الكتاب: "حرائق في ثقافتنا السياسية - مع مقدمة: تدقيق جنائي في
الثقافة السياسية اللبنانية والعربية"
الكاتب:جهاد الزين
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون، بيروت، الطبعة الأولى
تموز/ يوليو 2021
(342 صفحة من القطع الكبير).
من ثورات مطالبة بالديمقراطية إلى حروب أهلية
يتناول الكاتب السياسي جهاد الزين انتفاضات الربيع العربي، التي
انطلقت مع بداية عام 2011، لكنها تحولت إلى حروب أهلية غاية في العنف، لا سيما في
كل من سوريا واليمن وليبيا، وحتى في تونس، أخفقت الثورة في تأسيس نظام ديمقراطي
حقيقي، بعد مرور أكثر من عقد من الزمن، هو العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين.
إنه العقد الذي شهد بداية ونهاية ثورات ما سُمّي "الربيع العربي" وتبين
أنه عاصف من الحروب الأهلية وانهيارات الدول.
السؤال الأعمق الذي تطرحه هذه العشرية أو أحد الأسئلة الصعبة، حسب
وجهة نظر الكاتب جهاد الزين،هو هل ظهر أنَّ مِنْ أبرز أسباب سقوط الثورات العربية
إنما هو عدم جاهزية أو قابلية المجتمعات العربية على تحمل عبء وكلفة ووزن ثورة
سياسية ديمقراطية، فراحت هذه المجتمعات رغم وجود نخب ناضجة للتغيير تنفجر أو
تتصدّع تحت ثقل ما ظهر أنه لا طاقة لها على تحمّله وهو مشروع إرساء النظام الديمقراطي.
فصار البديل حربا أهلية هنا بين عنف النظام وعنف المجتمع الذي جرى استغلال انهياره
من قوى إقليمية ودولية لا بد أن بعضها نادم على ما آل إليه على سبيل المثال الوضع السوري
من خطر أصولي وتفكيكي على المنطقة وحتى على أوروبا. عنف هنا أو هناك أو هنالك أو
انشقاقات مناطقية ما دون وطنية.
يقول الكاتب السياسي جهاد
الزين، الرصد الصعب يتطلب الاعتراف أن جواب المجتمع السوري على نداء التغيير الذي
أطلقته بعض النخب الشبابية كان فرز عناصر ظلامية ومتخلفة وعنفية وهجوما للريف على
المدن بقبائله وعلاقاته أعطى للنظام السياسي فرصة نفاذ وتقديم آلته الأمنية كآلة
توحيدية في وجه التفككات العديدة ما قبل الدولة. أتكلم هنا عن الاعتبارات الداخلية
وحدها. فهل صدفة أن تتشظى ليبيا بهذا الشكل المريع المتواصل بعد انطلاق احتجاجات
ضد النظام ما كان لها أن تُسقط نظام القذافي المتوحش لولا التدخل الخارجي المباشر.
المجتمع العراقي دخل أتون التفكك فور الإسقاط الأمريكي القسري لنظام آخر هو نظام
صدام حسين.
علينا في هذه المراجعة، وهذا جزء من أي مراجعة شجاعة، أن نقف عند
الاستثناء المصري. ليست مسألة قوة عسكرية فقط أن يتمكن الجيش المصري من منع انهيار
الدولة وتفكك المجتمع عكس ما حصل في سوريا والعراق وليبيا واليمن. هناك قوة تماسك
في تقاليد الدولة والمجتمع في مصر تكمن في خلفية أي تفسير لهذا الاستثناء المصري
وثقافة سلمية في المجتمع تجعل دينامية التماسك هي الأقوى.
أظهرت التحولات بعد موت آخر خرافات "الربيع العربي"، وهو مات أصلا قبل ذلك، أن موجة التغيير إلى الوراء التي عادت تجتاح منطقتنا هي موجة على درجة عالية من الديناميكية والتجدد ولهذا فإن وجود هذه الفئات من صناع القرار والصحافيين والأكاديميين خارج الشرق الأوسط يتيح لهم فرصا من الاستفادة الفكرية السياسية والمعلوماتية يمكنهم توظيفها ودرسها بحرية كبيرة خلافا لغير المحظوظين الذين نستطيع تعريفهم بأنهم النخب المقيمة داخل هذه المنطقة.
في الحقيقة هناك استثناء تونسي لكن بالمعنى الذي يبدو معاكسا لوجهة
هذا التحليل وهي وجهة اعتبار المجتمعات العربية كما كشفت ثورات الربيع العربي غير
جاهزة لتلبية نداء نخبها للتغيير الديمقراطي. ففي تونس أظهرت الحركة الديمقراطية
نضجا واضحا لاسيما الشريحة النسائية في المجتمع والتيار العلماني اللذين تمكنا ليس
فقط في وضع حد لتقدم الحركة الأصولية ومنع هيمنتها السلفية بل أيضا في تحقيق
إنجازات تكريس تقاليد ديمقراطية وإنتاج قوانين طليعية في المساواة بين المرأة
والرجل رغم أن الامتحان الاقتصادي للتغيير التونسي لا زال غير محسوم والأخبار تقول
أنه مخيب.
يقف لبنان من هذه التحولات في نقطة معقدة. من جهة انطلقت ثورته
اللاطائفية الشبابية في النصف الثاني من العشرية المنصرمة وتبلورت بنجاح بارز في
تعرية أخلاقية للطبقة السياسية التي استنفدت الدولة ولكنها، أي الثورة الشبابية،
فشلت رغم ذلك في إحداث تغيير في النظام السياسي المفلس سياسيا وماليا. عنصر
التعقيد في الحالة اللبنانية، إضافة إلى عدم جهوزية القطاع الأوسع من المجتمع لحمل
ديمقراطية سياسية شفافة، هو التكوين الطائفي الذي يفرض أولويات غير ممكنة التجاوز
مثل مخاوف المسيحيين من الابتلاع والحساسية السنية الشيعية ذات المدى الإقليمي
ومخاوف الأقليات بشكل عام التي ترى في الصيغة اللبنانية طمأنة رغم كثافة الحروب
الباردة والساخنة التي تُسبيها هذه الصيغة بشكل شبه دائم.
الطبقات الوسطى العربية ودخول المنطقة في مرحلة موت الإصلاحات
ينتقد الكاتب السياسي جهاد الزين في كتابه "المهنة الآثمة"
ـ تجربته في الكتابة السياسية، ويشرح لنا التاريخ اللاديمقراطي للطبقات الوسطى
العربية التي مثلتها وحملت تطلعاتها الجيوش العربية التي وصلت إلى الحكم في العديد
من الدول العربية بينما الأحزاب العقائدية التي انتمت إليها شرائح هذه الطبقة
الوسطى كانت أحزابا ذات مشاريع غير ديمقراطية.
لقد بدت الأنظمة التي شهدتها دول مثل لبنان وسوريا والعراق ومصر
والسودان بين 1920 و1950 حتى 1958، قبل وبعد الاستقلال وبعضها عاش أطول أو أقل..
بدت وكأنها "ديمقراطية أعيان" فوقية. غير أن هذا التوصيف قد لا يكون
دقيقا إذا قيست عمليات المشاركة الشعبية كما الطبقة الوسطى في التجارب البرلمانية
لكل من سوريا والعراق ومصر والسودان في تلك الحقبة.
اليوم تغيرت ثقافة الطبقات الوسطى أو ما بقي منها من حيث ولادة جيل
مديني عموما هو الذي حمل أحلام التغيير السلمية في العشرية المنصرمة. لكن هذا
الجيل وصل متأخرا إذا جاز التعبير. فمائة عام من ولادة معظم دول المنطقة وسبعون
عاما من ولادة الصراع العربي الإسرائيلي مترافقة مع عقود من فشل خطط التنمية
الاقتصادية أوصلت هذه الدول إلى حالة إنهاك ذاتي وعاجز.
محظوظون من ناحية المادة البحثية هم الصحافيون ورجال الدولة
والأكاديميون الذين سيتعاملون مع منطقتنا، سَمها ما شئت، والمقيمون خارجها في
المرحلة المقبلة. فقد أظهرت التحولات بعد موت آخر خرافات "الربيع
العربي"، وهو مات أصلا قبل ذلك، أن موجة التغيير إلى الوراء التي عادت تجتاح
منطقتنا هي موجة على درجة عالية من الديناميكية والتجدد ولهذا فإن وجود هذه الفئات
من صناع القرار والصحافيين والأكاديميين خارج الشرق الأوسط يتيح لهم فرصا من
الاستفادة الفكرية السياسية والمعلوماتية يمكنهم توظيفها ودرسها بحرية كبيرة خلافا
لغير المحظوظين الذين نستطيع تعريفهم بأنهم النخب المقيمة داخل هذه المنطقة.
في مرحلة موت المجتمعات التي يدخلها التغيير الهائل في الشرق الأوسط،
الموت الذي يستثني المجتمع الإسرائيلي، والنخب الشرق أوسطية الهاربة إلى الغرب من أمريكا
حتى جنوب الباسيفيكي الأسترالي والنيوزيلاندي مرورا بأوروبا طبعا، تكشف مجتمعاتنا
المتداعية عن المزيد من عناصر الغنى الثقافي والاقتصادي والسياسي والبيئي في الهوة
العميقة المتواصلة التي تعيش فيها. إنها جاذبية الاحتضار في طورها الجديد الذي
يكشف عن عمقها التاريخي واتساعها إلى حد أنه يمكن اعتباره "ثورة
احتضارية" لبنى المنطقة بعد قرنين أو أكثر من العلاقة مع الحداثة.
لكن الذي يموت عمليا حاليا في الشرق الأوسط، وبصورة مكثفة، هو
السياسة كما ورثناها من الغرب الاستعماري الذي جاءنا بموجة التقدم الأولى ثم
الثانية فالثالثة من تأسيس الكيانات إلى استقلالها إلى محاولات "إصلاح"
دُوَلِها خلال القرن المنصرم. حظها في التغيير الداخلي لأنظمة الحكم قبل قرار
هجرتها إلى الغرب.
بهذا المعنى الموجة الحالية التغييرية إلى الوراء في الشرق الأوسط هي
موجة الموت الإصلاحي، موت الإصلاح حتى لو استمر هذا الوهم حيويا بين نخب الطبقات
الوسطى وبعض متنوّري رجال الأعمال وربما قلة من رجال الحكم وخبينًا على لسان
سياسيين ورجال دولة يعرفون أن لا مستقبل له.
موت المجتمعات أم موت الإصلاح السياسي أم كلاهما معا؟ ما الذي يميز
المرحلة الاحتضارية العربية والمسلمة والشرق أوسطية الحالية؟
أعرف أن هذا النوع من التقييم الراديكالي لتدهور أوضاع المنطقة التي
صار إسمها اليوم على لسان أي مقدم برامج في أي إذاعة أو تلفزيون غربي: "منطقة
خطرة متفجرة، لا يلائم ما تبقى من معايير الكلام الصحيح سياسيا" أي الذي لا
يستطيع أن يقبل فكرة موت الإصلاح حتى لو كانت صحيحة ولا طبعا فكرة موت كل حقبة لها
أفكارها التغييرية التي تبنتها نخب المنطقة وتصارعت عليها حتى الموجة الأخيرة
الكبيرة واليتيمة والقليلة العمر وهي "الربيع العربي" الذي هو صناعة
(لا) مؤامرة تراكمية غربية رائعة من الإنترنت على يد شباب المدن العربية والشرق
أوسطية تتفاعل معها نخبويا واقتصاديا فسياسيا فئات اجتماعية تجرب ما لمجتمعاتنا.
ولكن لا بد من أن أضيف صفة ثالثة مؤكدة هي أنها منطقة يائسة بين نمط وحشي من
الإسلام السياسي ونمط وحشي من انهيار بيئي واقتصادي وديموقراطي (باعتبار اللا
ديموقراطية بيئة في مجتمعات فلتان التزايد السكاني).
اليوم تغيرت ثقافة الطبقات الوسطى أو ما بقي منها من حيث ولادة جيل مديني عموما هو الذي حمل أحلام التغيير السلمية في العشرية المنصرمة. لكن هذا الجيل وصل متأخرا إذا جاز التعبير. فمائة عام من ولادة معظم دول المنطقة وسبعون عاما من ولادة الصراع العربي الإسرائيلي مترافقة مع عقود من فشل خطط التنمية الاقتصادية أوصلت هذه الدول إلى حالة إنهاك ذاتي وعاجز.
عندما تستفيق صباحا على اغتيال أو مجزرة سياسيّين، لتمييزهما عن
المجازر الطبيعية، في بلد شرق أوسطي ما، وتقرأ الصحافة الغربية باعتبارها مرجعك
للتقييم المعياري السياسي لسلوكيات الحكم، ستتأكد مجددا أنه لا قضية في منطقتنا،
أكانت فكرية أو سياسية أو حياتية، لها شرعية وقيمة الاعتراف بها إذا لم تكن لها
مساحة على صفحات الصحف الغربية. أود أن أقوم هنا باقتباس من المؤرخ الراحل كمال
الصليبي في كتيب تحت عنوان" لبنان ومسألة الشرق الأوسط" نَشَرَتْهُ له
دار نلسن باللغتين الإنكليزية والعربية (ترجمة محمود شريح إلى العربية) يقول
صليبي: "إن الجماعة في العالم العربي حقيقة واقعة تماما كمـا هـو الوعي
بالوحدة القومية في ما بين الشعوب العربية المنضوية تحت رايات دول منفصلة. إن
الجماعة والدولة والأمة وقائع اجتماعية وسياسية يمكن أن تتصالح مع بعضها البعض متى
توفّر لكل منها الاعتراف اللازم لها في إطار عمل النظام الديموقراطي. ليس وجود
الجماعة والدولة والأمة على أنها وقائع منفصلة ما يؤدي إلى نزاع فيما بينها، لكن
يؤدي إلى ذلك عدم الإقرار بهذه الوقائع على أنها وقائع منفصلة. والدولة بين هذه
المكونات هي الأكثر واقعية لأنها كيان قانوني إن واقع الجماعة أقل واقعية من وجود
الدولة، فيما أن حقيقة الأمة هي الأكثر تجريدا. إلا أنه من الطبيعي أن تكون من
مصلحة الواقعي أن يفصح: أهمية المجرّد وأخذه بالحسبان".
لو عاش هذا المؤرخ المفكر إلى نهاية هذه العشرية هل كان سيقول ذلك
بالثقة نفسها على الأقل في منطقة المشرق العربي؟ لقد كانت السنوات السبعون كما
تبيّن هي سنوات تحوّل "إسرائيل" من دولة صغيرة إلى دولة عظمى بمعايير
التقدم التكنولوجي والعسكري والعلمي لكن على حساب بؤس متمادٍ طبعا، تكشف مجتمعاتنا
المتداعية عن المزيد من عناصر الغنى الثقافي والاقتصادي والسياسي والبيئي في الهوة
العميقة المتواصلة التي تعيش فيها. إنها جاذبية الاحتضار في طورها الجديد الذي
يكشف عن عمقها التاريخي واتساعها إلى حد أنه يمكن اعتباره "ثورة احتضارية
"لبنى المنطقة بعد قرنين أو أكثر من العلاقة مع الحداثة.
كل حقبة لها أفكارها التغييرية التي تبنتها نخب المنطقة وتصارعت
عليها حتى الموجة الأخيرة الكبيرة واليتيمة والقليلة العمر وهي الربيع العربي الذي
هو صناعة (لا) مؤامرة تراكمية غربية رائعة من الإنترنت على يد شباب المدن العربية
والشرق أوسطية تتفاعل معها نخبويا واقتصاديا فسياسيا فئات اجتماعية تجرب حظها في
التغيير الداخلي لأنظمة الحكم قبل قرار هجرتها إلى الغرب.
خاتمة:
يتساءل الكاتب السياسي اللبناني جهاد الزين في كتابه المهم، أين تقع
الثقافة السياسية العربية من هذه النقاشات الحيوية في القرن الحادي والعشرين؟ مع
أن مقولة النموذج الصيني وجدت صداها في بعض الأوساط اليسارية العربية وبتشجيع ضمني
ومعلن غالبا من الإعلام العربي الرسمي في المشرق والمغرب، غير أنه ليس صعبا ملاحظة
انسداد الطبقات الوسطى العربية، خصوصا الجيل الشاب، إلى النموذج الليبرالي الغربي،
حتى بعد انهيار "ثورات الربيع العربي" أو تراجعها أو نتائجها المخيبة.
نحن على الأبواب المشرعة للثقافات السياسية في العالم، نراقب في
العالم العربي الازدهار الأمريكي وتقدمه والصعود الصيني ولكن ثقافتنا السياسية
بـعـد طـول تركيز وتكرار على التوحيد السياسي تنجذب الآن بحكم الوقائع نحو
الانتقال من ث توحيدية إلى ثقافة تنسيقية تحت وطأة النموذج الأوروبي، غير أن مسار
"النموذج" الإسرائيلي سيظل عنصرا أساسيا في الضغط على ثقافتنا السياسية
مقابل ظاهرة تعدد ثقافة الدول الفاشلة في إطارنا الإقليمي. وأخشى أن أقول،
المجتمعات الفاشلة.
لاشك أن التوترات الاجتماعية والسياسية التي واكبت الحياة العامة
الأوروبية بعد تفاقم الانهيار السوري وما ساهم في إفرازه من موجات نزوح إلى أوروبا
لـم تقتصر على نازحي سوريا في المنطقة بل شملت العراق ولبنان وتونس التي أصبحت ممرا للنزوح غير الشرعي من قلب
القارة الإفريقية، هذه التوترات انعكست في مظاهر التأزم الثقافي والسياسي في
النظرة إلى الإسلام والمسلمين داخل أوروبا. ثمة جزء أساسي من حِمْل منطقتنا ينتقل
الآن بل يستكمل انتقاله إلى داخل بلدان أوروبية ناهيك عن كندا وأستراليا
ونيوزيلندا.
هذا زمن الإسلام الغربي داخل التأزم الثقافي السياسي لمنطقتنا،
فثنائية الغرب ـ العرب أو الغرب ـ الإسلام لم تعد ثنائية جغرافية أو كولونيالية
بالمعنى التقليدي، بل تحوّلت إلى ظاهرة معولمة يتدفق فيها التطرف وردود الأفعال في
كل الاتجاهات كما يتدفق المال بين المصارف والبيوت المالية العالمية.
لقد بدأنا نشهد مع هذه التحولات بروز نزعات وطموحات "دياسبورا" عربية
نخبوية لتولي مهمات إنقاذ بلدانها الأصلية.