كاد أن ينتفض الصحفيون
التونسيون أو أغلبهم بعد إيقاف زميلهم زياد الهاني
من قبل الجهات الأمنية وعرضه على التحقيق، حتى بعض الإعلاميين المدافعين بشراسة عن
سياسات الرئيس مهما كان لونها وطبيعتها؛ وجهوا رسائل إلى رئيس الدولة يدعونه فيها
إلى التدخل من أجل غلق هذا الملف؛ نظرا لكونه أفرغ من فؤاد أم موسى، ولكنه أيضا
يسيء إلى الرئيس في الداخل والخارج.
أُطلق سراح زياد وبقيت أزمة حرية التعبير مطروحة بكل تشعباتها وتداعياتها.
المشكلة لا تكمن فقط في القضايا المرفوعة ضد أكثر من عشرين صحفيا، وإنما السبب
الحقيقي يكمن في عدم تحمل رئاسة الجمهورية أي نقد لشخص الرئيس وأسلوبه في الحكم،
فمعظم القضايا والمحاكمات التي حصلت أو ستحصل، محورها الرئيسي انتقاد الرئيس.
أُطلق سراح زياد وبقيت أزمة حرية التعبير مطروحة بكل تشعباتها وتداعياتها. المشكلة لا تكمن فقط في القضايا المرفوعة ضد أكثر من عشرين صحفيا، وإنما السبب الحقيقي يكمن في عدم تحمل رئاسة الجمهورية أي نقد لشخص الرئيس وأسلوبه في الحكم، فمعظم القضايا والمحاكمات التي حصلت أو ستحصل، محورها الرئيسي انتقاد الرئيس.
والغريب، أن
قيس سعيد لم يكن على هذه الدرجة من الحساسية بعد انتخابه في سنة
2019. كان خلال تلك الفترة متابعا لما يقال عنه، ولم يرد الفعل ضد من انتقدوه، وأحيانا
بشكل لا يليق، لكن الأمر اختلف تماما بعد 25 تموز/ يوليو، وأصبح هو الحاكم الأوحد
في البلاد؛ إذ بعد مرحلة الترحيب من جهة والصدمة التي تلقاها ضحايا الانقلاب، بدأ
المزاج الرئاسي يتغير بنسبة مئة في المئة؛ صار مرتابا في كل من يكتب عنه، ويراه
تآمرا عليه وتشكيكا في شرعيته وفي قيادته للبلاد، ولقي من ينصحه باستعمال أسلوب
الصرامة والحزم ضد من يسمح لقلمه أو لسانه بالاقتراب مما تعتبره السلطة خطوطا
حمراء. وهذه الخطوط، ليست محددة بضوابط قانونية صريحة وقطعية الدلالة، وإنما تحكمها
الأهواء والتأويلات الفاسدة والمغرضة لعدد من الذين يريدون التقرب من الرئيس من أجل
تحقيق أغراض شتى، وما أكثرهم.
لا يعني ذلك أن تونس أصبحت مملكة الصمت، إذ لا تزال في البلاد أصوات وأقلام
جريئة وناقدة لسياسة الرئيس وأفعاله، لكن هذه الأصوات تقل وتتراجع، وكأنها في صراع
مع الزمن. تبدو فسحة الحرية الواسعة جدا التي وفّرتها الثورة، تنضب تدريجيا حتى
عادت الذاكرة بالجميع إلى مرحلة ما قبل الثورة، حيث لكل همسة صادقة كلفتها القاسية،
وأصبح الكثيرون وفي مقدمتهم نقابة الصحفيين، لا يستبعدون أن تعود الأوضاع إلى تلك
المرحلة ببؤسها وماضيها الأسود.
حدثني مرة أحد الأشخاص يعيش في إحدى الدول الأوروبية، قال لي: حرية
الصحافة
تقاس بمدى توفر المجال لانتقاد رئيس الدولة بطريقة مباشرة وأحيانا فجة، وإذا ما تحمّل
الرئيس ذلك فالديمقراطية تكون بخير.
تبدو فسحة الحرية الواسعة جدا التي وفّرتها الثورة، تنضب تدريجيا حتى عادت الذاكرة بالجميع إلى مرحلة ما قبل الثورة، حيث لكل همسة صادقة كلفتها القاسية، وأصبح الكثيرون وفي مقدمتهم نقابة الصحفيين، لا يستبعدون أن تعود الأوضاع إلى تلك المرحلة ببؤسها وماضيها الأسود.
لم أوافقه الرأي، على الأقل بالنسبة لتونس؛ أنا أومن باحترام المقامات،
فلرئيس الدولة مكانته ورمزيته، والحديث عنه لا بد أن يتقيد بالحذر وعدم الشتيمة.
لكن ما يجب الحذر منه، هو تقديس الذات الرئاسية، وتأليه الحاكم بأمره، ووضعه في
خانة ما فوق النقد. هذه حالة مرضية وخطيرة، من شأنها أن تحوّل ذلك الشخص المنتخب من
قبل الناس، الذي قد يكون وديعا، والذي له حسنات وسيئات مثل كل إنسان، يذهب به الاعتقاد
إلى أنه قد بلغ الكمال والعصمة. وفي غياب
حريات حقيقية، يصبح هذا الرئيس غير قادر
على أن يرى عيوبه وأخطاءه؛ لأنه لا يملك المرآة الكاشفة، عندها تصبح الدولة وليس
فقط شخصه؛ مهددة بالضعف والتلاشي.
حرية الصحافة في تونس في خطر.. هذا ما اتفقت عليه جميع الجمعيات والمنظمات
المختصة في الدفاع عن حرية التعبير، وما يحصل من حين إلى آخر، أصبح مثيرا للقلق والخوف.
هناك شعور قوي يوحي بأن فسحة الحرية تضيق، وهي تقترب من حالة الصوت الواحد والرأي
المهيمن، أو على الأقل جعل الموقف المخالف للرئاسة مسجونا في نطاق ضيق، ومحاطا
بضوابط ما أنزل الله بها من سلطان.
آن الأوان لوضع حد لهذا التراجع الخطير، لا نعيد نفس الكرّة، فالحكومات
الأوروبية لا يمكن أن تكون حليفا ثابتا، فهي تحركها المصالح، خاصة بعد أن استعصى
عليها الرئيس سعيد، وعجزت فيما يبدو عن تطويعه وإخضاعه لإرادتها، فاختارت الصلح
معه، والدخول معه في شراكة ما حول الحد من الهجرة غير النظامية.
العودة إلى المجتمع المدني، ومواصلة النضال الميداني، والتمسك بالمهنة
وشرفها، والتزام أخلاقيات المهنة؛ يجنب إعطاء المتربصين الفرصة للانقضاض على ما
تبقى من حرية، قد يحتاج إليها المجتمع في يوم من الأيام.