قد يعجب الكثير ممن هو على الأقل رسميا اختصاصه البحث الفلسفي أن
يزعم أن تحريف علوم الملة علته تبني الرؤية الفلسفية الموروثة عن التراث الفلسفي
اليوناني في نظرية العلم ونظرية العمل.
وقد يعجب أكثر عندما يتصور
الحداثيون من مفكرينا من ذوي المشروعات التي ستغير وتقلب الدنيا رأسا على عقب حسب
رأيهم لا يختلفون عن القدامى لأن نفس الدور الذي كان لأفلاطون وأرسطو صار لهيغل
وماركس.
ومعنى ذلك أن الفرق شكلي لا غير لأن ميتافيزيقا أفلاطون وأرسطو هي
عينها ميتافيزيقا هيغل وماركس: وهي دعوى المطابقة بين العقل والواقع سواء: سمينا العقل نوسا راعيا للعالم (أفلاطون)
أو غير مبال به (أرسطو) أو سميناه روحا ذا ذاتية (هيغل) أو مادة وعديم الذاتية
(ماركس).
كل المشكل إذن في فكر مفكرينا القدامى وفي فكر مفكرينا المحدثين هو الخلط
بين مفهوم الربوبية والمربوبية في التصور
الذي يجعل العقل أصلا وليس فرعا من نظرية الوجود بحيث يجعلون التابع متبوعا.
فحتى يكون للعقل دور ينبغي أن يوجد ما
يقبل أن يكون معقولا أو غير معقول: فالعقل يدرك الموجود والمعدوم لكنه لا يخلقهما
حتى وإن كان يسعى لافتراض ما يمكن من وصفهما بالمعقولية واللامعقولية فيجعل من
نفسه معيارا.
لم أفهم هذه القضية قبل العودة إلى الغزالي رغم تخليه عن وضعه المشكل
لاحقا لما تبنى رؤية ابن سينا والرؤية الصوفية. وتلك هي علة
رأيه في بناء المعرفة
على قياس الغائب على الشاهد التي هي عين نظرية العقل= الواقع والواقع = العقل الهيغلي وعلاقة النوس بالوجود اليوانية.
ولما كتبت مفهوم السببية عند الغزالي في باريس (1972) لم يكن قصدي
الكلام في نفي السببية بل نفي كونها مضطرة لإثبات السببية الحرة. ولأن ابن رشد لم يفهم ذلك أبقى على
الخلط بين رب المقالة 12 من المتيافيزيقا ورب القرآن. وهو لم يشذ في ذلك فكل
فلاسفة الإسلام كانوا يرون رأيه وخاصة الفارابي.
ولا عجب في ذلك إذ من يدقق في الأمر يكتشف أنه لا فرق بين أفلاطون
وأرسطو في ذلك بخلاف ما يبدو بينهما من تناقض: ذلك أنه لا فرق بين الفصل بين الرب
والمربوب والتوحيد بينهما: فالنوس الأفلاطوني ليس شرط الوجود بل
شرط قانون معقوليته وغائيته، والنوس الأرسطي أيضا يعتقد الأمر كذلك وإن بتوسط
محاكاة الطبيعة للنوس بمفعول جاذبية النوس الذي لا يبالي بها.
وحتى نفهم التطابق بين الرؤيتين الأفلاطونية والأرسطية وبين الرؤيتين
الهيغلية والماركسية ومن ثم بين الرؤى الأربع يكفي أن نضع المربوب محل الرب حتى
يصبح المدرك أي الإنسان صانع ما يدرك فنفهم الخلط بين فعل إدراك الوجود والموجود وفعل خلقهما وذلك هو السر في
القول بالمطابقة والإحاطة المنسوبة إلى النوس والعقل ثم رد الواقع للعقل والعقل
للواقع فيصبحان متطابقين. وتلك هي علة: الوحدة العميقة بين الزوجين الأولين (أفلاطون
وأرسطو) والزوجين الأخيرين (هيغل وماركس) ـ وغرق فكرنا في التساهل غير الجدي
المبني على المصادرة على المطلوب عند النموذجين القديم والحديث.
كيف أعدت الترتيب إلى ما يجعله جوهر كل الحيرة التي أنتجت
الدين
والفلسفة في فكر البشر: إنه علة استحالة
الجواب المقنع عن السؤالين الأساسيين الملازمين للإنسان:
الأول ـ لماذا يوجد شيء بدل لا شيء وكلاهما ممكن؟
الثاني ـ لماذا يكون الموجود على كيف معين هو ما يبدو لنا عليه بدل
غيره وكلاهما ممكن كذلك؟
فيكون الحل الديني واللاديني كلاهما ممكن. أعني فإما أن الإنسان يجيب
لأنه توجد إرادة حرة تخلق ما تريد كما تريد أو أنه لا توجد إرادة حرة ولا خلق بل
الأمر كله طبيعة تعمل بالصدفة والضرورة العمياء.
فيصبح السؤال ليس هاتين المسألتين بل هو ما الذي يجعل الإنسان يعتبر
الوجود والعدم متساويين في الإمكان وكيف الموجود الحاصل وممكن الحصول متساويين في
الإمكان؟
بعبارة منطقية ما مصير التوجيه في فكر الإنسان، أي كيف للإنسان أن
يميز بين الضروري والممتنع والممكن في الوجود وفي كيف الموجود؟ لما فهمت أن
الإلغاز كله يعود إلى هذا اللغز الذي لا حل له.. طلبت الحل، وأعتقد أني وجدته: ماذا لو كان العكس
تماما هو الأصح؟ فالعلم
الذي يقيس الغائب على الشاهد يفترض أن الغائب المجهول سيكون مثل الشاهد المعلوم
تسليما ضمنيا باطراد العادة. وفي ذلك تسليم ضمني بأمرين ليسا ثابتين: فأولا لست
واثقا من أني أعلم الشاهد حقا وثانيا ليست واثقا من اطراده في المجهول الذي أرده
إليه.
فإذا تخلصت من هاتين المسلمتين السخيفتين صار العكس هو الحل: سأفترض
أن علمي بالشاهد ليس مطابقا له ولا محيطا به ومن ثم فإني أكون قد قست الشاهد على
الغائب وليس كما يفعل اليونان ومن حاكاهم من مفكرينا القدامى والأوروبيون ومن
حاكاهم من مفكرينا المحدثين.
وطبعا فإذا كان ذلك كذلك بات المفهوم الأشد غيابا من الغائب هو
الغيب. فيكون الحل هو قيس الشاهد على الغيب وليس قيس الغائب على الشاهد.
لكن المشكل هو أن الإنسان لا
يستطيع أن يقيس المعلوم النسبي على المجهول المطلق: كيف أقيس ما ليس كمثله شيء أو
ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر على الشهادة؟ ذلك هو لغز الدين
والفلسفة.
الفلسفة اعترفت في الأخير بأن العلم الإنساني ليس مطابقا ولا خاصة
محيطا وأن العمل الإنساني مطابق ولا خاصة تاما. فعادت إلى لغز الألغاز: من أين للإنسان القدرة على التوجيه إلى حد اعتبار الوجود نفسه
مساويا في الإمكان للعدم؟ وكيف يكون الموجود الحاصل مساويا للموجود الممكن؟
سأفترض أن علمي بالشاهد ليس مطابقا له ولا محيطا به ومن ثم فإني أكون قد قست الشاهد على الغائب وليس كما يفعل اليونان ومن حاكاهم من مفكرينا القدامى والأوروبيون ومن حاكاهم من مفكرينا المحدثين.
ما لم نعالج هذا المشكل لن نفهم نظرية الرب القرآنية ونظرية
الاستخلاف التي تجعل الإنسان له هذه القدرة التوجيهية والتي لولاها لما كان
للإيمان معنى لأن الإيمان هو الحل الدال على أن للإنسان إرادة حرة وحكمة راجحة
نسبيتين.
فيكون الإنسان بهما هو الشاهد على وجود صاحب الإرادة الحرة المطلقة
(فعال لما يريد) والحكمة الراجحة (أمار كما يريد) فيدرك حقيقة المسافة الفاصلة بين
الخالق والمخلوق. وهذه الخاصية تصيح على المؤمن والملحد.
ذلك أن الملحد لا ينفي حاجة وجود الوجود إلى تعليل وهو ما يعني أنه
يسلم بأنه يعادل العدم في الإمكان ولا ينفي حاجة كيف الموجود إلى تعليل وهو ما
يعني أنه يسلم بأنه يعادل الكيف الممكن غير الحاصل في الإمكان فيكذب، إذ يدعي أنه لا يؤمن بما وراء
ينسب إلى حل هذه المعضلة فيضطر إلى تأليه الطبيعة نفسها فيميز كما فعل سبينوزا بين
الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة وهو من ثم ليس ملحدا إلا بمعنى الشرك قرآنيا.
وبهذا المعنى فهمت أن القرآن لا يحتوي على دليل وجود الله بل ما يستدل
عليه هو عدم الشرك: لأن الملحد مثل المؤمن يميز بين وجهين في الوجود والموجود وجه
الأصل ووجه الفرع. فالنسبة بين الخالق والمخلوق عند المؤمن هي عين النسبة بين
الطابع والمطبوع عند الملحد.
والفرق الوحيد هو أن الملحد مؤمن بالصدفة العمياء أو السببية المضطرة
والمؤمن يؤمن بالنظام الهادف أو السببية الحرة. وكلاهما ينطلق من لغز الألغاز أعني
القدرة التوجيهية عند الإنسان: التمييز بين الجهات واجب ممتنع وممكن.
بالنسبة إلى المسلم لا يعني ذلك أن الأصل هو هذه القدرة الإنسانية
لأن نفس هذه القدرة تميز بين دلالتها عند الإنسان وهي نسبية إلى الموجود وكيف
الوجود الحاصلين في رؤيته لهما وليس إلى علة حصولهما في ذاتهما، ومعنى ذلك أن
المؤمن في الرؤية الإسلامية لم يعتمد حلا لهذا اللغز بإطلاقه وظنه كافيا لنفي الرب
وتريبب المربوب: فالإنسان يعلم أنه ليس خالق نفسه ولا آمرها رغم علمه أنه حر
الإرادة وراجع العقل إذا كان سويا.
وبهذا المعنى تفهم الخلافة: الإنسان من حيث هو إنسان خليفة لأنه
شهادة على أمر ممكن له نسبيا متضايف مع واجب للخالق بإطلاق: فالله فعال لما يريد
بحكمة راجحة، فيصبح النوس والعقل في الفلسفة تابعين للإرادة الحرة.
تلك هي ثروة المدرسة النقدية العربية. ولا فضل لي فيها إلى بيان ما
كان خفيا فيها إلى حد أن أصحابها لم تكن لهم الرؤية النسقية التي حاولت بيانها قدر
المستطاع منذ أن كتبت مفهوم السببية عند الخالي مع ما كلفني.
وفي الحقيقة أفهم جيدا أن تكون الكلفة ما كانت: فهي كانت موقفا يناقض
تمام المناقضة ما يفاخر به المتكلمون عن فكرنا الماضي، ولكن وهو الأخطر صارت شبه
تسفيه لأصحاب المشروعات من الجنسيين فالعلماني والإيماني جميعا إما توابع
لما نقضته المدرسة النقدية من حيث لا يلعمون أو لما نقضته أنا ببيان أنهم كلهم من
حيث لا يدرون هيغليون وماركسيون: ويكفي دليلا إدمانهم على التثليث.
ولا يمكن القول بالتثليث ـ بصرف النظر عن الدلالة الدينية عند هيغل
والدلالة المادية عند ماركس ـ من دون ممضوغة مثلث الدلالة: بالمطابقة والتضمن
واللزوم. فما أن تسقط المطابقة لم يبق معنى للتضمن ولا للزوم. ذلك أن المضمر المنطقي هو عدم فهم لغز علاقة
المقدم بالتالي في اللزوم. فنقيض التالي يفيد نقيض المقدم من حيث علاقة اللزوم إذا أخذناها موقفين قضويين. لكن إذا نظرنا في علاقة القضيتين في ذاتهما استحال ذلك.
فلا يمكن للكذب أن ينتج الصدق في هذه
الحالة لأنه لم يعد متعلقا باللزوم في اتجاه واحد بل هو تلازم بمعنى أنه يصح طردا
وعكسا: من نوع وفقط إذا أي التلازم بين المقدم والتالي.
الفلسفة اعترفت في الأخير بأن العلم الإنساني ليس مطابقا ولا خاصة محيطا وأن العمل الإنساني مطابق ولا خاصة تاما. فعادت إلى لغز الألغاز: من أين للإنسان القدرة على التوجيه إلى حد اعتبار الوجود نفسه مساويا في الإمكان للعدم؟ وكيف الموجود الحاصل مساويا للموجود الممكن؟
ولا يحصل ذلك أبدا إذا تجاوزنا التقدير الذهني. ففي الكلام على ما
يتعالى عليه أي قانون الوجود والموجود وليس قانون المصنوع الفرضي من المقدرات
استحال أن أزعم أن هذا القانون هو عين القانون الذي يشترطه التخاطب بين البشر حول
الأمر في نفسه. فالمنطق الذي هو قانون شروط التخاطب بين البشر وأخلاقه وليس قانون
الوجود حصولا بديلا من العدم والموجود كيفا بدلا من غيره إلا بافتراض التطابق بين
الخطاب وموضوعه. ولا شيء يثبت ذلك.
فالخطاب يتعلق بالمواقف القضوية التي تبدو التجربة مؤيدة لها لكنها
لا تثبتها إثباتا مطلقا بدليل تغيرها وتلك هي علة تاريخية العلم الإنساني. فيكون
التطابق منشودا ومطلوبا وليس حقيقة حاصلة.
وذلك هو معنى الحل الذي اقترحته: عكس منهج قيس الغائب على الشاهد في
العلم وطبعا وبصورة أكثر ضرورة قلب قراءة القرآن بعكس قيس الغيب على الشهادة: فليس
كمثله شيء وما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر..
ذانك هما المعياران في الحكم على ما يبدو وكأن الله يقيس نفسه في
القرآن على الإنسان ويقيس الآخرة على الدنيا. لكن علماء الملة يغفلون عنهما
فيخلطون بين عرض القرآن لرؤية الإنسان لربه وحقيقة ربه.
وأخيرا فيكفي أن يقرأ المرء الآية 110 من الإسراء حتى يعلم حقيقة أسماء
الله التي تصوروها أسماءه رغم أنها تنسبها إليه. لكنها نسبة تكرم لما يدعوه بها الإنسان فتكون في الحقيقة هي أسماء الصفات التي يراه عليها فيدعوه بها ومن ثم فهي أنواع
الدعاء التي يراه بها الإنسان ويرى علاقته به.
ويمكن اعتبار هذه العلل كافية لفهم تجنبي مناقشة الكثير ممن لا
يعلمون أن محاولات قيس المدخل إلى فهم الرسالة الخاتمة قابل لأن يعتمد فيه على ما
يفترض المطابقة والإحاطة في العلم الإنساني والمطابقة والتمام في العمل الإنساني
ممكنين.
وكل محاولة لتطبيق الفكرين الفلسفي والديني الغربي أو الشرقي من دون
بيان استحالة ذلك يكون في الحقيقة مواصلا الخلط بين نوعي الربوبية: الخالقة والآمرة في القرآن أي المستخلف والمخلوقة والمأمورة أي الخليقة التي تتأله فتزعم بلوغ مرحلة الكشف عن
العيب إما بالعلم أو بالتصوف: وكلاهما دجل من منظور القرآن. فهما إما مسيحية تؤله
عيسى أو هندوسية تؤله الطبيعة وذلك هو جوهر الرومانسية بشهادة هاينة في كلامه على طابعها الكاثوليكي، ما يعني أن نيتشة وأستاذه كلاهما متكثلكان
ولا يدريان لأنهما رومانسيان وهما هيغليان أيضا من حيث لا يعلمان لأن الجمع بين
المصالحة مع الطبيعة التعين في الإنسان وفي التاريخ هما جوهر الهغيلية وهو ما يسميه
السلم الإلهية: تنفي وجود الله خارج وعي الإنسان وتنفي وجود عالم يتعالى على عالم
الشهادة واحتكام
متعال على أحكام التاريخ وذلك
هو جوهر المادية الصرفة برعم زعم الروحية الهيغلية لوحدة الوجود السبينوزية.. فماركس
في هذه الحالة أصدق منه بالعودة إلى سبينوزا والتخلي عن التذويت الهيغلي.
والملحد المادي أصدق من الباطني الشيعي لأن الدين عنده ليس إلا كما يراه فولتار بوليس العامة للسيطرة عليها واستعبادها
لتأليه الدجالين من الأيمة والمتصوفة والمرجعيات وهم أسفه خلق الله.
ملاحظة:
عندما تنتأ الخفايا تتجلى المضمرات والنوايا فنكتشف سر ما حال دون
المسلمين وتطبيق استراتيجية القرآن الكريم رغم أن المدرسة النقدية حاولت صوغها
بقدر إمكانها في عصرها، حيث كانت علوم الملة الخمية مبنية على نقيضها.
نذرت نفسي لإخراج هذه المضمرات ولم أجزم بأن النوايا كانت سيئة لكنها
لم تكن دارية بأنها كانت تجانب الصواب لتقبل على بينة أو ترفض على بينة
الاستراتيجية التي
لا يمكن أن تتواقف مع رؤية للربوبية مماثلة لرؤية اليونان من المساس للب القرآن.
فرب القرآن فعال لما يريد ورحمان بالعالم والعبيد وناه عما لا يفيد تكريم الإنسان
الخليفة الذي
لم يخلق مع الجان إلا لعبادة الرحمن رب مريد ومختار ولا يخضع للضرورة السببية بل
سبيبته هي سببية الحرية والإنسان له منها نصيب وبه يتعير إنسانيته: مريد ومختار
ليثبت جدارته بالاستخلاف.