اعتدنا أن نحتفي بالغائبين والموتى، فكم من مبدع ومجدد ومؤثر لم يلق الاحتفاء ولا التقدير من معاصريه. في هذا المقال قراءة سريعة لمنتج
الشاعر وديع سعادة الأدبي.
ولد الشاعر اللبناني وديع سعادة سنة 1948 في قرية شبطين اللبنانية، ويعتبر من أبرز رواد قصيدة النثر. عمل في الصحافة في بيروت ولندن وباريس، وهاجر إلى أستراليا سنة 1988 وما يزال فيها حتى الآن. عام 1973 خط وديع سعادة أول دواوينه بيده ووزعه تحت عنوان "ليس للمساء أخوة"، وقد ظهرت شخصية وديع الشاعر المجدد في هذا الديوان وغيره من دواوين وصولًا لديوانه الأخير "ريش في الريح" 2014.
يهندس وديع العالم على طريقته ويعيد بناءه وفق إحساسه ورؤيته، يعيد تشكيل الكائنات ويغير المهام الموكلة لها حتى تناسب شعوره؛ شعور الشاعر الذي يرفض الثابت والعادي. يقلب العالم رأسًا على عقب ليجعل الهامش مركزًا والمركز هامشًا، ويحتفي بالمنشقين والعابرين والمنتحرين. يخلق وديع بكلماته عالمًا آخر ساحرًا يغوي القارئ ويحرضه على إعادة نظرته لنفسه وللعالم.
"أن يكتب الشاعر الجديد قصيدة، لا يعني أنه يمارس نوعًا من الكتابة، وإنما يعني أنه يحيل العالم إلى
شعر: يخلق له، فيما يتمثل صورته القديمة، صورة جديدة. فالقصيدة حدث أو مجيء. والشعر تأسيس، باللغة والرؤيا: تأسيس عالم واتجاه لا عهد لنا بهما، من قبل. لهذا كان الشعر تخطيًا يدفع إلى التخطي. وهو، إذن، طاقة لا تغير الحياة وحسب، وإنما تزيد، إلى ذلك، في نموها وغناها وفي دفعها إلى الأمام وإلى فوق. (أدونيس: مقدمة الشعر العربي.ص102)
أما وديع فيجيب عن قدرة الشعر على التغيير بقوله: "لا أعتقد أن الشِعر يمكنه أن يُغير شيئًا في هذا العالم، لكن أهم ما فيه هو وهم التغيير. فبغير هذا الوهم يصير العالم أكثر بؤسًا وألمًا... القصيدة وعدٌ بعالمٍ أفضل لكنّ تحقيق هذا الوعد هو وهم، لكنه وهمٌ جميل. ولحظة ولادة القصيدة هي لحظة خلاصٍ ذاتي لحظويّ. وبعد ذلك لا يبقى سوى التشبث بهذا الوهم."
تذوب الفروق بين الذاتي والعام في
قصائد سعادة فحين يتحدث عن نفسه يتحدث عن الآخر والعكس صحيح "لا حكايةَ يا صديقي ولا اسم، فالإنسان هو كل الحكايات وكل الأسماء، وفي الوقت ذاته لا اسم له ولا حكاية. وعلى الشِعرِ، نعم، أن يوسّع المسافات. لكن مهما فعل سيبقى الإنسان في غربة."
قصائد سعادة نشيد للانفصال والرحيل والانشقاق وتمجيد للفراغ والخفة التي لا تكون إلا بالغياب. "العابرون سريعًا جميلون. لا يتركون ثقلَ ظلّ. ربما غبارًا قليلاً، سرعان ما يختفي ..الأكثر جمالاً بيننا، المتخلّي عن حضوره. التارك فسحةً نظيفة بشغور مقعده. جمالاً في الهواء بغياب صوته. صفاءً في التراب بمساحته غير المزروعة. الأكثر جمالاً بيننا: الغائب"
الشعرية في قصيدة النثر:
لقصيدة النثر إيقاعها الخاص، وموسيقاها الداخلية. ولكن لها إشكاليات كثيرة تبدأ من المصطلح، كما ينكر كثيرون وجود الإيقاع جملة وتفصيلًا فيها. مثل أي شكل جديد واجهت قصيدة النثر في البدايات هجومًا عنيفًا لكنها نجحت، والدليل بقاؤها وبروز العديد من الأسماء التي كتبت قصيدة النثر، وهذا يؤكد على أن الشعرية لا شأن لها بالشكل.
حين نقرأ تعريفات الشعر في كتب النقد القديمة نجدها تركز على الوزن في الشعر فتصفه بأنه كلام موزون مقفى يدل على معنى. ولكن أهذا هو الشعر؟! "إن تحديد الشعر بالوزن تحديد خارجي سطحي، قد يناقض الشعر؛ إنه تحديد للنظم لا للشعر. فليس كل كلام موزون شعرًا بالضرورة، وليس كل نثر خاليًا، بالضرورة، من الشعر". (أدونيس: زمن الشعر. ص16)
ربما كانت كلمة "شعر" في العصر القديم تعني جنسًا يتميز باستعمال النظم. ولكنها مع الوقت أخذت معنًى أوسع لتعني الإحساس الجمالي الخاص الناتج عن القصيدة. ثم استعملت الكلمة في كل موضوع من شأنه أن يثير هذا النوع من الإحساس الجمالي، ولم تعد الشعرية قيمة خاصة بالعمل الأدبي ذاته، ولكنها صفة نطلقها على قدرة ذلك العمل على المشاعر الجمالية، وإثارة الدهشة، وخلق الإحساس بالمفارقة، وإحداث الفجوة مسافة التوتر، والانحراف عن المألوف.
أما حول الإيقاع في قصيدة النثر فإنه قد يعتمد على البنية الصوتية للحروف كما في قصيدة الوزن، لكن ليس بتراتبية الخليل أو الأوزان العروضية، إنما من خلال مبادئ خاصة بها من أهمها مثلًا التكرار المقطعي في تراتبية صوتية معينة ضمن المقطع الشعري الواحد أو التكرار اللفظي لبعض الكلمات تلك التي يرغب الشاعر إعطاءها الأهمية في الإظهار وغيرها من الأساليب التي ربما قد يتبعها بعض شعراء الحداثة لاستحداث نوع من روحية غنائية جديدة وتمثل إيقاعية معينة وهي بحد ذاتها غير ضرورية لبناء قصيدة النثر وعليه فالإيقاع الظاهر لا يأخذ الأهمية هنا كما في الشعر العمودي أو قصيدة التفعيلة.
"في قصيدة النثر، إذن موسيقى لكنها ليست موسيقى الخضوع للإيقاعات القديمة. بل هي موسيقى الاستجابة لإيقاع تجاربنا وحياتنا الجديدة؛ وهو إيقاع يتجدد كل لحظة... إن الشعر بطبيعته، يرفض القيود الخارجية، يرفض القوالب الجاهزة والإيقاعات المفروضة من الخارج، وهو يتيح طواعية شكلية إلى أقصى حدود التنوع، بحيث إن القصيدة تخلق شكلها الذي تريده، كالنهر الذي يخلق مجراه." (أدونيس: مقدمة للشعر العربي. ص 116)
وهذا ينطبق على شعر سعادة الذي تنبض قصائده بموسيقى تمتزج بموسيقى الكون، فحين نقرأ قصائده نرى شجرًا يرقص وغيمًا يغني. يطوع وديع العالم فيرقص وفق إيقاع كلماته.
" وافرشْ شريط أغانٍ على الغصون، فلعلَّ الأشجار تغنّي.
رأيتُ شجراً يفتح فمه. رأيتُ أوراقاً تصفّق، وغصوناً تطلع من الرماد، وترقص... هناك، في البعيد، حيث كان يستلقي قلبي.
أريد قدماً لهذا القلب. هذا القلب يريد أن يرقص مع الشجر.
صُبَّ الترابَ في شرايينك واخترعْ قدماً. صُبَّ تراباً واخترعْ شجراً ورقصاً.
صُبَّ تراباً. فإنْ ترمَّد الشجر، قد تبزغ نبتة من ترابك. قد تبزغ شجرة.
وإنْ خلوتَ من شريط غناء، قد يأتي عصفور يحطُّ عليها، ويغنّي".
المراجع:
-أدونيس: زمن الشعر، دار العودة، بيروت، ط2، 1978
-أدونيس: مقدمة للشعر العربي، دار العودة، بيروت، ط3، 1979
وديع سعادة: الأعمال الشعرية، دار أبابيل، 2016
مبادرة أثر الفراشة: الشاعر وديع سعادة: التابو هو الصنم الأول الذي يجب تحطيمه في الشِعر بالنسبة إليه. شطرنج للإعلام)
(الكيلاني، فالح: الإيقاع الشعري في قصيدة النثر) https://www.shomosnews.com/الإيقاع-الشعري-في-قصيدة-النثر/