العنصرية من أكثر المفاهيم والمصطلحات رواجا هذه الأيام على المنصات والمساحات الإعلامية كافة، فلا يتعلّق الأمر فقط بما يستجد من أحداث في هذا الإقليم أو ذاك كما هو الحال في تركيا، بل يشمل ظاهرة تنحو نحو التوسّع. لكن لا بد في البداية من التوضيح أن المقصود بالعرب هنا، هم المسلمون منهم تحديدا، سواء أكانوا مهاجرين أم لاجئين أم مقيمين في بلادهم.
في فرنسا وفي أوروبا عامة، يشتكي المهاجرون
العرب سواء من الخليج أو
من المشرق أو من المغرب الكبير من العنصرية تجاههم. في تركيا وإيران، يشتكي العرب
السنة والسوريون والعراقيون من التمييز ضدهم. في العراق، يشتكي السنّة من عنصرية
الشيعة والمسيحيون من عنصرية المسلمين، وفي لبنان يشتكي المسلم من عنصرية المسيحي.
الموضوع متشعّب معقّد في ظاهره، لكن في العمق تعود جذوره إلى ثلاثة
نقاط مركزية: ما هي أسباب العنصرية ضد العرب؟ وهل هم ضحايا أم جناة؟ وكيف يمكن
إيقاف النزيف؟
العنصرية
العنصرية نزعة متطرفة تصدر عن فرد أو عن جماعة ضد فرد أو جماعة أخرى، وتتشكل في هيئة مشاعر كراهية عدوانية وحذر وعنف وتمييز، وهي نزعة عرفتها وتعرفها كل
المجتمعات البشرية لأنها ملازمة للاجتماع البشري نفسه.
تطورت هذه النزعة من سياقها الفردي المحدود وتحولت إلى محرك تاريخي
من أجل الهيمنة والإخضاع والغزو والاحتلال، وصولا إلى حروب الإبادة التي تأسست في
منطلقها على هذه النزعة العنصرية، حين تعتقد مجموعة بشرية أنها أرقى من المجموعة
الأخرى؛ سواء في الدين أو الجنس أو العنصر أو الحضارة أو المدنية أو العلم. إن
إبادة الهنود الحمر واحتلال الهند وأفريقيا والدول العربية، إنما يتأسس في
منطلقاته الفكرية على نزعة التفوق والسعي إلى الهيمنة، وإخضاع الآخر الدونيّ أو
المتخلف أو الضعيف أو الهمجي أو الأسود أو العربي أو المسلم، حسب التصنيف
العنصري.
يكتفي كثير من العرب بالقول؛ إن الآخر يكرهنا فهو عنصريّ ضدنا لأنه عنصري بطبعه. وهو كلام لا يستقيم تحليليا. لكنهم لا يجيبون ولا يبحثون في الأسباب الحقيقية وراء ذلك، ولا يعترفون بوجود شرط أساسي يسمى "القابلية للعنصرية". نحن نملك أعلى منسوب لهذه القابلية؛ لأننا مجتمعات لم تجد طريقها إلى الخروج من نفق الاستبداد.
ارتبط تطبيق العنصرية بشرط القوة من جهة أولى؛ لأن القويّ فكريا أو
علميا أو حضاريا أو عسكريا، هو الساعي دوما إلى الهيمنة، أما بالنسبة للشكل الفردي
للعنصرية، فليس إلا إفرازا طبيعيا لتمثل الجماعة للتفوق؛ سواء عقائديا أو عرقيا أو
جهويا أو حتى جنسيا، أو حسب لون البشرة. ترتبط هذه النزعة المرَضية أيضا بالانتماء
الطبقي القائم على الثروة والمعيار المادي، الذي يحمل في طياته مكونات أخرى مُغذّية
مثل المكان أو النسل أو الوظيفة.
العرب ضحايا العنصرية
إذا سلمنا بهذا المعطى اليوم، فإن ذلك لا يُعفيه من النسبية، خاصة إذا
استحضرنا الفاعل التاريخي. العرب اليوم في قلب طور هو الأخطر من أطوار هزيمتهم
التاريخية، سواء أكانوا مسلمين أم مسيحيين أم ملاحدة أم لبراليين أم إسلاميين أم قوميين أم يساريين. هذه الملاحظة الأخيرة هي أحد مفاتيح الوعي التي تنكرها النخب
العربية، وهي لا تعلم أنها تَغرق وأنها تُغرق، وهي جميعا في المركب نفسه؛ حيث تتناحر هي
وتتقاتل.
يتعرّض العرب في تركيا وفرنسا والولايات المتحدة وإسرائيل وكندا
وأوروبا إلى ردود أفعال عنصرية يومية، سواء من جانب الأفراد أو من جانب المؤسسات
الرسمية أحيانا كثيرة. صحيح أيضا أن المسلمين العرب يعانون أكثر من غيرهم من
الممارسات العنصرية؛ بسبب السياق السياسي الذي اشتد منذ بداية الألفية مع الحرب على
الإرهاب، ثم الحرب الكونية على الإرهاب، كما سماها مجرم الحرب "جورج بوش الابن"، بعد مسرحية أبراج التجارة العالمية.
فشلت كل الروافع في صياغة نموذج قادر على تحويل الداخل العربي إلى مانع لتطوّر أسباب القابلية للعنصرية: فشلت العروبة والقومية والإسلامية والليبرالية والاشتراكية. فشلت الثورات والانتخابات والانقلابات، وفشلت كل مشاريع الإصلاح الممكنة.
هناك حالة عالمية من العنصرية ضد العرب والمسلمين بوجه خاص، وهي تتشكل
عبر واجهتين أمام الأولى، فتتمثل في صورة العربي وبلاد العرب في المخيال العالمي، وتظهر الثانية في الموقف من العربي المهاجر أو المقيم أو السائح في بلاد الغرب
خاصة، وهما وجهان في الحقيقة لصورة واحدة.
لكن، هل العرب هم فعلا ضحايا العنصرية؟ الجواب بكل بساطة، هو النفي.
لماذا؟ لأن العنصرية كما سبق في التعريف ظاهرة ملازمة للاجتماع البشري يكون
الضعيف عادة ضحيتها؛ فالشعوب العربية تعيش منذ قرون حالة من الوهن الحضاري
المتواصلة، حتى بعد ما سمي بالاستقلال يوم هيمنت دول الاستبداد المحكومة بأنظمة
الفساد.
في القابلية للعنصرية
إذا كانت أسباب العنصرية كثيرة ومتعددة، فإنها تحتاج توضيحا سريعا
بصرف النظر عن الأسباب التي ذكرناها سابقا؛ لأنها تختص بخاصية أساسية تتمثل في أن
أهم أسباب عنصرية الخارج ضد العرب، إنما ينبع من داخل المجتمعات العربية نفسها. هذه
الخاصية هي خاصية أساسية في تشخيص ارتفاع منسوب العنصرية ضدنا عبر العالم؛ لأن كل
من يتطرق إلى الظاهرة من الدارسين وخاصة في منابر الإعلام العربية، إنما يبقيها
مبهمة مسقطة كأنْ لا أصل لها.
يكتفي كثير من العرب بالقول؛ إن الآخر يكرهنا فهو عنصريّ ضدنا لأنه عنصري بطبعه. وهو كلام لا يستقيم تحليليا. لكنهم لا يجيبون ولا يبحثون في الأسباب الحقيقية وراء ذلك، ولا يعترفون بوجود شرط أساسي يسمى "القابلية للعنصرية". نحن نملك أعلى منسوب لهذه القابلية؛ لأننا مجتمعات لم تجد طريقها إلى الخروج من نفق الاستبداد.
فشلت كل الروافع في صياغة نموذج قادر على تحويل الداخل العربي إلى مانع لتطوّر أسباب القابلية للعنصرية: فشلت العروبة والقومية والإسلامية والليبرالية والاشتراكية. فشلت الثورات والانتخابات والانقلابات، وفشلت كل مشاريع الإصلاح الممكنة.
بناء عليه، فإن العرب شعوبا وجماعات ونخبا وأفرادا ليسوا ضحايا
لعنصرية الآخرين ضدهم، بل إن هذا الوضع هو نتيجة حتمية ومنطقية لتردي أحوالهم
الداخلية على كل المستويات. إن الشعوب والأمم تفرض احترام الآخر لها فرضا، عبر
انتصاراتها المعرفية والعلمية والتكنولوجيا والعسكرية، وعبر سيادة القانون داخلها، وعبر الانتقال السلمي للسلطة بين مؤسساتها. العنصرية إذن مثل الاحترام؛ إنها
استحقاق أولا وأخيرا.