفغانستان وأن يصور تلك الأرض وشعبها ويملأ حساب الانستغرام الخاص
به صورًا من أفغانستان.
في أحد حواراته الصحفية يقول لونجلي أن
سينماه تتركز بالأساس على ألا يصنع فيلم مثل فيلم "أرماديللو Armadillo" الدانماركي، الفيلم الذي يدعي أنه عن أفغانستان
وهو ليس عن أفغانستان، بل عن قتل الجنود الدانماركيين للأفغان، فأفغانستان وشعبها في
الفيلم لا يمتلك حق الكلام. وتلك هي الأفلام التي يفضلها الجمهور الأمريكي، الأفلام
التي تركز على "إظهارنا نحن في حالة تطرفنا". أما هو، فيختار أن تكون سينماه
مزعجة للمشاهد الأمريكي، وأن تريه ما لا يريد أن يراه، يريد لأفلامه أن تكون عن البُسطاء
وكيف سحقتهم الحروب، لذلك لا يظهر سياسي واحد في أحد أفلام لونجلي، فالساسة في نظره
هم أول من يركب الطائرة عند حدوث الكارثة للهرب، أما البسطاء فيسلخ جلودهم فسفور النابالم.
للونجلي حلم عطلته كثيرًا جائحة كورونا
وتسببت في أزمة مالية كادت أن تُدمر ذلك الحلم، فالرجل يريد أن ينتقل بكاميرته إلى
"بورما" ليرصد بها مأساة مسلمي الروهينجا.