أضحى لزاما تعريف المعاني والأفكار
في زمن أصبح فيه عرض الحلول وكأنه رأي مقدس، لا يتحاور الناس وإنما كل يرى أن ما
اقترحه متكامل رغم أنه بلا دراسة وربما ليس في اختصاصه، ولا آليات أو منفذين، هو
لا شك استنارة يظنها البعض في طرح يؤيده البعض الآخر ممن يقلب صفحة لينسى ما قرأ.
هذا الموضوع مهم
جدا بعد تفكك
الأمة عبر القرون، وتمزق الدولة في كل تعاريفها، ونحن نشاهد الأثر
الواضح في أمتنا ما بين التقسيمات القومية والتقسيمات الطائفية والصراع غير المبرر
بتعالي رفض الحراك الفكري والتعدد والتنوع الإيجابي والخلط الملتبس بين معنى
الدولة والأمة ونقض غزل الاثنين بالجهل، ومنظومة تنمية التخلف التي جعلتنا مفضوحين
فعلا بكم التخلف المدني والانحدار الحضاري بعد أن سترنا ردحا بورقة التوت التي للأسف
كانت دكتاتورية وطغيانا ومصادرة لأهلية الشعب وحقوق الإنسان.
إن أي إنسان
يمتلك القناعة بأنه يملك الحقيقة، فهو في الواقع يمتلك حقيقة إدراكه التي هي إدراك
نسبي للبيئة الإنسانية المتعددة المساقط على أرض الواقع، لكن هذا لا يعني أنه خطأ
أو يعطيه الصواب بالمطلق، فالتفكير السليم هو الذي تدعمه سنن الكون ويستطيع
التفاعل مع التعدد الفكري والدرجات في المدنية من خلال إيجاد واقع تعايش طبيعي
وليس تكيفا مضغوطا، فالإنسانية لها واجبات رئيسة مما نراه من مجمل مخرجات
المنظومات الإنسانية، وهي تشترك بها كقيمة ترتفع وتنخفض وفقها ألا وهي الإعمار
والكرامة الإنسانية أو الآدمية وفق التعبير القرآني.
معظم من ينادي
بالأيدولوجيات ويقدسها، سواء المنسوبة للدين أو
الأفكار الأرضية الشائعة، تجده عند
تطبيقها يفرغها، لتتحول بشكل وآخر إلى الاستبداد، لأنها لم تتجذر في الواقع كبذرة
وإنما أضحت شجرة هرِمة في الخيال لا تجد وسيلة لغرسها في الواقع إلا بخيال
معتنقيها، وإن مظاهر اتباعها في الواقع تعاني من انفصام بين الفكرة والتطبيق إلى
أن تصبح الفكرة مجرد عادات أو تقاليد وطقوس لها زمانها ومكانها وتنتهي بمغادرة هذا
الزمان والمكان.
حتى الإسلام وهو
المتميز عن الأديان بشريعته ذات المثاني، وثقافة مجتمع لا تقتضي أن يكون كله مسلّما
أو مؤمنا بأي دين يعيش أتباعه كغيره هذا الانفصام؛ لأن من يدعو إليه لا يسمع ولا
يقرأ أي محاولة لتجديد الخطاب واستقراء الواقع للاستنباط من المثاني، ويغرق في
الرعوية أو مؤسسة دينية أصلا لا وجود لها في الإسلام، وإنما يعيشون في تقديس للماضي
وبكل إيجابيات أضحت تاريخا، أو سلبيات ما زالت متفاعلة تهدر طاقات الناس وتعيق
اتحادهم أو فهمهم لصحيح الرسالة، التي هي رسالة لهذا الجيل كما هي رسالة لأجدادهم
لكن منظومتهم العقلية استعمرت بالخرافات والخوارق واستحالة إدراك القدوات
التاريخية أو الوصول إلى مكانتهم وعلمهم بمنطق محبط.
أي عقيدة أو فكر
لا يمكن أن يستمر في قيادة المجتمع ما لم يحوِ أدوات تحديثه، والإسلام فيه أدوات
التحديث لكنها أُهملت بل أصبح الحديث عنها منكرا عند الغالب من المسلمين أنفسهم.
بناء الأمة:
الأمة ما تميزت بثقافة ومنهج معين وتجانس وتماه رغم التعدد
والتنوع، هذا ما أعرفها به في عصرنا الحديث وواقعنا، وإن كان تعريف الأمة يمكن أن
ينطبق على شخص واحد كنبي الله إبراهيم، فهو لو دققنا فإنه ينطبق عليه تعريف الأمة الذي عرفناها به.
والأمة شعوب متعددة أو شعب واحد، والثقافة الاجتماعية مهمة في
هذا، حيث تجتمع عليها الأمم وإن كانت متعددة الأعراق والعقائد، لكنها متجانسة في
القبول لبعضها معاضدة متصالحة مع نفسها يجمعها السلوك الظاهر لغيرها، وإن كانت
خصوصيات في الطقوس والملبس والمأكل لكل فرد أو مجموعة فيها، تتقدم إلى المجتمع من
خلال أعرافها الخاصة لتصب في المنتج العام لها.
فهي علاقة فكرية مدنية متصالحة منتجة متعاونة، أما إن لم تك
منسجمة حتى لو كانت في أرض واحدة وتحت حكم واحد فهي ليست بأمة وإنما أطياف قابلة
للصراع والفتنة والانعزال عن بعضها، فلا مصلحة تربطها بجمعها إن لم تك خصوصياتها
الداخلية مفهومة وتجد مشاركة وتعضيدا وحماية من المجموع. ويساعد في هذا البناء
التصور المنقول للأجيال ما لم يمزقه الجهل والخوف على الرعوية من تبديل
المعتقدات،
وهذا سيجعل البعض يخلق حواجز مع أبناء الأمة وتتطور للكراهية والانعزال وفقدان
الانتماء وربما تتولد حالة من الكراهية مؤذية للحياة المدنية.
بناء الأمة هو بناء تكاملي باحترام التعدد والقبول بقرارات
المختلف؛ التي بدورها تتفهم
التنوع والاختلاف بالمشاركة والخبرة، وأن لا تجري أي
توسيع لمتطلبات الرعوية أو التميّز والأنا بشكل مبالغ فيه، يجعل هذا الجزء صغر أم
كبر وكأنه قطعة ميكانو متخلخلة لا ينتقل من خلالها السائل اللمفاوي للحياة في
الأمة. حالة انتماء عقلية وعاطفية إذن ترسخ في التربية البيتية وتقدس في دور
العبادة والإرشاد والندوات والاحتفالات والمشاركة بنمط جامع أو مقبول؛ يميز الأمة
ككل عن طريق الإفهام والفاعلية المشتركة والاندماج والإعلام ووضع مشتركات في
الآداب والفنون.
عندما نتحدث عن الأمة فإننا نتحدث
عن محتوى مهم لإقامة الدولة وبغيرها قد تكون هياكل دولة بيد أنها سلطات، وربما من
المتعارف عليه أن نتجه بتفكيرنا إلى الحكام عندما نتحدث عن الدولة، وإلى العقيدة
عندما نتحدث عن الأمة، أو نمط حياة يتضح في الغرب، ويبدو عندنا في العادات
والتقاليد التي هي عماد المظهر الثقافي، لكن الحقيقة أن الأمة من الفرد والفرد من
الأمة؛ هذه العلاقة التي تشكل المعنى الرصين مع كل ما ذكر من تفاصيل فكرية أو
عقدية، الأمر يبدو معقدا في الوصف لكنه يفتح مجراه عمليا مع ما سنتحدث عنه في
الجزء الثاني حول الدولة.