قضايا وآراء

جنين بعد العدوان.. ومستوى الردح الفلسطيني الهابط

نزار السهلي
جيتي
جيتي
لجنين، مدينة ومخيما، تاريخ طويل من مقاومة الاحتلال، كما هو حال نابلس والخليل والقدس وبقية مدن فلسطين التي تعرضت لعدوان النكبة ثم احتلال بقية الأرض، وللشعب الفلسطيني، قضية وشارعا ورأيا عاما، خبرة طويلة في مراقبة أداء التعاطي معه بقراءة بعيدة عن السطحية التي بقيت تسيطر على خطاب رسمي فلسطيني، وبعيدة عن شارع متذمر من سياسات حاصرت قضيته وأحاطتها بكوارث عدة.

فحادثة طرد رجال السلطة من موكب تشييع الشهداء في جنين من ضمن مؤشرات أخرى موجودة في الشارع الصامت بفعل قبضة أمنية تظن أنها مُحكمة عليه على هوى أجندة الاحتلال، والغضب الظاهر على الشارع لانفلاته من قبضة السلطة في جنين ونابلس وغيرها من المناطق؛ فيه كثير من التعري الذي تحاول السلطة ستره برفع منسوب إلقاء التهم على الغير، والتلاسن الإعلامي بالعودة لبدايات الانقسام الفلسطيني، وما رافقه من خطابات التخوين والتآمر، وكنموذج حي حتى أمسنا القريب؛ "تلفزيون فلسطين" وبعض المنابر الإعلامية التي تتبع السلطة الفلسطينية بجر خطاب القضية الفلسطينية إلى مستويات "القاع" الذي لا يليق بها وبتضحياتها.

حادثة طرد رجال السلطة من موكب تشييع الشهداء في جنين من ضمن مؤشرات أخرى موجودة في الشارع الصامت بفعل قبضة أمنية تظن أنها مُحكمة عليه على هوى أجندة الاحتلال، والغضب الظاهر على الشارع لانفلاته من قبضة السلطة في جنين ونابلس وغيرها من المناطق؛ فيه كثير من التعري الذي تحاول السلطة ستره برفع منسوب إلقاء التهم على الغير

في النموذج الذي نتحدث عنه، زوايا إعلامية تُعيد على مسامع المشاهد والقارئ صوت دق الأسافين بين مكونات المقاومة الفلسطينية في جنين، وهي رسالة للمقاومة عموما في كل المدن الفلسطينية بكل انتماءاتها الفصائلية والحزبية، على الإصرار بعدم التلاقي معها تحت حجج لا منطق ولا عقل يقبل بهما. فحال السلطة الفلسطينية ورداءة أدائها في مواجهة الاحتلال وعدوانه وانكشافها على خرابٍ عقيم بالعلاقة مع الاحتلال، دفعت مجدداً بالمدافعين عن نهجها وأدائها لتصويب نيران أسلحتهم مجدداً من وادٍ سحيق باجترار ذات التلاسن المتخشب في مسؤولية "الإخوان المسلمين" ومشروعهم ودور قطر "التخريبي" وإعلام الجزيرة "التآمري".

وفي استدلال مشابه لخطاب مأزق الأنظمة العربية في مواجهة الثورات، يأتي الخطاب الفلسطيني الرسمي بعد معركة جنين عاجزاً ومرتبكاً، وباستخدام "قدسية" الكلام عن الذات "الثورية" الفتحاوية والسلطوية وعن "فئة ضالة" من المقاومين، بمزايدة تطغى عليهما مرارة الحقد على الشارع المتهم "بدونية" القراءة لواقعه دون تدخل قائمة الاتهام التي تستند لها عقلية رسمية لمواجهة الاحتلال. فلدى الفلسطيني مؤشراته الدالة على عدوه، ولديه سجل طافح بمن يتآمر عليه ويحاصره ومن يقوم بإذلاله، ويدرك تماماً على من تعود مسؤولية تدعيم بنيان بيته الداخلي لمواجهة المحتل.

انحدار الخطاب الإعلامي الفلسطيني بعد العدوان على جنين، مؤشر على تدني موقف السلطة الفلسطينية من مأساة جنين ونابلس وقبلهما غزة والقضية الفلسطينية عموماً، تدنٍ يسهم في التأزيم أكثر لمكانة وصدقية السياسة الفلسطينية لمواجهة تبعات عدوان الحكومة الإسرائيلية بزعامة نتنياهو وائتلافه الفاشي، والمتصاعد بسلسلة واضحة من العدوان والاستيطان والتهويد وبنسف أوهام فلسطينية وعربية عن السلام والدولة الفلسطينية ورخاء التطبيع.

هذه الحالة من التشرذم والعداء المستعصي فلسطينياً تظهر على النحو الذي يجعل كفتها تميل أكثر داخلياً على حساب التناقض الرئيس مع الاحتلال؛ وباعتباره الهدف الأسمى للشعب الفلسطيني الذي لا يستحق أن تكون تضحياته بهذا المستوى اللغوي المنحدر عبر وسائل الإعلام. ومن يراقب الأخيرة وصياغتها في الأيام الماضية وخصوصاً في ظل ما جرى في جنين وما يجري من عدوان في البلدة القديمة من نابلس والخليل، يصاب بغثيان من قرف الحالة الفلسطينية الرسمية البعيدة كل البعد عما يفترض أن يحمله العقل السياسي والإعلامي الفلسطيني.

محاولة تجهيل الشارع الفلسطيني فاشلة فيه، وهي ناجحة بأوساط الأمن والسلطة الفلسطينية، أما لغة الردح الإعلامي والسياسي فلم تأتِ بجديد يحسن الوضع المتشرذم، فلماذا الإصرار عليهما؟

محاولة تجهيل الشارع الفلسطيني فاشلة فيه، وهي ناجحة بأوساط الأمن والسلطة الفلسطينية، أما لغة الردح الإعلامي والسياسي فلم تأتِ بجديد يحسن الوضع المتشرذم، فلماذا الإصرار عليهما؟ بظننا أن حالة العجز والإذلال المتعمد الممارس على الشعب الفلسطيني قضية وسلطة من الاحتلال؛ يعتقد فيهما بعض فهلويي العجز الرسمي أنه من الممكن المضي بالقضية إلى الأمام، بينما الواقع الفلسطيني ليس بحاجة لتذكير جهابذة التحليل السياسي والإعلامي، بأن فلسطين محتلة قبل "مؤامرة الإخوان لمسلمين" وقبل ظهور قناة الجزيرة وصعود "السياسات التآمرية لقطر"، وأن المشروع الاستعماري للحركة الصهيونية في فلسطين بحاجة لعقل سياسي وطني وإعلامي مستند لهذه الحقائق ولديه قدرة وصلابة لمواجهته؛ لا بإفساح المجال المستمر لإشاعة أجواء "الهزيمة" بتبني عقلية العقم والعجز، والتمسك بالوهم والرهان عليهما، والتخلي عن السلاح الأهم المتمثل بالشعب الفلسطيني ونضاله المجيّر لمستوى بقي هابطاً بالقضية وتضحيات شعبها.

أخيراً، تبقى الدعوات والمطالبات الفلسطينية ومنها دعوة الرئيس أبو مازن لاجتماع الأمناء العامين للفصائل في القاهرة نهاية تموز/ يوليو الحالي، وما جرى قبلها من محاولات وكلام رُمي مع بعض نفايات لغوية بوجه الإعلام في أكثر من محطة وعاصمة عربية بخصوص تحمل مسؤولية الانقسام وتصليب الموقف الفلسطيني، وغيرها من ضرورات المراجعة الكُلية لمسيرة السلطة الفلسطينية وإعادة بناء مؤسساتها وغيرها من ضرورات.. هي دعوات تُحسن من وضع الانزلاق نحو الردح والهبوط، بينما يرتفع منسوب العدوان الحاصد لكل وهْم ومستفيد من كل تآكل ذاتي لسلطة وحركة تحرر وطني فلسطيني، ومثلما لدى الشعب الفلسطيني إرث وتاريخ بمقاومته للاحتلال، يحاول البعض استبداله بإرث مُخجل ومخزٍ من العبث بقضيته.

twitter.com/nizar_sahli
التعليقات (0)