مقدمة:
قبل أكثر من عقد من الزمن، وتحديدا
عندما بدأت بوادر الأزمة بين الغرب وموسكو، واشتداد الخلاف بين
روسيا والناتو على
توسيع الدوائر الأمنية لكل طرف على حدة، وبعد أن وصل الصراع بين واشنطن وبيكين
أوجه، دخل النظام العالمي منعطفا حاسما، بعثر كل الأوراق، وقلل من درجة الثقة في
القواعد التي تقوم عليها الشرعية الدولية، وأضحى التدخل العسكري آلية من آليات
توسيع النفوذ أو تعزيزه، وذلك بعيدا عن القانون الدولي، وبتجاوز لمنظمة الأمم
المتحدة.
كثير من المثقفين تابعوا هذه التطورات،
وكتبوا عن ظواهر سياسية مختلفة، منها عودة اليمين المتطرف في أوربا كعنوان عن
محاولة استدراك العلاقة داخل الجسم الأوربي بين روسيا ودول أوربا، وبعضهم كتب عن
ظاهرة أفول الديمقراطية، لاسيما في الدول التي عرفتها ضمن موجات الانتقال الثالثة،
أو الدول التي تترقب تحقيقها في الموجة الرابعة، وبعضهم كتب في الآونة الأخيرة عن
بوادر تشكل نظام دولي جديد، وبدأ يتوقع معالمه، ويستشرف القواعد الجديدة التي يمكن
أن تنتظمه، في حين تحدث البعض الآخر عن
بقاء النظام الدولي القائم، ومحاولات إحداث تعديلات جزئية على بنائه وقواعده،
بمحاولة تفهم تطلعات بعض القوى العظمى، والتسامح معها، وبلورة صيغ جديدة لتدبير
التناقضات والخلافات بين واشنطن وموسكو من جهة، وبين واشنطن وبكين من جهة أخرى.
والحقيقة أن نقاشا جديا حول هذه التحولات تفترض بالأساس، إعادة
التفكير في أربع لحظات أساسية من لحظات التاريخ الإنساني، لحظة ما قبل الحرب
العالمية الأولى ولحظة وما نتج عنها، أي لحظة ما بعدها، ولحظة ما قبل الحرب
العالمية الثانية، ولحطة ما ترتب عنها، أي لحظة ما بعدها. فهذه اللحظات الأربع،
الممتدة في الزمن، وما التبس بها من تعدد السياسات أو استقرارها وتحول بعض
مؤشراتها، تعين في فهم السيرورات المتعلقة بهدم نظام دولي وإقامة آخر، أو تعين في
بحث التعثرات التي تجعل من استقرار قواعد نظام دولي أمرا محفوفا بقدر عال من المخاطر.
الكثيرون، يتوقفون فقط عند لحظة ما بعد
الحرب، ويدرسون بشكل مستفيض الحرب الباردة، والأدوات التي تم إدارة الصراع بها،
والخيارات التي تم انتهاجها لتسوية بعض النزاعات، أو لمنعها من الوصول إلى حالة
حرب، أو لضبط إيقاع التوتر في إطار السقف المنخفض. والحال، أن هذه اللحظة، تعبر في
أحسن أحوالها عن التوصل إلى قواعد نظام عالمي هش، يتم معالجة أعطابه مع الزمن، من
خلال تسقيف مستوى الصراع، ومنع تحوله إلى الحالة ذاتها التي سبقت تشكل قواعد
النظام، بينما المشكلة أساسا تتمثل في وضعية ما قبل التواطؤ على القواعد، أو الوضعية
التي يتم فيها تقييم هذه القواعد، من زاوية خدمتها لمحور ما، أو من زاوية انتهاكها
لقاعدة ما من قواعد النظام الدولي.
نظام عالمي جديد أم تعديل جزئي في
القديم أو حالة اللانظام؟
لا نريد بهذا النقاش العودة إلى لحظات
تشكل ميثاق عصبة الأمم، ولا حيثيات تشكل ميثاق الأمم المتحدة، لكن يهمنا بشكل
أساسي، أن نقرأ في الظرفيتين استجابة لبروز قوى دولية، أرادت أن تضمن قدرا من
الهيمنة على العالم، وفي الوقت ذاته، فرض واقع تعددها اقتسام مناطق النفوذ، بحيث
لم تظهر نقاط التوتر إلا في التخوم التي تشتبك فيه المصالح المتعارضة، واتجهت هذه
الدول إلى استصحاب آليات فض النزاعات أو تسويتها أو إدارتها ضمن سقوف متعددة، كان
القصد منها ابتداء وانتهاء تجنب حالة الحرب.
في الحالة الراهنة، الذي حصل هو أن هذه
التخوم التي كانت تظهر في السابق في بعض المناطق، ويتم تدبيرها بأدوات مختلفة، تضخمت
بفعل المفهوم الذي بدأ يأخذه الأمن الاستراتيجي لكل من الغرب والشرق، إذ أضحت
أوكرانيا تمثل منطقة الأمن الاستراتيجي بالنسبة للطرفين واشنطن وموسكو، وأضحت جميع
وسائل تدوير الأزمات وإدارتها عاجزة، بحكم أن القضية أضحت وجودية بالنسبة إلى
الغرب والشرق على حد سواء.
لا نريد التأريخ لبداية الأزمة،
والروايات المختلفة التي تساق بشأنها، لكن، ما ينبغي التأكيد عليه، أن الحرب
الروسية الأوكرانية، التي تعكس في الجوهر صراع الغرب والشرق على التأثير في
القواعد الحاكمة للنظام الدولي، أدخلت معها كل الرقع الجغرافية، وأثرت في كل
الاقتصاديات، وبعثرت
التوجهات السابقة التي كانت تتوقع بروز نمور صاعدة من شأنها
إعادة قدر من التوازن للنظام الدولي،
وأدخلت أوربا في أزمة غير مسبوقة، ستكون تأثيراتها حاسمة في كل المستويات، وستدفع
القارة الإفريقية إلى إنتاج أشكال مختلفة من التوترات الأمنية والعسكرية، بالشكل
الذي تعاد فيه صياغة خارطة النفوذ الدولي والإقليمي فيها.
الطرح المتفائل الذي بشر به عدد من
المراقبين والمحليين، أن الحرب الروسية الأوكرانية، ستنتهي في مدى قصير بمفاوضات
بين الطرفين، وأن التقدم الروسي في المعركة، هو الذي سيقصر من زمن الحرب، وأن
الخيارات مفتوحة لتسوية سلمية تضمن فيها موسكو مساحة توسع فيها جدار أمنها القومي،
وتضمن كييف الاحتفاظ ببقية المناطق التي تسيطر عليها اليوم، أي تنجو بجغرافيتها
القريبة من أوروبا، وتتنازل عن الجغرافية التي تتطلع روسيا من خلالها إلى ضمان
أمنها القومي من خلالها.
لكن السياسات التي تبنتها واشنطن ولندن
ومعها دول أوروبا، أبانت أن قضية أوكرانيا في المنظور الغربي ليست مهمة، وإنما
المهم في التقدير الاستراتيجي هو أمن أوروبا، حتى ولو اقتضى الأمر الدفع بسيناريو
إرث بولندا لجزء مهم من تركة أوكرانيا واحتلالها لغربها، أي أن السياسات الغربية،
تسير في اتجاه إعاقة التسوية بتقديم تنازلات مؤلمة لموسكو تضمن بها روسيا أمنها
وتحافظ بها أوكرانيا على بقية أراضيها، وتدفع نحو واقع تقدم عسكري روسي، يبرر تدخل
بولندا في غرب أوكرانيا، لخلق معادلة جديدة للأمن القومي الأوروبي، وإنهاء السردية
الروسية التي تتحدث عن ضرورة استحضار البعد التاريخي الذي ترى بموجبه أن أوكرانيا
كانت جزءا من الاتحاد الروسي، ولم تكن دولة مستقلة البتة، وأن روسيا لا تفعل أكثر
من الانتصار لحقها التاريخي.
هذا السيناريو الذي تتعزز مؤشراته بشكل
قوي، يقلل من جدية الأطروحة التي تقول بأن نظاما دوليا جديدا بإزاء التشكل، وأن
الأحداث المؤلمة التي تجري على الساحة الأوكرانية، تمثل النقطة المتمة للإرهاصات
التي بدأت منذ زمن بعيد.
البعض يعتقد أن مجموعة
"البريكس" والكم الهائل من الطلبات التي تقدمت بها عدد من الدول
للانضمام لهذا التكتل الجديد، تعني حدوث تحول كبير في النظام الدولي، ومعالم تشكل
نظام دولي جديد، لكن في المقابل، لا ينبغي أن نغفل أن حدود الناتو قد توسعت، وبلغت
ولأول مرة إلى مشارف الحدود الروسية بانضمام فيلندا ثم السويد، أي أن العالم لا
يفعل أكثر من تعميق التوتر بين معسكرين، الأول بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية،
والثاني برؤوس مختلفة، تحاول روسيا أن تمثل صوته السياسي.
ولذلك، فالتوصيف الدقيق لمختلف
المؤشرات، سواء تلك التي تعتمد للبرهنة على أن نظاما عالميا جديدا آخذا في التشكل،
أو تلك التي تعتمد للاستدلال على الحاجة إلى إحداث تعديل جزئي مهم في قواعد النظام
الدولي، أو تلك التي تعتمد للتأسيس لأطروحة عالم فوضى من غير نظام أو قواعد آخذ في
التشكل وفرض نفسه، التوصيف الدقيق لهذه المؤشرات، يقول بأن العالم يشهد اليوم عجز
القواعد الدولية ومحدوديتها، ويلاحظ كل يوم حالات تجاوزها من قبل الدول التي يفترض
أنها مؤتمنة على تطبيق القانون الدولي وحماية مقومات الشرعية الدولية.
بالأمس القريب، عاش العالم حالات
الانفلات من هذه القواعد، وأعطت عدد من الدول نفسها شرعية التدخل العسكري خارج
حدودها دون حاجة لشرعية دولية أو إذن من مجلس الأمن، فقد تصرفت واشنطن في العراق
وأفغانستان وليبيا وسوريا بانتهاك للقانون الدولي، وكذلك تصرفت فرنسا نفسها في
مالي، وموسكو إذ قررت العملية الخاصة، وتدخلت عسكريا في أوكرانيا، لم تفعل أكثر
مما فعلته واشنطن وباريس، أي أن القوى العظمى، شرعت لنفسها استباحة القواعد
الدولية، بتقدير خاص لمصالحها، ولم تنتظر
رأي مجلس الأمن، ولا موافقة المجتمع
الدولي.
الأقرب إلى الاستشراف الصحيح، أن يوصف
ما يجري على أساس أنه توسيع لدائرة الفوضى والخروج عن النظام والقواعد، وهو
المسار، الذي تنبئنا التجربة التاريخية أنه يمكن أن يتجه في سيناريوهين متناقضين:
الأول، وهو بروز الاتجاهات الفردية في توجيه السياسة، والثاني، الحاجة إلى العودة
إلى قواعد النظام عند الشعور بالتهديد.
من النازية والفاشية إلى أفول
الديمقراطية
مؤسف أن كل ما قرأناه عن النازية، يحيل
إلى الأبعاد النفسية والذاتية للزعماء، والفلسفة التي يحملها القادة، حيث وقع
التركيز كثيرا على الطابع الاستبدادي والكلي والتدميري لهذه الفلسفات التي قادت
الحكم في ألمانيا ثم إيطاليا، لكن، من المهم أن نقرأ نشوء النازية في سياق
العلاقات الدولية، أي باعتبارها جوابا على وضعية صنعها الحلفاء في الحرب العالمية
الأولى، وأضحت ألمانيا تبعا لمعاهدة فرساي سنة 1919، فاقدة لكل شيء، فاقتطعت
أراضيها من قبل عدد من دول أوربا(فرنسا، بلجيكا، الدنمارك، وبولندا،
وتشيكوسلوفاكيا وليتوانيا...)، وفرضت حماية صناعية على بعض المناطق الاستراتيجية،
وتم حرمانها من قوتها العسكرية.
يمكن أن نلاحظ الخطوط العسكرية التي
اتجهت إليها النازية، وكيف كانت مؤطرة كلها بوحي من تأثيرات بنود معاهدة فرساي،
ويمكن أن نلاحظ بعدها كيف غير الغرب مقاربته بعد هزيمة هتلر، وتوجه إلى تبني مشروع
مارشال لبناء ألمانيا ديمقراطية حليفة للغرب، لأنه أيقن بأنه إذا حكم العالم
بقواعد تغيب فيها العدالة، تنشأ أوضاع نقيضة لا يريد الغرب أن يدفع ثمنا باهظا من
أجل مواجهتها.
ليس فحوى الخطاب، أن ما يجري في العالم
من تحولات في اتجاه انتهاك القواعد وبروز محدوديتها في تأطير العلاقات الدولية،
سيعيد كتابة التاريخ من جديد، وتنشأ على إثر ذلك فلسفات فردية جديدة، فالغرب،
يحاول دائما أن يرسم شخصية بوتين، كما ولو كان يمثل الوجه الثاني لهتلر الرجل
الاستبدادي، لكن في المقابل، لا تتوقف روسيا عن الاقتراب من العالم، والتبشير
بنموذجها الخاص في الديمقراطية، وتصوير الغرب، باعتباره الداعم الاستراتيجي
للنازية الجديدة التي يمثلها قادة أوكرانيا.
من الملاحظ اليوم، أن الغرب أضحى في مواجهة شخصيات كاريزمية، يسعى بكل الطرق لإقناعهم بالانضمام إلى حلفه، ولو بتحقيق تقاطعات مصلحية كبيرة، يدرك الغرب أنه كان إلى زمن قريب يمانع أشد الممانعة في تقديمها.
لا تهمنا هذه التصنيفات والتصنيفات
المضادة، فقد أظهرت التطورات، مؤشرين كبيرين: الأول، توسع هوامش السيادة لدى الدول
التي كانت معدودة في تصنيفات الغرب باعتبارها استبدادية أو شبه استبدادية، وأضحت
هذه الدول لا تعير اهتماما للضغط الأمريكي والأوربي الذي يوظف ورقة الديمقراطية
وحقوق الإنسان، فالرئيس المصري، يناور ضد الأمريكان، بالاقتراب من موسكو
وإيران، ولم يعد يدخل في الاعتبار ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان، والرئيس التونسي
الذي تعيش بلاده أزمة اقتصادية خانقة، يدخل في مسلسل استئصال لمعارضيه، دون أن
يعني ذلك شيئا بالنسبة إلى الغرب، فالضغط الأمريكي لم يشكل بالنسبة إليه رادعا،
يمنعه من المضي في سياسته، فقضية
الديمقراطية وحقوق الإنسان، لم يعد لهما ذات المفعول السابق، زمن ضيق هوامش
السيادة، والسعودية التي كانت إلى عهد قريب موضوع مقاطعة حقوقية دولية، أضحت
تستقطب مؤتمرا للتسوية بين موسكو وأوكرانيا، يجدب ثلاثين دولة، في مقدمتها الدول
التي كادت تدخل في أزمة دبلوماسية مع الرياض على خلفية حادثة خاشقجي.
المؤشر الثاني، وهو عودة الانقلابات
إلى إفريقيا، وما يعنيه ذلك، من تغير الخرائط والولاءات، فالنيجر التي كانت إلى
عهد ما حليفة لفرنسا، أضحت إلى جانب مالي وبوكينافاسو، في خصومة سياسية
واستراتيجية مع باريس، وأقرب ما تكون إلى الدائرة الروسية، فيما مجموعة الإيكواس
التي يحركها هاجس الحفاظ على الوضع الدستوري، تعيش انقسامات حادة على خلفية رفض
التدخل العسكري.
ملخص المؤشرين، أن الديمقراطية لم تعد
حلما لدول العالم، ليس لأن الفوضى في العالم وفرت للاستبداد فرصته التاريخية
للتوسع والتمدد، ولكن، لأن الغرب استعمل الديمقراطية كأداة للضغط على الدول،
ومنعها من التقدم، واستعملها أيضا لتحصين مصالحه المشروعة وغير المشروعة، وأنه في
اللحظة التي تتحول فيه الديمقراطية إلى آلية حقيقة لصناعة النخب، والتأسيس للحكم
الراشد، يتدخل الغرب لدعم كل القوى التي تجهض الديمقراطية.
من المفيد أن نقارن اليوم بين الموقف
الأمريكي والفرنسي بإزاء انقلاب النيجر، وكيف تصبح الديمقراطية بمعاني كثيرة، فهي عند
أمريكا عودة الوضع الدستوري، وهي عند فرنسا، عودة الرئيس محمد بازوم للحكم، فكل من
باريس وواشنطن، يريان الديمقراطية بمنظار أن الذي ينبغي أن يحكم، مجسدا بذلك عودة
الوضع الدستوري، ينبغي أن يكون خادما لمصالح أحد العاصمتين، ولو كانت لباريس قدرة
توقعية استباقية، لأمكن لها ترتيب سيناريو ما بعد بازوم، ولصار لها مفهوم
للديمقراطية قريب من مفهوم واشنطن
البراغماتي، أي أن يتعهد العسكر بتسليم
الحكم إلى المدنيين، أو بالأحرى إلى رجال باريس الجدد الذي سيعقبون رجال محمد
بازوم.
نهاية الديمقراطية
كنت كتبت سابقا مقالا عن نهاية
الديمقراطية، وذكرت فيه حججا مهمة، تتعلق بواقع الاقتصاد في الغرب، تحدثت فيه عن
الاتجاهات الثلاثة الكلية التي هيمنت على أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية، أي
الديمقراطية كنسق للحكم، يوفر طرقا سلمية لتدبير الصراع حول السلطة والثروة.
ومنظومة الحماية الاجتماعية، لضبط التوترات الاجتماعية الناتجة عن تحكم الأقلية في
ثروات الأغلبية. والدولة القومية، التي تصهر الإثنيات، وتؤسس لهوية مشتركة، تمنع
تغول الأكثرية، وتوفر مساحة لاندماج الأقليات، وذكرت أن واقع الندرة الاقتصادية
سيحفز نزعات السيادة والاستقلال في دول المستعمرات القديمة، بحيث ستفقد دول
أوروبا، الفائض المستجلب من مقدرات هذه الشعوب، وستفتقد بذلك القدرة على توظيفه في
تدبير تناقضاتها الداخلية وترصيص جبهتها الداخلية.
كل المؤشرات تؤكد بأن الغرب الذي يملك ترسانة عسكرية قوية، لا يمكنه أن يتفرج على تفكك نفوذه، وأنه سيبذل جهده من أجل استنزاف روسيا، وتفكيك تحالفاتها، وتتبع النفوذ الصيني، وخلق تحالفات دونه، لكن في اللحظة التي ترتبك فيها أجندته، فالخيار الوحيد الذي سينتهي إليه مشروعه، هو العودة إلى النفس الامبريالي،
اليوم أضيف حجة جديدة، وأقول بأن ذهاب
هذا الفائض أو تناقصه أو محدوديته، سيضعف الدول الغربية، وسيجعل قدرتها على الدفاع
عن الديمقراطية داخلها وتسكين إثنياتها وتعميم نموذجها في الخارج جد محدودة، بل سيجعل قدرتها على استعمال ورقة
الديمقراطية وحقوق الإنسان ضد الدول التي توسعت فيها هوامش السياسة غير ذي جدوى،
ومن ثمة، لن يبقى لشعار الانتقال إلى الديمقراطية أي معنى، ما دامت الدول لا تقبض
ثمنا على إجراءاتها التواؤمية، ولا تشعر كلفة الضغط عليها، وأن النموذج الذي
سيتقوى بديلا عن ذلك هو نموذج دولة الكاريزما، التي تحمل مشروعا وطنيا للإقلاع ولو
في حدوده الدنيا.
من الملاحظ اليوم، أن الغرب أضحى في
مواجهة شخصيات كاريزمية، يسعى بكل الطرق لإقناعهم بالانضمام إلى حلفه، ولو بتحقيق
تقاطعات مصلحية كبيرة، يدرك الغرب أنه كان إلى زمن قريب يمانع أشد الممانعة في
تقديمها.
لقد قوبلت مقالتي عن أفول الديمقراطية
بانتقادات شديدة من قبل نخب فكرية وسياسية لا تزال تؤمن بفعالية الديمقراطية وأنها
الطريق الوحيدة لمناهضة الاستبداد الداخلي، لكن، ما أغفله هؤلاء، أن أفكاري
الاسشترافية لا تدافع عن الاستبداد، بقدر ما تحلل تطور العلاقات الدولية،
والانعكاسات التي ستترتب عنها، وأن الديمقراطية في المدى القصير والمتوسط، لن يكون
لها أي مستقبل، ليس لأنها لا تمثل حلما للانعتاق والتحرر، ولكن لأن الغرب، لن يكون
بإمكانه دعم نموذجه، ولأنه أبان من خلال سلوكه عن توظيف قذر لورقة الديمقراطية
وحقوق الإنسان لتحقيق مصالحه، وتعطيل حركة الشعوب نحو الحرية والاستقلال والتنمية،
وأن الدول التي كانت تصنف في خانة الاستبداد أو شبه الاستبداد، لن ينجو من
الانقسام والفوضى منها، إلا من أسس لصيغة جديدة في الحكم، تلعب فيها الكاريزما
القيادية دورا وطنيا إصلاحيا، أو تمزج بطريقة ما بين النظام التنفيذي وبين النظام
الديمقراطية، وتهصر ذلك في سياق مشروع وطني إصلاحي تنموي بهدف إقليمي واعد.
هل يعود الاستعمار؟
كل المؤشرات تؤكد بأن الغرب الذي يملك
ترسانة عسكرية قوية، لا يمكنه أن يتفرج على تفكك نفوذه، وأنه سيبذل جهده من أجل
استنزاف روسيا، وتفكيك تحالفاتها، وتتبع النفوذ
الصيني، وخلق تحالفات دونه، لكن في
اللحظة التي ترتبك فيها أجندته، فالخيار الوحيد الذي سينتهي إليه مشروعه، هو
العودة إلى النفس الامبريالي، لتأمين مصالحه الاستراتيجية، فمن الممكن أن تبدأ
أولى حلقات عودة الاستعمار بشكل جزئي، ويمكن، أن تتحول بفعل اتساع رقعة الفوضى إلى
حالة تقاسم نفوذ.
البعض يشير إلى نوازع بولندا إلى
احتلال غرب أوكرانيا، ويعتبرون ذلك حلا بديلا عن فشل كييف في مواجهة العملية
الخاصة لموسكو، لكن في الجوهر، هذه العملية، وقبلها التدخل الروسي في أوكرانيا،
تمثل الحلقات الأولى لعودة الاستعمار، التي من المفترض ألا تتوقف عند هذا الحد في
حال استمرت حالة الفوضى وعجزت الدول العظمي على الاحتكام مجددا إلى القواعد.