نقلت مواقع الأخبار الإسرائيلية يوم الأربعاء الفائت تصريحا على لسان قائد أركان جيش
الاحتلال هرتسي هليفي، قال فيه: «إنّ ضابطا يرى مواطنا إسرائيليا وهو يهمّ بإلقاء زجاجة حارقة باتجاه بيت فلسطيني ويقف من دون أن يحرك ساكنا، أو يقف على جنب، لن يستطيع أن يكون ضابطا». جاءت هذه الأقوال في خضمّ موجة تصعيد جديدة بين القيادات السياسية والدينية لميليشيات
المستوطنين، والمؤسسة الأمنية الإسرائيلية الرسمية، لاسيما بعد أن وصف ثلاثة من قادة أجهزة المخابرات والشرطة والجيش، اعتداءات المستوطنين على السكان
الفلسطينيين وعلى ممتلكاتهم بأنها «أعمال إرهابية وحسب».
لا يمكن فصل هذه المواجهة، التي تغيب تفاصيلها الدقيقة عنا وراء كواليس السياسة الإسرائيلية، عن المعركة الكبرى التي تخوضها التيارات الصهيونية اليمينية المتطرفة والدينية المتزمتة، ضد قوى «حرس الصهيونية القديم»، وترمي من ورائها حسم مكانة الأراضي الفلسطينية كأرض محتلة، أو «مدارة»، وتحويلها إلى أرض إسرائيلية، بالمفهومين القانوني والعملي، ومعالجة ما يترتب على ذلك حيال مستقبل المواطنين الفلسطينيين، حيث ستناط مهمة «السيطرة» الكاملة عليهم بقيادات الحركات الاستيطانية، وإطلاق الأعنّة لميليشياتها للتصرف من أجل إنجاز تلك المهمة بجميع الوسائل الإرهابية، كما شاهدنا عينات منها في السنوات والأسابيع والأيام الأخيرة.
لا يجوز لنا، كفلسطينيين، ألا نولي هذه المواجهة أهمية، وألا نتابع تداعياتها؛ أولا: لأن حدّة الصراع الدائر وعمقه بين أقطاب الحركة الصهيونية ومضامينه تبدو جديدة عمّا ألفناه في العقود السالفة. وهي في بعض تجلياتها خلافات حقيقية وأعمق من مجرد كونها خلافات تكتيكية داخل المعسكر نفسه. فمن أهمّ ما أفرزته هذه المرحلة الحرجة أنها أعادت بعض القوى السياسية والعسكرية والاجتماعية والشخصيات النخبوية اليهودية/الصهيونية للتفكير مجددا في مسألة الاحتلال، وإعادة ترتيبها له في صدارة المواضيع المختلف عليها إسرائيليا ويهوديا؛ بعد أن كادت تنجح حكومات اليمين الإسرائيلي في تعويم الواقع الفلسطيني المأساوي وخلق انطباع أن الأمور مع الفلسطينيين تجري على ما يرام، حتى أنهم، أي الفلسطينيين، تنازلوا عن حلمهم في التحرر وإقامة دولتهم المستقلة ولا يتكلّمون عن وجود احتلال. وثانيا: لأن الاتفاق بين قادة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية الكبرى والمهمّة، على توصيف ما تقوم به ميليشيات المستوطنين ضد الفلسطينيين وممتلكاتهم، كونه إرهابا كاملا، من شأنه أن يدعم الموقف الفلسطيني في جميع المحافل والمؤسسات الدولية، وأن يعزز حق الفلسطينيين في الدفاع عن أنفسهم وعن ممتلكاتهم، وأن يسهل على حكومات الدول – خاصة تلك التي تقيم علاقات حميمة مع إسرائيل وتقرّ، في الوقت ذاته، بالحقوق الفلسطينية وبعدم شرعية الاستيطان وبضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي – مهمتها في إسناد القضية الفلسطينية وتخليص الشعب الفلسطيني من الغبن التاريخي الذي حل به. وثالثا، لأننا نعلم أن جميع الحكومات الإسرائيلية السابقة، وقبل تعاظم قوة الحركات اليمينية القومية المتطرفة والدينية الصهيونية العنصرية، والتيارات الفاشية، كانت تدعم مشاريع الاستيطان داخل الأراضي الفلسطينية لأسباب تكتيكية وكمخزون استراتيجي يخدم أغراض التفاوض والمقايضات السياسية المستقبلية، وكانت تحرص على التنسيق الكامل مع القيادات العسكرية والأجهزة الأمنية وبتكامل مدروس مع قيادات حركات الاستيطان والتفاهم الهادئ معها. كان الاحتلال مؤقتا، وكان الجيش، بقرة الشعب المقدسة، خارج صراعات السياسيين، وعبارة عن مؤسسة تدافع عن مصلحة الدولة وعن سلامتها، وكان الاستيطان أداة معدّة لخدمة الدبلوماسية عندما تحين ساعتها. هكذا كان لكن ذلك لم يدم؛ فمن يحمل في أحشائه وحشا يلد وحشا ومصير هذا الوحش أن يكبر ويكبر.. هذا ما حدث وهذا ما أوصلنا، جميعا، حتى حافة الهاوية. الاحتلال كان ولم يزل هو بالمختصر كل الحكاية. قد لا يكون الفلسطينيون بحاجة إلى دراسات عن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، وما نفذه المحتلون من جرائم بحقّهم طيلة العقود الماضية؛ فأجسادهم كانت أهدافا سانحة لبنادق جنوده ولسياط جلاديه، وأرضهم كانت حرثا باسم ذاك «الجشع المقدس»، ولقمة العيش كانت دوما مغموسة بالعرق وبالوجع وبالدم، ولكن لن يضيرنا لو تعرفنا وتعرفت ضمائر العالم على بعض من تلك الحقائق، التي كشفت في عدة دراسات سابقة ولاحقة مؤخرا، بعد أن ظلت طي الكتمان لعقود طويلة باسم الأمن والمصلحة الوطنية.
فقد نشر يوم الجمعة الفائت الصحافي عوفر أديرت، وهو مسؤول الشؤون التاريخية في جريدة «هآرتس» العبرية، تحقيقا لافتا عن مجموعة وثائق نشرها مؤخرا «مركز طاوب» التابع لجامعة نيويورك، تمحورت جميعها حول مشروع الاستيطان الاسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة وتاريخه منذ عام 1967. فلأكثر من خمس سنوات عكف الباحثون في «مركز طاوب» على تجميع حوالي (مليون ونصف المليون) ورقة مأخوذة من (أحد عشر ألف) ملف كانت ضمن أرشيف الدولة وأرشيف الكنيست ومصادر أخرى. أعتقد أنه يترتب على الباحثين الفلسطينيين وفي جميع أنحاء العالم المعنيّين بدراسة تاريخ ممارسات الاحتلال الإسرائيلي بحق المواطنين والأراضي الفلسطينية المحتلة، السعي والتنقيب في تلك الوثائق وإعداد ملفات جديدة حول ما ارتكبه الساسة الإسرائيليون وجيش الاحتلال من جرائم موثقة كما قرأنا. فعلى سبيل المثال يتطرق تقرير «هآرتس» إلى قضية إقامة مستوطنة «جيتيت» على أراضي قرية «عقربة» الفلسطينية في مطلع سبعينيات القرن الماضي، فحسب ما جاء في الوثائق، حاول جيش الاحتلال «تطفيش» الفلاحين الفلسطينيين عن أراضيهم عن طريق تدمير مزروعاتهم مرة، ومرة عن طريق تدمير آلاتهم الزراعية. وعندما تمسك أصحاب الأرض وأصروا على البقاء في أراضيهم، انتقل قادة الجيش والمسؤولون في الوكالة اليهودية وغيرهم إلى خطة جهنمية أخرى قضت بتسميم الأراضي عن طريق رشها بواسطة الطائرات، بمواد سامة ثم منع السكان بعدها من دخول أراضيهم، كما منعت مواشيهم من الرعي فيها. لقد أفضت تلك الأحابيل في النهاية إلى السيطرة على أراض واسعة وسرقتها من أهل القرية الفلسطينية، وإقامة المستوطنة عليها بمباركة الجيش ودولة الاحتلال؛ وكان قائد المنطقة وقتها الجنرال رحبعام زئيفي. وفي التقرير نقرأ أيضا تفاصيل عن إقامة مستوطنات «معاليه أدوميم» «وسبسطية» وغيرها، وكيف جنّدت حكومة إسرائيل طرقا ملتوية بغية التسريع في إقامتها. وتبقى خلاصة ما وجده معدّو مشروع التوثيق هي أن «الحكومة هي المحرك. كل شيء يمر من خلالها»، أو كما جاء على لسان الرئيس السابق «لمركز طاوب» البروفيسور رون تسفايغ: «إن دراسة المادة تتيح لنا أن نفهم أكثر أن هذا المشروع القومي العملاق، هو ثمرة لمبادرات من قبل حكومات إسرائيل المتعاقبة؛ ليست اليمينية وحسب، بل جميعها». لم تكشف الوثائق عن القرارات التنفيذية التي كانت تسبق إقامة كل مستوطنة وحسب، بل كشفت حرص قادة حكومات إسرائيل السابقة على التكتم والعمل بعيدا عن حركات الاستعراض التي يقوم بها بعض السياسيين بهدف الكسب السياسي. وهذه نقطة مهمة تؤكد أن قادة إسرائيل كانوا يدركون أن الاستيطان هو عمل غير شرعي وأن الاقتراب منه يجب أن ينفذ بحذر وبهدوء وبالخفية، تماما كما يجب أن يتصرف اللصوص ومن يقترفون الجرائم. فالاستيطان في عصر ما قبل «الاحتلال» لم يكن غاية بحدّ ذاته بل مخزونا يستعان به عند الضرورة السياسية وحسب، ولنا بما جرى في سيناء عبرة. وبما إنه تحوّل في عرف «اسرائيل الجديدة» إلى استعراض مستفز ووسيلة لطرد السكان الأصليين من وطنهم، وغاية الغايات وأقدسها، وبما أن ملوك إسرائيل الجديدة عازمون على حسم المعركة على طريقة «يوشع»، علينا بالمقابل، نحن المواطنين الفلسطينيين، أن نعيد «الاحتلال» إلى لغتنا والى أفعالنا وإلى وجداننا وإلى ساحات نضالنا اليومية؛ وعلى أهل فلسطين المحتلة أن يتصرفوا كشعب خاضع للاحتلال لا أكثر ولا أقل.
قبل أيّام قابلت أحد زملائي المحامين الذي كان يعرّف نفسه أنه صهيوني يميني من مؤيدي حزب الليكود التاريخيين، وتناقشنا عن مقالة الصحافي عوفر أديرت. كان نقاشا يبعث على التفاؤل، حيث انتهى بموافقتنا على ضرورة إعادة قضية الاحتلال إلى المجالس والشوارع والساحات والمنصات الإسرائيلية. خلال حديثنا خبرني زميلي أن قريبا له كان من كبار الحقوقيين المرموقين المؤسسين لدولة إسرائيل، وكان مؤيدا متحمسا لتخويل المحكمة العليا الإسرائيلية صلاحيات قضائية في القضايا الإدارية التي تخص حقوق المواطنين الفلسطينيين المحتلين، مع أنها لا تمتلك هذه الصلاحية وفق القانون الإسرائيلي وليس وفق القوانين الدولية طبعا. ثم أضاف معللا موقف قريبه بإنه، كان يعرف أن الاحتلال الإسرائيلي سيكون «وحشا» تماما كما كانت جميع الاحتلالات التي عرفها التاريخ، ولذا توقع أن تقوم المحكمة العليا بترويض ذلك الوحش وإبقائه في قفص المعقولية. أما اليوم بعد أن تجبّر الاحتلال ككل الوحوش وتمرد على مروّضيه فهو متأكد، هكذا صرح زميلي، «أن قريبه يتقلب في قبره من الخيبة» وسكت حزينا. فأضفت قائلا: «أو ربما من كونه أحد آباء هذا الوحش». سمعني وهز رأسه وقال: ربما!
(عن صحيفة القدس العربي)