الفرضية الأولى: مثلما شكلت كارثة مفاعل تشيرنوبل النووي في 1986 النهاية الرمزية لمكانة الاتحاد السوفييتي كقوة عظمى تنافس على الهيمنة
العالمية، تشكل المشاهد الختامية للانسحاب الأمريكي من أفغانستان في صيف 2021 اللحظة الرمزية لتحول الولايات المتحدة من القطب الأوحد المتفوق عسكريا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا والقادر على فرض إرادته المنفردة في كل بقاع الأرض إلى قوة عظمى متراجعة تتعرض مصالحها لتهديدات متزايدة وتفكر نخبها في تغيير سياساتها وممارساتها.
الفرضية الثانية: كان الانسحاب الأمريكي من أفغانستان هو العنوان العريض لتلك اللحظة الرمزية التي تابعها العالم بأسره. غير أن منطقتنا، المعرفة كالشرق الأوسط وشمال إفريقيا للبعض وكبلاد العرب وجيرانهم للبعض الآخر، خبرت تراجع قوة الولايات المتحدة قبل صيف 2021 حين خرجت القوات الأمريكية من العراق تاركة إياه كمسرح مفتوح للنفوذ الإيراني ولفعل وكلاء إيران خلال العقد الماضي.
خبرناه، حين لم تمنع الترتيبات والضمانات الأمنية التي هندستها القوة العظمى في
الخليج اعتداءات الحوثيين المدعومين إيرانيا على المنشآت النفطية السعودية في 2019 ووقفت الولايات المتحدة مكتوفة الأيدي وحليف لها في منطقتنا يتعرض لهجوم على مقوم وجوده الأهم وسلعة استراتيجية عالمية يرتفع سعرها ليربك حسابات اقتصاديات الحلفاء والأعداء.
خبرناه، حين شرعت إرادات إقليمية، وليس فقط من قبل أعداء الولايات المتحدة كإيران وسوريا ووكلاء البلدين من كيانات دون الدولة (كحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق والحوثيين في اليمن) بل أيضا من جانب حلفاء أمريكا في الخليج وعموم المنطقة، في تحدي الاختيارات الاستراتيجية التي بنت عليها الولايات المتحدة سياساتها وممارساتها تجاه سوريا وليبيا واليمن (بلدان الحروب الأهلية) وكذلك تجاه تحولات مصر وتونس والمغرب.
خبرناه، أخيرا وأيضا قبل صيف 2021، حين عجزت الدبلوماسية الأمريكية عن توسيع نطاق الاتفاقيات الإبراهيمية الموقعة بين إسرائيل وبعض البلدان العربية لتطبيع العلاقات الدبلوماسية وتنشيط التعاون الأمني والاقتصادي والتجاري. وقع الاتفاقيات من الجانب العربي دولة الإمارات ومملكة البحرين والمملكة المغربية، ولم تنضم السعودية على الرغم من إغراءات وضغوط كثيرة من قبل واشنطن وعارضت قطر والكويت وواصلت الجزائر رفضها.
الفرضية الثالثة: ثبتت أحداث الفترة الممتدة بين اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية في ربيع 2022 وصيف 2023 الانطباع العالمي بتراجع الولايات المتحدة الأمريكية وتحولها التدريجي من قطب أوحد إلى قوة عظمى تنافسها قوى أخرى على الهيمنة العسكرية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية والعلمية والتكنولوجية.
يقدم الخليج نماذج للمزج بين التعاون مع واشنطن وبين رفض بعض سياساتها، بين الانفتاح على الصين والإبقاء على الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بين رفض إدانة روسيا ورفض أن يختار العرب والأتراك بين واشنطن وبكين
تحدت روسيا الإرادة الأمريكية بالغزو العسكري لأوكرانيا، وصمدت في مواجهة العقوبات الأمريكية والأوروبية الكاسحة، وتواصل إلى يومنا هذا رفض الانسحاب من الأراضي الأوكرانية المحتلة أو البحث عن سبل لوقف إطلاق النار وتهدئة جبهات القتال المشتعلة بفعل إمدادات السلاح الغربية للجيش الأوكراني.
تحدت
الصين الإرادة الأمريكية في منطقتها الحيوية في المحيطين الهادي والهندي مغيرة من جغرافيتها (ببناء الجزر الصناعية) وتوازناتها العسكرية (بنشر قوات وسلاح في مواجهة القواعد العسكرية الأمريكية) ومن حساباتها السياسية (بحصار تايوان وتهديد حكومتها على نحو مباشر) ومن تحالفاتها الاقتصادية والتجارية والمالية (بمد شبكات العلاقات وتعميقها مع حلفاء أمريكا ومع البعيدين عنها).
تحدت الصين الإرادة الأمريكية بالامتناع عن فرض عقوبات على روسيا ورفض إدانة غزوها في المجالس الأممية، بل وبمساعدة الحكومة الروسية اقتصاديا وماليا وعسكريا وتكنولوجيا وبالبحث عن مخرج لها من الحرب مع أوكرانيا عبر جهود الوساطة والتفاوض.
تحدت الصين الإرادة الأمريكية بمقارعة النشاط الدبلوماسي لواشنطن التي تعمل منذ اشتعال الحرب الروسية-الأوكرانية على تقوية تحالفاتها مع الأوروبيين ومع الدول المؤثرة في المحيطين الهادي والهندي كاليابان وأستراليا ونيوزيلندا ومع دول شرق أوسطية وإفريقية هامة. تقارع الصين النشاط الدبلوماسي الأمريكي بتنشيط المنظمات الإقليمية التي تشكلت بدور كبير لبكين كمنظمة البريكس (تجمع الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب إفريقيا) ومنظمة شنغهاي للتعاون ومبادرات الحزام والطريق من جهة وطريق الحرير من جهة أخرى، وتقارعه أيضا بالترويج لخطاب دور الصين المحبة للسلام والصاعدة كقوة خيرة بديلة للولايات المتحدة وصاحبة النموذج التنموي المتكامل القادر على منافسة النموذج الأمريكي على كافة المستويات.
الفرضية الرابعة: تراجع الولايات المتحدة لا يعني استسلامها لتغير مكانتها. تقاوم واشنطن بحصار روسيا والرغبة في إنزال هزيمة عسكرية بجيشها في أوكرانيا، تقاوم أيضا بحرب غير معلنة على الصين بها جوانب تكنولوجية وعسكرية واقتصادية وتجارية ودبلوماسية، تقاوم كذلك برص صفوف حلفائها من وراء اختياراتها وفرض معادلات صفرية وسياسات حدية عليهم (كما في أوروبا التي لم تبحث دولها عن حلول سلمية للحرب بين روسيا وأوكرانيا وكالهند التي تخير بين الصين وبين المعسكر الغربي وكاليابان التي تدفع في اتجاه تسليح متطور وانتشار عسكري أوسع في المحيط الهادي).
تفعل الولايات المتحدة ذات الأمر في منطقتنا حيث تحاصر الدور الروسي في سوريا وليبيا والسودان، وترفض التوغل الدبلوماسي الصيني بعد الوساطة بين السعودية وإيران، وتخير الحلفاء بصيغة المعادلة الصفرية بين تطوير علاقات التعاون والأمن معها ومع الغرب ووكلاء الغرب الإقليميين (إسرائيل) وبين الانفتاح على الصين والعروض الصينية المتكاثرة إن اقتصاديا وتجاريا أو أمنيا وعسكريا أو دبلوماسيا وتفاوضيا لحل الصراعات والنزاعات.
الفرضية الخامسة: ولأن الولايات المتحدة تقاوم تراجعها بشدة، تظل سياساتها وممارساتها مصدر خطر وتهديد إن تجاهلها حلفاؤها ومصدر مواجهات محتملة مع الأعداء.
وإذا كانت روسيا تقدم اليوم نموذج القوة العالمية المعادية للولايات المتحدة وتقدمه إيران في منطقتنا، فإن الصين عالميا تقدم نموذجا آخر يتحدى القوة الأمريكية وينافسها على أصعدة مختلفة دون أن يتوقف عن التعاون معها والعمل على الابتعاد عن المعادلات الصفرية على النحو الذي يدلل عليه مزج بكين بين تأييد روسيا في حربها على أوكرانيا والوساطة لإنهاء الحرب وبين مواجهة واشنطن في تايوان والتعاون الأمني معها في المحيطين الهادي والهندي وبين التنافس التكنولوجي والتجاري معها والتعاون العلمي.
وفي منطقتنا، يقدم الخليج وتقدم سياسات مصر والأردن والعراق والجزائر والمغرب وتركيا الخارجية نماذج للمزج بين التعاون مع واشنطن وبين رفض بعض سياساتها، بين الانفتاح على الصين والإبقاء على الشراكات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، بين رفض إدانة روسيا ورفض أن يختار العرب والأتراك بين واشنطن وبكين.